طه حسين رائد من رواد التنوير


فهد المضحكي
2021 / 8 / 28 - 10:30     

طه حسين رائد من رواد التنوير، في كتابه (قراءات في الفكر العربي الإسلامي) تحدث الباحث العراقي كامل شيَّاع عن مكانة طه حسين الفكرية التي هي موضع إجماع الداني والقاصي. وإن طه حسين (1889 - 1973) الذي سجل في الجزء الثالث من سيرته الذاتية (الأيام) استياءه لعدم إشارة سعد زغلول اليه كواحدٍ من أعمدة يقظة مصر الحديثة، حين اكتفى الأخير، في كلمة له ألقاها في ذكرى وفاة الشيخ المصلح محمد عبدو، بذكر ثلاثة أسماء فقط: محمد عبدو «الذي أحيا الحرية العقلية»، مصطفى كامل «الذي أذكى جذوة الحرية السياسية»، وقاسم أمين «الذي أحيا الحرية الاجتماعية». فمن المؤكد، كما يقول شيّاع، أن طه حسين ما كان يحتاج آنذاك ولا في أي فترة لاحقة الى الاعتراف بمكانته الفكرية كأحد أبرز رموز النهضة الحديثة في مصر والعالم العربي. بل إن شهرته التي طبقت الآفاق جعلت أديبًا من وزن الفرنسي أندريه جيد يرشحه، عام 1949 لنيل جائزة نوبل للآداب. تناول شيَّاع بالدراسة والبحث سيرة مفكرٍ مجددٍ مثل طه حسين الذي فرض حضوره المتميز على الحياة الثقافية والعلمية والسياسية في مصر طيلة نصف قرن. ألم يكن إيمانه بالدور التنويري لأهل العلم والثقافة وراء طرح كتابه الإشكالي «في الشعر الجاهلي» الذي دشن فيه قراءة التراث بمنهج النظر العقلي؟ ألم يكن هذا الإيمان أيضًا وراء تمسكه بإرساء تقاليد جامعية راقية وإسهامه في تأسيس جامعتي الإسكندرية وعين شمس، ثم إقراره مجانية التعليم الذي اعتبره حقًا للجميع؟ ولعل فضول البحث عن تفاصيل إضافية عن حياة عميد الأدب العربي وشهادة معاصريه فيه، هو الذي ساق ابراهيم عبدالعزيز في كتابه «رسائل طه حسين» مثل ما ساق قبل ذلك في كتابه «أوراق مجهولة لطه حسين» و«أيام العمر: رسائل خاصة بين طه حسين وتوفيق الحكيم».

2ـ في مقدمة الكتاب، يشير نجيب محفوظ الى أنه تضمن «وثائق وأوراق ومراسلات طه حسين مع نجوم عصره في الأدب والفن والسياسية والقانون»، وأنه يسهم في إضاءة شخصية الرجل، «وتقربها إلينا في جميع.. صورها الإنسانية والنفسية، ويجعلنا نعيش مع رجل ملأ عصره ولا يزال يثير الجدل بعد رحيله...»، نظرة أولى الى أسماء الذين تبادلوا الرسائل مع عميد الأدب العربي، تكفي للتأكد من صحة ملاحظة محفوظ، فمن بين السياسيين نقرأ رسائل شخصية من مصطفى النحاس وأحمد نجيب الهلالي اللذين ترأسا الوزارة المصرية عن حزب الوفد. ويتحدث النحاس عن كتاب «على هامش السيرة» قائلاً: «أحدثت في الأدب العربي ألوانًا من الفن القوي» في حين اقترح طه حسين على الهلالي الذي كان وزيرًا للمعارف في الثلاثينات بأن تكون مدرسة المعلمين العليا مختلطة بين الجنسين، على غرار ما قامت به وزارة المعارف الفرنسية.

3ـ عندما كتب طه حسين عن الحرية قائلاً: «الحرية تحمل الأحرار أعباء ثقالاً» كان يلخص، كما تضمن تفسير الباحث المصري الشريف منجود في أحد إعداد مجلة إبداع ما مر به، وما يمر به كل مصلح ثوري في المجتمع، إذ لخص حياته المليئة بالثورة الدائمة، التي اجتاحت الفكر العربي، الراكن في ذكريات شاخت وتقاليد أماتته وعطلته فترات عديدة، حتى خرج طه حسين صارخًا في وجه الخاصة فبل العامة، ليواجه بعد ذلك صراعًا مريرًا طيله حياته وأعباء طه حسين وغيره ممن طرقوا باب المعرفة والثقافة، هي أعباء الوصول إلى المجتمع وليس العزلة وترك الجهل ينهش في ضمير الأمة، ودراسة عقبات النهضة والإصلاح، وما يحتاجه هذا المجتمع للنهوض. فدور المثقف لديه أن «يفهم حياة الناس من حوله، ويعرف موضع حاجتهم إلى الانتفاع بالثقافة. فالمثقف الذي يعيش بين الناس ولا يفهم حياتهم ولا يتعمق في نظمهم الاجتماعية والسياسية، ولا يلاحظ نشاطهم اليومي عاجز كل العجز أن ينفعهم حق النفع.

4- وأن يكون لهم معلمًا وهاديًا للخير». يمثل طه حسين صورة النهضة في الثقافة العربية، كونه رائد العقلانية والداعي إليها، فحين نطالع أفكار طه حسين من خلال ما كتب منذ الفترة المبكرة من حياته وحتى رحيله، نجده نموذجًا للمثقف العقلاني، الذي يسعى دائمًا الى ترسيخ مبدأ النقد الذاتي الذي يحيله دائمًا الى نقد الآخر، ومنه يستخرج المعرفة وتتكشف له الحقيقة، ونقد الذات عند طه حسين هو نقد التراث الذي بات حبيسًا لا يستطيع أحد الاقتراب منه.

5ـ وربما هذه النقطة التي انطلق منها هي ما جعلته الأنموذج في تلك المرحلة وما تلاها وحتى يومنا هذا. استطاع كذلك أن يكتشف لنا معايير النهضة، وإذا ما استعان بالغرب لتوضيح تلك المعايير فإنما يستعين بواقع هو تقدم الغرب أمام تأخر العرب /‏ المسلمين ولم يعبأ بالتابوهات ولا بتضخم الذات التي كان عليها مفكرو عصره، فمن العقل نقد الذات التي بالتبعية سوف تتطور تطورًا يعظم من شأنها، ربما كانت تلك هي الرؤية الخالدة التي أقامها طه حسين وسعى من أجلها، وصار أحد روادها القلائل الذين تنتسب اليهم النهضة العربية، فاذا كان الإمام محمد عبدو قد بدأ الطريق وأكمله تلاميذه (قاسم أمين - سعد وفتحي زغلول - لطفي السيد)، فإن طه حسين قد سبقهم الى العقل، وصار به المثقف الذي يملك مفاتيح العقل، يبحث به عن الوجود الحر دون قيود او شروط دون انصياع او خضوع لسلطة ما، فهو اذا طلب الثورة فعل، واذا حاربته الثورة المضادة صمد حتى يتم ثورته، وظهر عليهم بأفكاره التي تصبح فيما بعد ميراث العقل البشري، الذي تتوارثه الأجيال الصالحة أبناء الثورة الحقيقية، يسيء الى تحقيق ذاته أمام تحد ضخم يواجهه كي يصل إلى عتبات التقدم الحقيقي، ويواكب العصر الحديث وما فيه من إبداعات واكتشافات، وكم هو صعب أن تجد مثقغًا ثوريًا في ظل مجتمع تسيطر عليه العادات والتقاليد، وتحتويه رؤية عقائدية جامدة تحارب الرأي الآخر الذي يخالفها، وبجانب هذا ما أصاب التراث القديم ومازال متصلاً بنا في الحاضر - معتقدات غيبية سعت إلى تحطيم العقل وتهميشه، وهذا هو السبب الأساسي في تأخرنا والركون الى اللاوعي، وهذا الوسط لا يساعد أبدًا على البحث والتفكير.

6ـ عاش طه حسين في فترة من أهم فترات مصر الليبرالية، حيث نشأة الروح القومية، والأحزاب السياسية المعاصرة، وروح النهضة المنطلقة مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتحول مصر الليبرالي بعد ثورة 1919. وخروج المرأة إلى الشارع، وانتشار الجرائد والمطابع ودستور 1923، وغير ذلك، فقد كانت تلك الفترة بمثابة فتح جديد لمصر على يد كثيرين من أبنائها تلاميذ الإمام محمد عبدو. لقد مارس طه حسين مع عصره تلك النهضة الخاصة، وسعى أن يكون جزءًا من تلك الثورة، حتى صار نموذجا للمثقف الثوري الذي يتجلى في مبحثه الشهير(في الشعر الجاهلي) الذي نال به شهرة عالمية، كما نال به أذى وإقصاء وتكفير من جانب الثورة المضادة.