الفلسفة والإلحاد: 1- جون بول سارتر


محمد الهلالي
2021 / 8 / 29 - 06:26     

"تطرق سارتر (1905-1980) لمشكلة وجود الله في روايته "La nausée" (تُرجِمتْ إلى العربية تحت عنوان "الغثيان"، ترجمة سهيل إدريس، دار الآداب، 2004). فبطل هذه الرواية يشرح "حالة الابتهاج الفظيع التي انكشفت له فيها ماهية الوجود"، فهذا البطل يرى "أن كل الموجودات لا تأتي من لا-مكان، ولا تذهب إلى لا-مكان، توجد فجأة، ثم لا تعود lوجودة فجأة"(الغثيان، 168).
حاول الفلاسفة، طيلة خمس, وعشرين قرنا على الأقل، فهْمَ الوجود بكيفية أو بأخرى، على طريقة بارمنيدس Parménide، أو على الطريقة العبرانية. لقد بحثوا عن سبب وجود العالم ووجود الطبيعة في العالم أو في وجود ليس هو العالم. تخلى سارتر عن هذا البحث. لم يقبل كون العالم يملك سببَ وجوده في ذاته، ورفض أنطولوجيا بارمنيدس وسبينوزا والتي هي أنطولوجيا الإلحاد المادي. ورفض أيضا الأنطولوجيا العبرانية التي هي مذهب التوحيد. فلم يعد هناك حلٌ آخر. يتأرجح سارتر ما بين هذين الانطولوجيتين. يؤكد ضد بارمنيدس على أن وجود العالم مسألة إمكان وليس مسألة ضرورة. ويؤكد ضد الأنطولوجيا العبرانية (ومع بارمنيدس) أنه ليس من الممكن أن لا يوجد العالم، أي أنه يؤكد ضرورة وجوده.
وبما أنه لم يتمكن من تبني موقف ثابت ما بين هذين الأنطولوجيتين المتناقضتين فإنه اختار أن يستقر في التأرجح (...) يقول في هذا الصدد: "الوجود انثناء"، (الغثيان، 162)، "الوجود ضَعفٌ"، (الغثيان، 169). لكن التجربة الأساسية تبين أنه لو لم يكن للعالم سبب ليوجد، لا في ذاته ولا في موجود آخر متمايز عنه، فإنه سيكون "زائدا عن اللزوم"، (الغثيان، 163 و167). "سيكون زائدا عن اللزوم بالنسبة للأبدية"، (الغثيان، 163). إن "وجود العالم عبثي"، (الغثيان، 163، 164). "فالوجود في كل مكان، إلى ما لا نهاية وجود زائد عن اللزوم، دائما وفي كل مكان"، (الغثيان، 168).
إذا استبعدنا التفسيرين الوحيدين الممكنين لفهم وجود العالم، فلن نجد ما يُمكننا من فهم الوجود، وبالتالي سيكون وجود العالم زائدا عن اللزوم، سيكون عبثيا. إذا استبعدنا مذهب التوحيد العبراني ومذهب الأحادية الذي يعود لبارمنيدس فلن يكون لدينا حل لهذه المسألة. وبالتالي سيكون على العالم، في هذه الحالة، ألا يُوجد. لكنه موجود. إذن فوجوده زائد عن اللزوم. إذا كان الإلحاد موقفا صحيحا، وإذا كان مذهب الأحادية المادي، الذي قال به بارمنيدس خاطئا فينبغي ألا يوجد العالم.
إذا قمنا بالاستدلال بطريقة صحيحة، فسينتج عن استدلالنا أنه لا يمكن تبني الإلحاد واستبعاد التوجه الأحادي لبارمنيدس في نفس الوقت. بما أن العالم موجود فعليا فينبغي إما أن بارمنيدس على صواب، وإما أن الانطولوجيا العبرانية على صواب. لكن سارتر يرفض التفسيرين معا. إنه ينطلق قبليا من مسلمة مفادها أن الإلحاد حقيقة. لكنه لا يحافظ على أحادية بارمنيدس، ويتوصل إلى النتيجة القائلة إن الكون زائد عن اللزوم. إذا كانت برهنتنا سليمة فلا بد أن نتوصل إلى أن أطروحة الإلحاد هي الزائدة عن اللزوم، ما دام الكون موجودا.
إن أطروحة الإلحاد المطلقة وأطروحة وجود الكون مسألتان متناقضتان فيما بينهما. ينبغي اختيار واحدة منهما فقط. لا يصرح سارتر بأن الكون غير موجود. وفضلا عن ذلك، حتى وإن لو يوجد الكون، حتى وإن كان الكون هو مجرد تمثلي الخاص عنه، فسيظل هناك وجود الذات التي تفكر في الكون، هذا الوجود ذاته سيكون هو أيضا زائدا عن اللزوم، بما أن الذات التي تفكر في العالم ليست هي الله في فلسفة سارتر، ولم تُخلَق من طرفه أيضا. يظل سارتر إذن ما بين التفسيرين، وعوض إما أن ينكر وجود العالم ووجوده الخاص، وهو ما يستطيع فعله، وإما أن يُنكر حقيقة الإلحاد، وهو ما لا يريده، فإنه يكتفي بالتأكيد على أن الكون الموجود هو زائد عن اللزوم.
لن يتكلف سارتر عناء دراسة العالم والطبيعة، إنه يمثل هذا النوع من الفيلسوف الحديث الذي ظلت علومُ الطبيعة والأنثروفيزياء والفيزياء والكيمياء والبيوكيمياء والبيولوجيا خارج أفق فكره (...) إن منطلق هذه الفلسفة الحديثة لم يعد هو العالم والطبيعة. إن مُنطلقها، الذي تم تحديده اعتباطيا، هو الكوجيطو الديكارتي: "إن مُنطلقنا هو ذاتية الفرد، ويعود ذلك لأسباب فلسفية محضة... لا يُمكن أن توجد حقيقة أخرى، في هذا المنطلق، إلا هذه الحقيقة: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، هذه هي الحقيقة المطلقة للوعي الذي بلغ ذاته. كل نظرية تتعامل مع الإنسان خارج هذه اللحظة التي يبلغ فيها ذاته هي قبل كل شيء نظرية تلغي الحقيقة، خارج هذا الكوجيطو الديكارتي، كل الأشياء تصبح مُحتملة الوجود فقط"، (سارتر، الوجودية نزعة إنسانية، ص 63).
حتى وإن كانت المثالية صائبة، فلا بد من وجود الذات التي تفكر في العالم. وفي هذه الحالة، لا وجود إلا لفرضيتين ممكنتين لازمتا تاريخ الفلسفة كله: إما أن الذات المفكرة موجودة، دون أن تعرف ذلك، لأنها نَسيت ذلك، بسبب سقطة ما، وتكون متماهية مع الأنا المطلقة. إنها المطلق، وهي لم تخلق (وهو ما سنجده في فلسفة أفلوطين وفيخته). وإما أن الذات الإنسانية المفكرة ليست هي الوجود المطلق، وبالتالي فهي تابعة، من خلال الخلق، لذات أخرى هي الوجود المطلق: وهذه هي الأطروحة العبرانية حول الإنسان، والتي تتطابق مع العقيدة العبرانية حول العالم. لكن سارتر يرفص التقليدين معا. وينتج عن ذلك أن الأنا المفكرة، مثلها في ذلك مثل العالم، زائدة عن اللزوم.
كتب سارتر حول الوجودية ما يلي: "ليست الوجودية سوى جهد لاستخلاص كل نتائج موقف ملحد منسجم"، (ص 94). وبالفعل، فلقد تم التسليم بصحة اطروحة الإلحاد قبليا، ثم تمت عملية استخلاص جميع النتائج المتعلقة بها، أو هذا هو الاعتقاد السائد بهذا الشأن على الأقل. ويضيف سارتر: "ليست الوجودية هي ذلك الإلحاد الذي يجعلها تنهك نفسها للبرهنة على أن الله غير موجود، وإنما تصرح، بالأحرى، أنه حتى وإن كان الله موجودا فلن يغير ذلك من الأمر شيئا. لكننا نعتقد أن المشكل ليس هو وجود الله"، (ص 95).
لم تنهك فلسفة سارتر نفسها بالفعل من أجل إثبات صحة الإلحاد فلسفيا وعقلانيا. لقد تمّ التسليم بالإلحاد دون معالجة المشاكل التي يطرحها وجود العالم ولا المشاكل التي تطرحها الطبيعة. إنه إلحاد غير واقعي. إن الحجج العقلانية الوحيدة التي نجدها في نصوص سارتر الفلسفية، والتي تبرر الإلحاد هي تلك التي ترتكز على جهل تام بماهية مذهب التوحيد العبراني وما تعنيه التصورات اللاهوتية اليهودية والمسيحية في هذا الصدد. لم يتعامل سارتر مع المسيحية كما هي، وإنما تعامل معها انطلاقا من عدم فهمه لها، لذلك قدم نقدا للتفسيرات الخاطئة التي كونها هو نفسه عن المسيحية. كما أنه لم يهتم بدراسة الطبيعة والعالم. لم يكلف نفسه عناء الفحص الجدي لهذه العقيدة التي ألقى بها جانبا دون معرفتها. وهذه هي الكيفية، على سبيل المثال في هذا السياق، التي فهم من خلالها سارتر فكرة الخلق: "يمكن أن نتصور فكرة الخلق شريطة أن ينتزع الوجود المخلوق نفسَه من الخالق لينغلق على نفسه ويتحمل مسؤولية وجوده. وبهذا المعنى يوجد الكتابُ ضد مُؤلِفه. لكن إذا كان ينبغي أن يستمر فعل الخلق إلى ما لا نهاية، إذا كان الوجود المخلوق يحظى بالدعم حتى في جزيئياته، إذا لم تكن له أية استقلالية خاصة به، إذا كان مجرد عدم، فإن هذا المخلوق لن يتميز بالمرة عن خالقه، وبالتالي فإنه مُستوعبٌ بداخله. نحن أمامَ تعالٍ خاطئ. ولا يمكن للخالق أن يتوهم خروجه من ذاتيته"، (سارتر، الوجود والعدم، ص 25). ويضيف سارتر: "لهذا السبب يجد مذهب ديكارت بخصوص الجوهر اكتماله المنطقي في مذهب سبينوزا".
لو أن سارتر كلف نفسه عناء دراسة ما تعنيه فكرة الخلق اليهودية والمسيحية، لو أنه اطلع على ما كتبه بهذا الصدد القديس بولس أو القديس توما الإكويني أو موريس بلوندل، فربما كان سيفهم أنه يمكن تصور فكرة الخلق دون أن ينتزع الوجودُ المخلوق نفسه من الخالق من أجل "أن ينغلق على ذاته". إن فكرة "انتزاع المخلوق نفسه من الخالق" هي فكرة عبثية بالنسبة للوجود المخلوق (...).
إن الوجود المخلوق يشبهُ الكتاب المُؤَلّف الذي لا يوجدُ ضد مؤلفِه. من الممكن أن يكون سارتر قد فهم أن الوجود المخلوق يتمتع، بالرغم من هذه التبعية الأنطولوجية الراديكالية، باستقلالية وبوعي خاصين به، يزداد حجمهما كلما تم الصعود في تاريخ الخلق. كان بإمكانه أن يرى أن الوجود المخلوق قد اكتسب في الأخير شَرفَ أن يكون عِلة، حسب تعبير القديس توما الإكويني، وأن يرى أن مُحايثة فعل الخلق الإلهي للوجود المخلوق لا يهدم استقلالية هذا الأخير وإنما يستدعيها. إن محايثة فعل الخلق للوجود المخلوق لا يؤدي بالمرة -عكس ما يقوله سارتر- إلى إلغاء التمييز ما بين الخالق والمخلوق. لقد تمّ عرض كل هذه الشروحات منذ رسائل بولس وموريس بلوندل، مرورا بآباء الكنيسة اليونانيين والرومانيين، وفقهاء القرون الوسطى في العديد من المؤلفات. لكن سارتر ارتأى أنه من غير المفيد الاطلاع على تلك الشروحات، وأنه يكفيه نقد مذهب لم يدرسه ولم يعرفه.
طوّر سارتر في كتابه "الوجود والعدم" الموضوعات التي شرع في دراستها في رواية "الغثيان". وشرع كالعادة بإثباتات وتأكيدات دون تبرير استقرائي. لقد أكد على الإمكان الجذري للوجود: "الوجود في ذاته موجود. وهذا يعني أن الوجود لا يمكنه أن يوجد عبر الاشتقاق من المُمكن، أو من خلال إرجاعه للضرورة (...) فالوجود المدهش لا يمكنه أن يُشتق من وجود آخر باعتباره موجودا. وهذا هو ما يُعرف بإمكان الوجود في ذاته. لكن الوجود في ذاته لا يمكنه أيضا أن يشتق من مُمكن... الوجود في ذاته ليس لا ممكنا ولا مستحيلا، إنه موجود. وهذا ما سوف يعبرُ عنه الوعيُ -بكلمات تنتمي للنزعة الإحيائية- بالقول إنه زائد عن اللزوم، أي أنه لا يمكنه أن يشتقه من اللاشيء ولا من وجود آخر، ولا من ممكن، ولا من قانون ضروري. فبما ان الوجود في ذاته غير مخلوق، وليس له سبب ليوجد، ولا علاقة له مع أي وجود آخر، فإنه زائد عن اللزوم بالنسبة للخلود"، (الوجود والعدم، ص 34). ويعيد سارتر التأكيد في خلاصته على أطروحته: "الوجود موجود، بدون سبب وبدون ضرورة، بل إن تعريف الوجود ذاته يقدم لنا إمكانه الأصلي... إن القضايا المتعلقة بأصل الوجود أو المتعلقة بأصل العالم هي قضايا لا معنى لها"، (الوجود والعدم، ص 713) (...).
لنلاحظ، فيما يتعلق بهذا النص، أن سارتر يسلم –كبداهة وبدون تحليل نقدي مسبق- بمذهب أحادية الوجود: أي أنه لا وجود إلا لنوع واحد من الوجود، وهو وجود العالم. وهو ما يشكل مُفترضُ الإلحاد تحديدا.

المرجع:
- Claude Tresmontant, Les problèmes de l’athéisme, éditions Seuil, 1972.