أمريكا الجنوبية، حركة شعبية مُستمرة بمواجهة دكتاتوريات راسخة


الطاهر المعز
2021 / 8 / 27 - 22:59     

أمريكا الجنوبية بين الحركة الشعبية ورُسُوخ الدّكتاتوريات المدعومة أمريكيا
تغيير الرّؤساء الأمريكيين واستقرار أهداف الإمبريالية الأمريكية

تُشكّل هذه الفقرات جُزْءًا من مجموعة مقالات عن الوضع في أمريكا الجنوبية، التي تشهد احتجاجات شعبية منذ الرّبع الأخير من سنة 2019، وحققت النقابات والأحزاب التقدمية ومنظمات السّكّان الأصلِيِّين بعض التقدّم، في تشيلي وبوليفيا، حيث فشل الإنقلاب المدعوم أمريكيا، بعد سنة واحدة، وفي بيرو، وغيرها، كما زعزعت الحركة الشعبية نظام بوليفيا الذي قد يخسر مواقع هامة، خلال انتخابات سنة 2022...
تشير هذه الورقة إلى هيمنة الإمبريالية الأمريكية على وَسَط وجنوب القارّة، وفقرة خاصة بما سُمِّيَت "عملية كوندور"، سيئة الصّيت، وتُركّز على الوضع في كولومبيا، مخلب الإمبريالية الأمريكية، والعلاقات المُتنامية للكيان الصهيوني مع الأنظمة اليمينية المتطرفة، وخاصة مع نظام كولومبيا...

توطئة:
يقوم الإقتصاد الرأسمالي، أو ما يُسمّى "اقتصاد السُّوق" على احتكار المواد الأولية والسلع الأساسية والتحكم في شبكات الإنتاج والتوزيع، والمُضارَبَة، بهدف مراكمة الرّبْح والثّروة ما يزيد من توسيع الفجوة ومن التفاوت بين مُنتجي الثروة ومُحْتَكِريها، وتريد شركات أمريكا الشمالية احتكار ثروات أمريكا الجنوبية، من نفط ونحاس وليثيوم وغيرها.
بَذَلت حكومات الدّول الإمبريالية، التي تُمثّل مصالح الشركات الرأسمالية الإحتكارية (المحروقات والطاقة والمَناجِم والبُنية التحتية، وصناعة الأسلحة...)، ما في وسْعها، في مرحلة ما بعد الإستعمار المباشر، للإستيلاء على ثروات البلدان (في إفريقيا والوطن العربي وآسيا...)، عبر الهيمنة "النّاعمة" أو عبر الحُرُوب العدوانية، وتغليف العدوان، من خلال حملة إعلامية، بدواعي الدّفاع عن حُقُوق البشر (وخاصة حقوق النساء والأقليات العرقية والدّينيّة)، وتقسيم الشعوب إلى مِلَل ونِحل، أو بدواعي مكافحة الإرهاب أو محاربة الدّكتاتوريات التي تُمثل "محور الشّرّ"، وتقول الحقيقة والوقائع إن الولايات المتحدة أنشأت وسلّحت "القاعدة" ثم "النُّصرة" ودعمت ودربت وسلّحت الإخوان المسلمين في اليمن وحزب الدّعوة في العراق، ومعظم التنظيمات الإرهابية في سوريا... عندما لا تُريد الدّول الإمبريالية، أو عندما لا تنجح في شن حَرب عدوانية مباشرة، تختلق نزاعات وحُروبًا داخلية تُقَسِّمُ الشعوب والبُلْدان، كما تعتمد على عُمَلاء مَحلِّيِّين داخل هذه البلدان (الإخوان المُجْرِمون في سوريا وليبيا، والمليشيات المُسَلّحة أو أحزاب المُعارضة اليمينية في أمريكا الجنوبية) وتعتمد أيضًا على حكومات بعض الدّول المُجاورة للبلد المُسْتَهْدَف، كحكومة تركيا، ودُوَيْلات الخليج، في الوطن العربي، وتشاد في إفريقيا، ويُؤَدِّي نظام كولومبيا، المُجاورة لفنزويلا والبرازيل، هذا الدّور في أمريكا الوُسطى والجنوبية، ولكن نظام كولومبيا يواجه اليوم احتجاجات شعبية، منذ أكثر من ستة أسابيع، عند كتابة هذه الورقة، التي تتطرق بإيجاز إلى الوضع في أمريكا الجنوبية، وتتطرّق بشيء من التفْصِيل للوضع في كولومبيا، كنموذج للأنظمة العميلة التي طاولتها الإحتجاجات في أمريكا الجنوبية، منذ سنة 2019...
استنتج صندوق النقد الدّولي في تقريره نصف السنوي، الذي أصدَرَهُ في بداية شهر نيسان/ابريل 2021، أن تعافى اقتصاد أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي، بطيء، ويدّعي مُعِدُّو التّقرير أنهم مُتفائلون بتوقعات سنة 2022، فارتفاع أسعار النحاس ينقذ اقتصاد تشيلى، واقتصاد المكسيك في طريقه إلى التعافي، أما في كولومبيا فإن الإحتجاجات تعوق الانتعاش،بحسب صندوق النقد الدّولي، بالإضافة إلى الوضع في فنزويلا المُجاورة...

مكانة أمريكا الجنوبية في سياسات الولايات المتحدة:
تكمن أهمية أمريكا الجنوبية، ومتابعة ما يجري بها، بالنسبة لنا كتقدّميين عرب، في تزامن غَزْوِها وإخضاعها للإستعمار الإستيطاني الأوروبي، مع نهاية حُكْم العرب في الأندلس، ومع صُعود القُوّة البحرية لممالك صغيرة بإيطاليا وهولندا وإسبانيا والبرتغال، وعانى السُّكّان الأصليون بأمريكا الجنوبية (كما الشمالية) من عمليات الإبادة ونهب الأراضي والموارد، واستمدّت الحركة الصّهيونية بعض أساليبها من الحركة الإستعمارية الإستيطانية بقارة أمريكا، مع مراعاة الفوارق، ورغم المجازر والإبادة والنهب، وهيمنة السّكّان المنحدرين من أوروبا، لا تزال جذوة مُقاومة الشُّعُوب الأصلية حَيّة ببعض البلدان.
من جهة أخرى، لم تتمكّن الأنظمة الدّكتاتورية العسكرية من القضاء على المُقاومة الشعبية في تشيلي وفي البرازيل وفي بوليفيا والأرجنتين وغيرها، وتنفرد شعوب أمريكا الجنوبية بالنشاط الحَثِيث للجمعيات المَحَلِّية في أحياء المُدُن وفي القُرى وفي تجمُّعات الشعوب الأصلية، وهي منظمات شعبية وجماهيرية تُدافع عن حق السّكّان في تحسين ظروف العيش اليومي، ولم تتمكّن الدّكتاتوريات العسكرية من تفكيكها، ومن الضّروري دراسة نشأة ونشاط هذه الجمعيات، التي تتشابه بعض جوانبها مع نشاط المجموعات المحلية الفلسطينية خلال انتفاضة 1987، التي ساعدت الفلسطينيين على الصّمود واستبدال السلع الصهيونية بإنتاج محلي...
حاولتُ متابعة ما يحصل بأمريكا الجنوبية –التي استوعبت عشرات الآلاف من المُهاجِرِين "الشّامِيِّين"، منذ القرن التاسع عشر- منذ عُقُود، رغم ضُعْف العلاقات بين المنظمات التقدمية والثورية العربية ومنظمات أمريكا الجنوبية، ويندرج هذا المقال ضمن متابعة ما يحدث من انتفاضات، خاصة في كولومبيا، وهي قاعدة أمريكية وصهيونية مُتقدّمة، التي قد تفقد الإمبريالية الأمريكية، بانهيار نظامها، أحَدَ ركائزها في جنوب القارة...
لم تعد الإمبريالية الأمريكية تعتمد على الإنقلابات العسكرية فقط أو تمويل منظمات مُسلّحة، للإطاحة بالحكومات أو الأنظمة التي تُعارض سياساتها، وبالأخص في أمريكا الجنوبية، بل أضافت للأساليب القديمة، تكتيكًا جديدًا يتمثل في تنظيم انقلابات "دستورية"، وتشريعية، وقضائية، ومهما كان الأسلوب، تظلّ الحملات الإعلامية سابقة ومُرافقة ولاحقة لأي شكل من أشكال الإنقلابات...
تاريخيًّا، نقلت الولايات المتحدة المئات من وُجهاء وعُلماء وباحثي ألمانيا النازية إلى أمريكا الشمالية، وساهموا في تطوير برامج التّسلح الأمريكي وغزو الفضاء، ونُقل العديد منهم إلى أمريكا الجنوبية (باراغواي والأرجنتين والبرازيل وتشيلي...)، ويتكامل دور الكيان الصهيوني مع الدّور الأمريكي، فدعم الصهاينة دكتاتوريات أمريكا الجنوبية، وزوّدها الكيان بالأسلحة وبخبرات القمع، بل وافقت حكومة دكتاتور باراغواي، "ألفريدو ستروسنر" (نازي سابق، حكم باراغواي لمدة 35 سنة ) اتفاقًا، سنة 1969، أي بعد عدوان 1967، لنقل ستين ألف فلسطيني غير شيوعي، من الضفة الغربية المُحتلّة حديثًا، إلى باراغواي، لكي يستولي المستوطنون الصهاينة على أراضيهم، مقابل دعم حُكمه وإرسال الأسلحة وأدوات القمع، ومنحة بقيمة 12 مليون دولار، لتغطية مصاريف الرسوم، ومنحة أوّلية بمائة دولار عن كل شخص، حال وُصُوله إلى باراغواي، تُضاف إليها 33 دولارا عن كل فلسطيني يتم قبوله في باراغواي، وأفشل الفلسطينيون الإتفاق، سنة 1970، باغتيال المُوظفة المسؤولة عن تنفيذ المُخَطّط الإقتلاعي بسفارة الكيان الصهيوني ب"أسنسيون"، عاصمة براغواي، وعمومًا يمكن تفسير التقارب بين دكتاتوريات أمريكا الجنوبية والكيان الصهيوني، بتطابق وجهات النّظر، بشأن السّكّان الأصليين، وشَكّل الكيان الصهيوني أكبر مصْدَر للسلاح المُستخدم لأغراض قَمعية بتشيلي خلال حكم الديكتاتورية العسكرية (1973 – 1990) والأرجنتين (1976 – 1983) وغواتيمالا (1978 – 2018) بحسب تقرير وكالة "مِرْكُو برس" ( Saouth Atlantic News Agency ) الذي نشرَتْه يوم 18 آب/أغسطس 2020...
استخدمت الولايات المتحدة (مهما كان اسم حزب الرئيس وأغلبية الكونغرس) المنظومة الإعلامية والقضائية للإطاحة بقادةٍ مُنتَخَبِين ديمقراطيًّا، يقودون حكومات شعبية في هندوراس والبرازيل والأرجنتين وإكوادور وبوليفيا، خلال عقد واحد، ولم تنجح المحاولات في فنزويلا أو كوبا، فلجأت إلى تشديد الحصار الإقتصادي، وسرقة الممتلكات والأُصُول، مع مواصلة العمليات السّرّيّة المُسَلَّحة...
نظّمت الإمبريالية الأمريكية أربعة انقلابات عسكرية في أمريكا الجنوبية، خلال ثلاثة عشر عامًا، ضد الحكومات التقدمية في هندوراس وباراغواي والبرازيل وبوليفيا، رافقها نَشْر القوات المُسلّحة بالشوارع والساحات واعتقال واضطهاد الآلاف من المواطنين...
أما بالنسبة للتمدد الصهيوني في أمريكا الجنوبية (الذي تزامن أيضًا مع التّمدّد في إفريقيا، ما يُشير إلى مُخطّط مُحكم)، خلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فقد شكّل جُزْءًا من خطّة صهيونية أشْمَلَ لمواجهة تزايد نشاط الحركات التقدّمية المُناصِرَة لحقوق الشعب الفلسطيني في أمريكا الجنوبية، ووَصَف الزعماء التقدّميون، في فنزويلا وبوليفيا وغيرها، دولة الكيان الصهيوني بالإرهابية، لكن تغيّر الوضع، وقام رئيس حكومة العَدو "بنيامين نتن ياهو"، سنة 2018، بأول جولة لرئيس حكومة صهيونية في أميركا الجنوبية شملت الأرجنتين وكولومبيا والمكسيك، وبذل جُهْدًا لزيادة الصادرات العسكرية والتكنولوجية بأسعار مدعومة أمريكيا، مقابل التصويت لمصلحة كيان الإحتلال في الأمم المتحدة، كما حضَرَ حفل تنصيب الرئيس البرازيلي "جاير بولسونارو" (الذي التقط أبناؤه صورًا لهما في فلسطين المحتلة، بقمصان تحمل دعاية للإستخبارات العسكرية الصهيونية) في أول زيارة يقوم بها رئيس حكومة صهيونية إلى البرازيل، التي يبلغ حجم التبادل التجاري المُعلَن معها، سنة 2018، نحو 1,2 مليار دولارا، وأعلنت وزارة خارجية كيان الإحتلال، سنة 2019، وجود نحو 200 شركة صهيونية في البرازيل، ونحو 150 شركة صهيونية في المكسيك، وأكثر من 100 شركة في كل من كولومبيا والأرجنتين، وتنتج هذه الشركات معدات تكنولوجية متقدمة، وأنظمة ومعدات أمنية، وأجهزة طبية...
في بوليفيا، ومباشرة بعد الإنقلاب الذي دعمته وأشرفت عليه الولايات المتحدة، سنة 2019، أعادت الحكومة اليمينية المتطرفة العلاقات مع الكيان الصهيوني، واستنجدت بالجيش الصهيوني لِقَمع الإحتجاجات الشعبية ضد الانقلاب، باعتراف وزير داخلية حكومة الإنقلاب (أرتورو مُوريللو)، وبعد قرار الإمبريالية الأمريكية نقل سفارتها من تل أبيب إلى القُدس، أعلنت دول أخرى من جنوب القارة الأمريكية اعتزامها السير على خُطاها، وللتذكير فإن الكيان الصهيوني دعم الدكتاتوريات العسكرية بأمريكا الجنوبية، ودعم الرئيس التشيلي سيباستيان بينيرا، سنة 2021، لقمع الاحتجاجات، كما فعل مع بينوشيه قبل أكثر من أربعة عُقُود، من خلال بيع الأسلحة ومعدات "مكافحة الشغب"، وتدريب جيش وشرطة تشيلي...

مخطط أو عملية "كُوندور"
بدأت الولايات المتحدة تنفيذ خطط الهيمنة على أمريكا الجنوبية مُبَكِّرًا، قبل منتصف القرن التاسع عشر، حيث استحوذت، بالقوة المُسلّحة على أكثر من نصف أراضي المكسيك، وفي سنة 1905، تمكّنت من إطلاق برنامج لتنسيق عمل الشرطة الأمريكية مع دول أمريكا الجنوبية، ودعم مؤتمر "بيونس آيرس" (عاصمة الأرجنتين)، حيث اتّخذ المُؤتمرون من مختلف دول أمريكا الجنوبية "تعزيز الروابط القوية بين أجهزة الشرطة في دول أمريكا الجنوبية، لضمان الأمن القومي ولمكافحة عصابات الجريمة والإرهاب..."، وشكّلت هذه القرارات، وكذلك قرارات مؤتمر سنة 1920، ركيزة للقوانين الإستثنائية وحالة الطوارئ التي فرضتها دكتاتوريات جنوب القارة الأمريكية، منذ العقد الأول من القرن العشرين، بدعم من الولايات المتحدة التي كثّفت من تدخُّلاتها العسكرية والإستخباراتية، بالتوازي مع هيمنة الشركات العابرة للقارات، ذات المَنْشَأ الأمريكي، على ثروات هذه البلدان، من مواد أولية ومعادن وإنتاج زراعي...
أطلقت الإستخبارات العسكرية الأمريكية إسم "عملية كوندور" على برنامج تخريبي عسكري وتجسُّسي (استخباراتي) ودبلوماسي، عابر للحدود، بأمريكا الجنوبية، اشترك بتصميمه وقيادتها دبلوماسيون مثل "هنري كيسنغر" (وزير خارجية وعضو مجلس الأمن القومي، سابقًا) وإدارة الإستخبارات الأمريكية، بالتّوازي مع تطبيق تكتيكات السياسة الدولية المعروفة باسم "الخطوات الصغيرة"، التي حَدّدها "هنري كيسنغر"، ونفذها في المشرق العربي، حيث نجح في سَلْخِ مصر عن فلسطين وعن مصير الأمة العربية. انطلقت العملية في "سانتياغو"، عاصمة تشيلي، بعد الانقلاب العسكري في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 1973، وافتتحت رسميا، في الخامس والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1975، من قِبَلِ دكتاتور تشيلي، الجنرال "أوغوستو بينوشيه"، ثم تم "تحسين" أساليب القمع ضدّ خُصُوم الدّكتاتورية، والتنسيق بين قوات الشرطة والجيش والاستخبارات في كل من تشيلي وباراغواي والبرازيل والأرجنتين وأوروغواي وبوليفيا بشكل مشترك بين الأنظمة الدّكتاتورية القائمة، إضافة إلى الإجراءات السرية الأخرى ضد المُعارضين...
توسّعت "خطة كوندور"، لتُصْبِحَ "منظومة قمعية عابرة للقارات"، بدعم قوي من الحكومة الأمريكية وأجهزة مخابراتها وجيشها، ومن "الفاتيكان" والسلطات الدينية ورأس المال في أمريكا الشمالية والجنوبية، وأوروبا التي دعمت أجهزة مخابراتها هذا البرنامج منذ البداية، ومنذ 1956، تكفّل الجيش الفرنسي وأجهزة المخابرات بتدريب الجيش في الأرجنتين على تطبيق أساليب مكافحة التمرد المستخدمة خلال احتلال الجزائر، ومُحاربة ومطاردة "العدو الداخلي"، كما صَدَّرَتْ فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة أساليب القمع إلى أوروبا (البرتغال وإسبانيا وإيطاليا واليونان ...) وإلى أمريكا الجنوبية وآسيا وإفريقيا، وساهمت في سجن أو إعدام مُعارِضين سياسيين محليين وطرد اللاجئين السياسيين إلى بلدانهم الأصلية، حتى لو تعرضوا لخطر السجن أو الموت، مثلما حصل لمُعارضي الدّكتاتورية في البرتغال (1932 – 1975) واليونان (1967 – 1974) والبرازيل (1964 – 1985)، وما "قانون باتريوت" (باسم مكافحة الإرهاب) الأمريكي الذي وقّعه الرئيس بوش الإبن يوم 26 تشرين الأول/اكتوبر 2001، سوى مُقدّمة لإقرار قوانين استثنائية مُماثلة في العديد من دُول العالم، وجميعها مُتْتوحاة من رؤية "العدو الداخلي" الفرنسية، لتوسيع مجالات المراقبة وتدخّل الاستخبارات في الحياة اليومية للمواطنين وللتّخلّص من القوانين الضّامنة لبعض الحُرّيات، وما "مُخطّط كوندور" الأمريكي سوى نموذج لخطط ولاتفاقات وقع تنفيذها في أمريكا الجنوبية، لتوسيع دائرة قمع الحريات الفردية والجماعية وعرقلة ممارسة الديمقراطية، وتكثيف استغلال العاملين والمَوارد المَحَلّيّة من قِبَل الشركات العابرة للقارات، في غياب العمل النقابي والسياسي، السّلْمي أو الثّوري، ولم يكن قَمْعًا مَحلّيّا فحسب، بل أصبح إرهاب دولة منظم، وعابرًا للحُدُود، ولئن بدأ تطبيق "مخطّط كوندور"، رسميا سنة 1975، فإنه يُشكّل امتدادًا لعمليات إبادة المُعارضين، في أمريكا الجنوبية وأماكن أخرى، قبل سنة 1975 بوقت طويل (إندونيسيا وماليزيا 1965/1966 ، على سبيل المثال). إن إرهاب الدولة هذا هو جزء من استمرار سلسلة من الاتفاقيات المبرمة بين أجهزة الشرطة والإستخبارات (وبالتالي بين الدول) منذ بداية القرن العشرين، بين أمريكا الجنوبية والشّمالية...
ترأسَ الجنرال "أوغوستو بينوشيه" بسنتياغو (عاصمة تشيلي)، اجتماع 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، بمُشاركة العديد من أنظمة الديكتاتورية العسكرية وأجهزة المخابرات في تشيلي وباراغواي والبرازيل وأوروغواي والأرجنتين وبوليفيا، في اجتماع الإطلاق الرسمي لهذا القمع متعدد الجنسيات والذي أطلق عليه اسم "خطة كوندور"، ما يتيح جمع وتبادل المعلومات التي يجمعها الجيش والشرطة، بشأن أشخاص يعتبرون (من قبل الشرطة والجيش) "خطرين على المجتمع، وهم مناضلون سياسيون ونقابيون، أو مدافعون عن حقوق الإنسان، واستخدمت الشرطة والمخابرات العسكرية مصطلح "الجاني المُخَرّب"، أو "الجانح الإرهابي" (Terrorist offender ) منذ سنة 1905 ، لكن الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين (1976-1983) حدّثت هذا المفهوم، وأوكلت إلى ضباط الجيش مهمة تنظيم القمع، سياسيًا واجتماعيًا، على نطاق واسع، ومهمّة السيطرة على مجالات التعبير والنشر والنشاط الثقافي، انطلاقًا من الخبرة القَمْعية الواسعة للضّبّاط الفرنسيين في الجزائر، زيادة على خبرة الجيش والشرطة المحلية الأرجنتينية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في القمع وعسكرة الحياة السياسية، خلال عملية استعمار المناطق الصحراوية والريفية حوالي 1870.
تُعتَبَرُ الأرجنتين الدولة الأكثر أوروبية في أمريكا الجنوبية، والأكثر إبادة للشعوب الأصلية التي لم يَنْجُ سوى عدد قليل من أفرادها، كما استقبلت الأرجنتين وتشيلي ودول أخرى بأمريكا الجنوبية، بعد الحرب العالمية الثانية، عددًا كبيرًا من قادة الحركات، أو الميليشيات النازية، من ألمانيا والنمسا وكرواتيا وأوكرانيا وبولندا والدول الاسكندنافية. أما ضباط الجيش الفرنسي الذين خططوا لجرائم الاستعمار في آسيا والجزائر وأفريقيا (الكاميرون ومدغشقر والسنغال ...)، وأشرفوا على تنفيذها، فقد أصبحوا مدربين في أمريكا الجنوبية لتعليم تقنيات قمع الشعوب وتسليط العقاب الجماعي...
أيدت الأنظمة الديمقراطية، الممارسات غير الديمقراطية التي تم تطبيقها في الأرجنتين (على سبيل المثال) منذ العام 1902، بحجة حماية الأمن القومي، وتم تحديث هذه الممارسات وتعزيزها في العديد من بلدان أمريكا الجنوبية (تشيلي والأرجنتين والبرازيل وأورغواي ، إلخ) خلال اجتماعات أجهزة الشرطة في لقاءات سنتَيْ 1905 و 1920، في العديد من البلدان (الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وتشيلي وكولومبيا وباراغواي وأورغواي ...) وتتمثل في قمع الجيش لحركة المطالب الإقتصادية الاجتماعية، للموظفين والعمال والفقراء، واستخدَمت الأنظمة الحاكمة بأمريكا الجنوبية التقدم العلمي والتكنولوجي لتعزيز الرقابة والقمع، منها بيانات الحالة المَدَنية ونشرة السّجل الجنائي وبصمات الأصابع وكاميرات التّصوير وقاعدة البيانات الإلكترونية الضخمة، والتّجسّس على المُكالمات والمُراسلات الخاصة، وتسجيلها بالحاسوب والإنسان الآلي (روبوت)، كما طورت تلك الأنظمة تقنيات "مكافحة التمرد" التي صَدَّرَتْها فرنسا الاستعمارية، والتي تعتبر أي مقاتل يُدافع عن استقلال بلاده، ليس خصمًا أو عدوّا سياسيا، أو مُحاربًا عسكريا، وإنما مُجْرِمًا وإرهابيا، يَجُوز، بل يجب هَدْرُ دَمِه، ودم أُسْرته وكل من اختلط به...
إن ما يحدث بأمريكا الجنوبية، القريبة جدًا من الولايات المتحدة، مهم للعالم بأسره، فهي ساحة اختبار للجيش الأمريكي والجيش الصهيوني، خاصة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد تفجيرات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، و "قانون باتريوت"، وسطْوة الأجهزة العسكرية على الدبلوماسية الأمريكية، في محاولة لإخْضاع العالم لإرادة الإمبريالية الأمريكية (والقوات المسلحة لحلف شمال الأطلسي)، باسم "حماية الأمن القومي الأمريكي". لقد ضاعفت الولايات المتحدة وحلفاؤها عدد بؤر الحرب وزعزعة الاستقرار ، لإعادة تشكيل العالم، وخلق "شرق أوسط كبير" يخضع للإملاء الأمريكي ويمتد من أفغانستان إلى المحيط الأطلسي، وعابر للوطن العربي وللصّحراء الكُبرى، الواقعة جنوب المغرب العربي...

أمريكا الجنوبية بعد انتخاب جوزيف بايدن:
قبل مغادرة البيت الأبيض ببضعة أيام، زادت إدارة دونالد ترامب من القيود على السفر والتحويلات المالية إلى كوبا، وهددت بالتّدخّل العسكري في فنزويلا، إضافة إلى الحصار وحظر التبادل التجاري مع البلدَيْن، وكانت سياسات إدارة دونالد ترامب، خلال أربع سنوات، عدائية أعادت إلى الأذهان "عقيدة مونرو" (التي تُجيز كافة أشكال التدخل الأمريكي في جنوب القارّة) واتسمت بزيادة التهديدات وتشديد العقوبات، منذ 2018، ضد كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا، ودَعْمِ اليمين المتطرف في البرازيل والأرجنتين وكولومبيا وتشيلي وبيرو وغيرها، ودعم الإنقلابات في فنزويلا وبوليفيا...
لا تختلف سياسات جوزيف بايدن وطاقمه سوى في الشّكل، فقد ساهم بايدن في إقرار المخططات العدوانية الأمريكية، عندما كان رئيًسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، خلال فترة رئاسة "بيل كلينتون" (تمويل خطة تجهيز وتدريب قوات الجيش والشرطة الكولومبية)، ثم عندما أصبح نائًبا للرئيس باراك أوباما ومُهندس السياسة الخارجية الأمريكية في جنوب القارة، حيث قام بست عشرة زيارة لبلدان أمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي...
للتّذكير، بدأ حصار كوبا ومحاولة غزوها ومحاولات اغتيال زعيمها فيدل كاسترو، خلال فترة رئاسة الديمقراطي جون كيندي، كما زادت حدّة القصف الجوي في فيتنام ضد المباني والمَزارع والبشر، خلال فترة الديمقراطي ليندن جونسون (من 1963 إلى 1969)، بعد اغتيال الرئيس كيندي.
تزامن انتخاب الرئيس جو بايدن، الذي وَعَد بالإنفتاح والمرونة مع أمريكا الجنوبية، مع زيادة تأثير الصين ومع زيادة تأثير قوى اليسار، في البرازيل وبيرو وتشيلي وفنزويلا وبوليفيا، وغيرها وانحسار تأثير قوى اليمين، في جنوب القارة الأمريكية.
لم تتغير السياسات الخارجية الأمريكية في جوهرها، بعد أكثر من نصف سنة من تغيير أركان الحكم (الرئيس ومجلس النواب)، ومن تولّي نائبة الرئيس، الصهيونية "كامالا هاريس"، ملف أمريكا الجنوبية، فيما قَرّر الرئيس "بايدن" التركيز على مُعاداة روسيا والصين، بل كانت إدارة بايدن نسخة من إدارة ترامب، سواء بشأن ملف هجرة الفُقراء من البلدان التي تُهيمن عليها الولايات المتحدة، (سلفادور، غواتيمالا، وهندوراس...)، أو بشأن دعم الأنظمة المُتّهَمة بانتهاك حقوق الإنسان وقمع احتجاجات سلمية، وقتل واعتقال وتعذيب متظاهرين مُسالمين، بإشراف الإستخبارات الأمريكية والصّهيونية، في ظل انهيار الإقتصاد مع انتشار وباء "كوفيد 19"، في مقابل انتصار قوى اليسار في بوليفيا وبيرو، وتقدّم الصين إلى المرتبة الأولى في مجال المبادلات التجارية مع جنوب القارة الأمريكية، ومع مناطق أخرى من العالم، ويُتَوَقّعُ ارتفاع حجم الإستثمارات الصينية والمبادلات التجارية مع مُجمل مناطق العالم، بينها أمريكا الجنوبية، فضلا عن المبادرة الصينية "الحزام والطريق" أو "طريق الحرير الجديدة" التي انطلقت، سنة 2013، بعد إعلان باراك أوباما (ونائبه جو بايدن)، سنة 2012، مُحاصرة الصين عسكريا واقتصاديًّا...

تأثيرات احتجاجات 2019 – 2021
بيرو:
نقلت صحيفة "غرانما" الكوبية عن "فيدل كاسترو" (1926 – 2016)، انه يعتبر "الأوليغارشية البيروفية هي ربما الأكثر فسادًا والأكثر رجعية في أمريكا الجنوبية"، ولذا فرغم النجاح النّسبي الذي حققه "بيدرو كاستيلو" وتحالف "بيرو ليبر" (بيرو الحُر) في انتخابات السادس من حزيران/يونيو 2021، لا يزال اليمين الذي يميل نحو التّطرُّف قوياً للغاية ، خاصة في العاصمة "ليما" (ثلث إجمالي سكان البلاد)، بينما تميزت النقاشات التي دارت حول هذه الحملة الانتخابية بتذكير المواطنين البيروفيين بالوضع الذي كان سائدًا، سنة 1968، عندما قام الجنرال خوان فيلاسكو ألفارادو (1910-1977) بانقلاب وعَرْقَلَ خطط شركة النفط الدولية (International Petroleum Company )، وهي فَرْعٌ تابع لمجموعة "ستندارد أويل" ( Standard Oil )، الشركة التي أسّسها "جون روكفلّر" سنة 1870، والتي أعدّت مُخطّطًا للإستيلاء على احتياطيات البيرو من النفط.
تضمّن برنامج الجنرال "فيلاسكوألفارادو" تأميم قطاع النفط، ونقْل ملكية الأراضي المُؤَمَّمَة، ضمن خطة إصلاح زراعي، إلى تعاونيات الفلاحين، وتضمَّن مشاركة العُمّال في إنتاج وإدارة المصانع، ليُصْبِح العُمّال شُركاء في مِلْكِيّة المصانع، وفي مجال العلاقات الدّولية، أقام علاقات دبلوماسية مع كوبا واستقبل فيدل كاسترو في العاصمة "ليما"، وأقام تحالفًا مع رئيس تشيلي، الإشتراكي "سلفادور أليندي" (انتُخِبَ ديمقراطيا سنة 1971، وأطاح به انقلاب تدعمه الولايات المتحدة يوم 11 أيلول/سبتمبر 1973)، وهَدَف هذا التّحالف تنفيذ مشروع تكامل إقليمي يسمى "ميثاق الأنديز"، نسبة إلى سلسلة الجبال التي تَعْبُرُ عددًا من بلدان جنوب القارة الأمريكية، كما يهدف هذا الاتفاق السيطرة على الاستثمار الأجنبي، ما يعيق مصالح رأس المال، بشكل مباشر، وهو ما اعتبرته الإمبريالية الأمريكية تَجَاوزًا خطير لنفوذها ولنفوذ رأس المال، فنظّمت سنة 1975 انقلابًا يقوده الجنرال "فرنشيسكو موراليس" الذي حَكَم البلاد، نيابة عن اليمين المتطرف من 1975 إلى 1980 ( وُلِد سنة 1921 ولا يزال حيا، يوم 30 حزيران 2021 ) وضع حدًا لتجربة "فيلاسكو" الذي توفي سنة 1977، وانتقم اليمين، الناطق باسم الرأسماليين وكبار مالكي الأراضي الزراعية، من رُفاتِهِ، حيث فَجَّرَ كوماندوز يميني متطرف قَبْرَهُ في ليما...
تواصل حُكْم اليمين المتطرف فكان "ألبرتو فوجيموري" الأب رمزا للتّواصُل مع حُكْم الجنرال "فرنشيسكو موراليس"، ورمزًا للنيوليبرالية، ولتزايد عدم المساواة، بعد عقد الثمانينيات من القرن العشرين الذي تميز بالكفاح المسلح لمنظمة "الدّرب المضيء" المَاوِيّة، وتميز بارتفاع عدد الإغتيالات والمُداهمات والإعتقالات، بذريعة "مكافحة الإرهاب"، ومرت البلاد بفترة عدم استقرار، والحركة التقدمية بفترات مَدّ وجزر، إلى أن أدّت التعبئة الشعبية ضد سياسات الرئيس "مارتن فيساكارا"، إلى إقالته من قِبَل مجلس النواب، في 09 تشرين الثاني/نوفمبر 2020، قبل انتهاء فترة ولايته، وحل محله" مانويل ميرينو" الذي استقال بعد ستة أيام بعد القمع الدموي للمظاهرات ومقتل اثنين من المتظاهرين، بينما أظهر وباء "كوفيد 19" فشل النظام، وعدم قدرته على تلبية احتياجات المواطنين، إذ أصبحت "بيرو" ضمن قائمة الدول التي لديها أعلى معدل وفيات بالوباء، مع ارتفاع عدد الفقراء، خلال سنة واحدة، بنسبة فاقت 10%.
جرت الانتخابات، سنة 2021، في ظل هذه الظروف، ويُعتبر انتصار بيدرو كاستيلو وتحالف "بيرو الحرة" نتيجة منطقية للتعبئة الشعبية من أجل ظروف معيشية أفضل، كما يُعتَبَرُ أيضًا رد فعل على الأزمة السياسية والمؤسسية الموروثة من حقبة الرئيس الدكتاتور "ألبرتو فوجيموري" وعقد التسعينيات.
لم يكن "بيدرو كاستيلو" معروفًا في الخارج، أما في داخل البلاد، فهو أحد قادة نقابة المعلمين الذين نظموا وقادوا إضرابًا وطنيًا للمعلمين سنة 2017، وأظْهَر قُدرات في الدّعاية والتّحريض وتعبئة قاعدته الإجتماعية، وشدّ انتباه الجمهور الذي يستمع إليه، أثناء الحملة الإنتخابية ببساطة تعبيره واستحضار تاريخ البلاد وسكانها الأصليين من "الإنكا" والتذكير بثوار "توباك أمارو" بمرتفعات ماتشوبيتشو" ...
يشارك بيدرو كاستيلو، منذ سنة 2019، في لقاءات ونقاشات تهدف إلى توحيد التيارات اليسارية المختلفة، انبثق من هذه النقاشات والحوارات، التحالف بين النقابيين والمنظمات الفلاحية والمناضلين المستقلين (غير المُنتَمِين إلى تنظيمات)، وأنشأ التحالف ائتلاف "بيرو الحرة"، وتوسّعَ النقاش بين الحُلفاء ليشمل مسائل تتعلّق بالسياسات المحلية وكذلك في منطقة أمريكا الجنوبية، من أجل إنشاء تحالف يساري مناهض للسياسات النيوليبرالية والخصخصة، والفساد، وكل القِيَم السّلْبِيّة التي تُجسّدها عشيرة "فوجيموري"، وهي قِواسم مُشتركة بين قوى اليسار في أمريكا الجنوبية، إضافة إلى مُعارضة هيمنة الإمبريالية الأمريكية.
خاض الإئتلاف معركة سياسية حامية، أثناء الحملة الإنتخابية، ضد "كيكو فوجيموري"، ابنة الرئيس الدكتاتور "ألبرتو فوجيموري" (من 1990 إلى 2000)، والتي تَميّز خطابها بالعداء للعاملين والفُقراء ولكل ما يرمز إلى التحرّر من نير الرأسمالية، وتعدّدت أوجه شبه خطابها وبرامجها مع الرئيس البرازيلي (اليميني المتطرف) "جائر بولسونارو"، وتدعم الإمبريالية الأمريكية هذا الإتجاه، رغم الأحكام القضائية التي صدرت ضد ألبرتو فوجيموري، بتهمة الفساد والجرائم ضد الإنسانية، فيما تتم مقاضاة الابنة "كيكو" بتهمة تلقي رشاوى من شركة "أودبريخت فارغاس يوسا" العابرة للقارات (Odebrecht. Vargas Llosa ). وهي مدعومة من قبل الجيش والكنيسة والدوائر المالية ووسائل الإعلام التي شنت حملة تشهير عنيفة ضد منافسها "بيدرو كاستيلو"، وأظْهَر التّحالف اليميني استعداده لإطلاق حرب أهلية، عندما اتّضَحَ فَوز مُنافسيهم بالإنتخابات الرئاسية والنيابية، وعَمَدَ أنصار "فوجيموري" إلى تهديد وتهديد أعضاء هيئة مراقبة الإنتخابات، وترويع أنصار ائتلاف "بيرو الحُر"، بحسب وكالة "رويترز" (16 حزيران/يونيو 2021) التي اعتبرت أن المناخ مشحون بالعُنْصُرِيّة ضدّ السّكّان الأصليين وضد سُكّان الأرياف الذين منحوا أصواتهم للمرشح الإشتراكي "بيدرو كاستيلو"، وكتبت وكالة الصحافة الفرنسية (17 و 27 حزيران/يونيو 2021) أن بعض أركان اليمين البيروفي طلبوا، عبر السفارة الأمريكية، تَدَخُّل الولايات المتحدة لمَنْع فَوز اليسار في الإنتخابات، ودعمتهم شركات التّعدين التي تتخوف من إعادة تحرير الدّستور، ومن خَفْض حصتها من أرباح المعادن (النّحاس خصوصًا)، عبر زيادة حصة الدّولة، مع الإشارة أن سفيرة الولايات المتحدة ب"ليما" (عاصمة بيرو) موظفة في وكالة الإستخبارات الأمريكية، لفترة تسع سنوات، وشاركت بشكل مُباشر في تخريب العراق أثناء الإحتلال، وتدخّلت مباشرة في سير العملية الإنتخابية في بيرو، مع منظمات "غير حكومية" مُتعاقدة مع الوكالة الأمريكية للأمن القومي، وجمعت "كيكو فوجيموري" من حولها أنصار أبيها (ألبرتو فوجيموؤي) وزعماء الأحزاب اليمينية وحتى التي كانت تُصنِّف نفسها أحزابًا "وسَطِيّة"، وعددًا من الضّبّاط المُتقاعدين، فيما حمل أنصارها من أبناء الميسورين وبعض فئات البرجوازية الصّغيرة، لافتات تُنَدّدُ بالشيوعية، وعُمومًا أظهرت هذه الإنتخابات التفاف سُكّان الريف الأكثر فقراً، حول "كاستيلو" والتفاف السّكّان الأكثر ثراءً في المُدُن، تدعمهم شركات الإعلام، حول "فوجيموري" التي رَوّجت أن التّزوير شاب العملية الإنتخابية، خلافًا لتصريحات المُراقبين الأجانب الذين شهدوا ب"نظافة عملية الإقتراع" بحسب وكالَتَي "رويترز" ووكالة الصحافة الفرنسية (27 و 28 و 29 حزيران 2021)...
بعد أكثر من ستة أسابيع، أصبح "بيدرو كاستيلو" رئيسًا للبلاد، بعد "تعديل برنامجه" وتنازله عن العديد من النقاط الرئيسية، منها القُيُود على الإستثمارات الأجنبية والسياسات النّقدية ومُساهمة العُمّال في إدارة المؤسسات الإقتصادية...

كولومبيا، دَوْر وظيفي:
تُشكل كولومبيا مركزًا لإنتاج وتجارة المُخدّرات، بإشراف الولايات المتحدة التي جعلت منها احتياطيا لاقتصادها، وممرًّا للمهاجرين من الفُقراء، ضحايا الحرب الأهلية في كولومبيا، ومن بلدان أخرى أيضًا، وتحوّلت، بفعل استمرار الحرب الأهلية لعدة عُقُود، إلى مقبرة للنقابيين ولصغار الفلاحين والطّلاّب والصحافيين وللقُضاة غير الفاسدين، وللمناضلين التّقدّميين بشكل عام، كما أدّت زراعة وصناعة المُخدّرات إلى تدمير الغابات والبيئة المَحَلّية وإلى الإستحواذ على أراضي السّكّان الأصليين وتشريدهم، داخل وخارج البلاد، وإلى ارتكاب مليشيات المرتزقة (المُسلّحة والمُدرّبة أمريكيا وصهيونيا) مجازر، دَلّت عليها شهادات النّاجين، وكذلك المقابر الجماعية المُكتشَفة، ولم يضع اتفاق السّلام حدًّا للإغتيلات السياسية، ولعُنف السّلطة والمجموعات اليمينية المُسلّحة وللقتل تحت التعذيب، ولاستمرار انعدام المساواة وانتشار الفساد والعُنف الذي يستهدف حياة الفُقراء والسّكّان الأصليين بشكل خاص، ما عَمَّق الفَجْوَة الطّبقية، وما كان سببًا لإعلان الإضراب العام (نيسان/ابريل 2021) الذي دام أربعة أسابيع، رغم العُنف الوحشي الذي مارسه الجيش وقوات الشّرطة ومليشيات اليمين المتطرف التي تدعمها الحكومة، لأنها (الحكومة) تعتبر أي تحرك شعبي تهديدًا لها ولمصالح قاعدتها من الأثرياء والفاسدين، لكن قاعدة النظام بدأت تَضِيق لأن الأزمة وكذلك القمع طال فئات من البرجوازية الصغيرة، كما تضرّرت مصالح فئات أخرى، حيث أعلن اتحاد مُزارعي البُن، في العاشر من تموز/يوليو 2021، عن تراجع صادرت حُبُوب القهوة خلال النصف الأول من سنة 2021، مُقارنة بنفس الفترة من سنة 2020، "بسبب الإحتجاجات وإغلاق الطّرقات"، وفق اتحاد مُزارعي بُن القهوة، في ثالث أكبر دولة منتجة للبُن في العالم (بعد البرازيل وفيتنام)، بحسب برقية لوكالة الصحافة الفرنسية (10 تموز/يوليو 2021)، مع الإشارة أن كولومبيا تُصدِّرُ المعادن والنّفط والبُن، وهي رابع أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، بعد البرازيل والأرجنتين والمكسيك.
تميّزت "كولومبيا" كذلك بتصدير المُرتزقة من العسكريين السابقين الذين درّبتهم الإستخبارات الأمريكية، ومن مليشيات اليمين المتطرف ومجموعات تجارة المخدرات والجريمة المُنظّمة، نحو بُؤَر التّوتّر، حيث تُجَنّدهم شركات أمنية من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب إفريقيا والكيان الصهيوني، وقُتِل بعضُهم في سوريا والعراق وأفغانستان واليمن وليبيا، بعد مرور بعضهم بالإمارات، وتورّط بعضُهم مؤخّرًا في اغتيال رئيس هايتي "جوفينيل مويز" يوم السابع من تموز/يوليو 2021، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية (10 تموز/يوليو 2021)، وتَعُدّ القوات المسلحة الكولومبية ما لا يقل عن 220 ألف جندي وضابط، وهو عدد مرتفع، مقارنة بعدد السّكّان (50 مليون نسمة)، يُغادر ما بين عشرة وخمسة عشر ألف منهم صفوف الجيش سنويًّا، بمعاشات مُتَدَنِّية القيمة، بعد تدريبهم على القتل والإغتيال وتدمير بيوت وأراضي ومواشي الفلاحين الفُقراء والسّكّان الأصليين، إذ قُدِّرَت البيانات الرسمية عدد ضحايا الجيش من المَدَنِيِّين بنحو 6400، بين سنتَيْ 2002 و 2008، ادّعى الجيش أنهم من أعضاء القوات الثورية المُسلّحة لتبرير قَتْلِهم، ولحصول الضّبّاط على ترقيات وإجازات إضافية، وأظْهرت التّحرّيات أنهم مُزارعُون ومَدَنيُّون لم ينتموا لأي فصيل مُسلّح، ولا علاقة لهم بتجارة المخدّرات...
استقرّت شركة المُرتزقة "بلاك ووتر" (بعد أن غيرت إسمها إلى "أكادِيمِي") بالإمارات، وهي تُشغّل آلاف المرتزقة، من الجنود الكولومبيين السابقين، في حراسة منشآت النفط بالخليج والمطارات بالعديد من البلدان العربية وغير العربية، وأصبحت الإمارات محطة عُبُور للمرتزقة من كل الجنسيات، منهم الصهاينة، منذ 2009، بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" (11 أيار/مايو 2021) التي أشارت أن المسؤولية القانونية لانتهاكات حقوق الإنسان تقع على عاتق الأشخاص الذين يرتكبون الجرائم، ولا تتحمل الدول أو الشركات المُشغّلة للمرتزقة أية مسؤولية...
كان إعلان "الإصلاح الضّريبي" وزيادة ضريبة القيمة المُضافة (ضريبة الإستهلاك) وتوسيع قاعدة الضرائب، لتشمل شرائح فقيرة، القطرة التي أفاضت كأس الغضب الشعبي ضد السياسات اليمينية والنيوليبرالية التي يُمثلها الرئيس "المُحافظ" جدًّا "إيفان دوكي"، فعمّت المُظاهرات البلاد، بداية من يوم 28 نيسان/ابريل 2021، وجابهت قوات القمع (الجيش والشرطة) المُحتجِّين بالرصاص الحي، واضطر الرئيس في الثاني من أيار/مايو 2021، إلى إعلان سحْب "إصلاحاته"، لكن تواصلت الإحتجاجات ضد الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وضد عُنف الجيش والشرطة والمليشيات اليمينية المتطرفة، وضد مُصادرة أراضي صغار المزارعين، والسّكّان الأصليين، وفي الرابع من أيار/مايو 2021، أدانت العديد من المنظمات الدّولية والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي، "الإستخدام المُفرط للقوة" الذي تمارسه القوات الحكومية، والذي أودى (عند ذلك التاريخ) بحياة ما لا يقل عن عشرين متظاهر، وإصابة حوالي تسعمائة بجراح، بحسب بيانات الحكومة، ما أدّى بالولايات المتحدة (الدّاعم الرئيسي للنظام) للدّعوة إلى "ضبط النّفس"، واعتَبَر الفاتيكان (الذي يدعم اليمين "المسيحي" الحاكم) عمليات إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين "جريمة ضد الإنسانية" (موقع إذاعة الفاتيكان، بتاريخ 12 آب/أغسطس 2021)، وأدّى عنف الجيش والشرطة إلى قتْل واحد ستين متظاهر، وجرح أكثر من 2400، حتى منتصف تموز/يوليو 2021، بحسب البيانات الحكومية...
بعد مُضِي حوالي ثلاثة أشهر، قدّم الرئيس "إيفان دوكي" نسخة جديدة من "الإصلاح الضريبي"، لا تختلف في الجوهر عن النسخة السابقة، ما أثار غضب المواطنين الذين تظاهروا بالآلاف يوم 20 تموز/يوليو 2021، ضد الثراء الفاحش للبعض، ومن أجل حق الجميع في الصحة والتعليم، وعدم التّعرّض إلى عُنف أجهزة الدّولة ومليشات اليمين المتطرف، في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى 42% أو حوالي 21 مليون فقير من أصل خمسين مليون نسمة، بحسب صندوق النقد الدّولي...
لم تُسْفر المحادثات بين الحكومة وأحزاب المعارضة والنقابات ولجنة المُعَطّلين عن العمل، عن نتائج، رغم تعليق الإضراب العام، بعد 49 يومًا من إطلاقه، وشجع الدّعم الأمريكي نظام كولومبيا على تشديد القمع، رغم التراجع التكتيكي، حيث أعلن الرئيس الأمريكي، يوم 29 يونيو/حزيران 2021 (وتكررت تصريحات الدّعم بعد ذلك) دعم حليفه الكولومبي "في مواجهة الأعمال الإرهابية"، وفي مواجهة نظام فينزويلا الذي تمكّنت الولايات المتحدة من إضعافه، ولكنها لم تتمكّن من إسْقاطِهِ، وانقطعت العلاقات الدبلوماسية بين الجارتَيْن فنزويلا وكولومبيا، بعد وصول دوكي إلى السلطة في كولومبيا، سنة 2018، بدعم من الجيش الأمريكي (الذي يمتلك قواعد عسكرية على حدود فنزويلا) ومن وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية، بهدف الإطاحة بنظام فنزويلا...

الإنتخابات كمُتَنفّس لجمهور الغاضبين:
وردت في التقرير نصف السّنوي لصندوق النقد الدّولي (بداية تموز/يوليو 2021) بيانات متشائمة بخصوص اقتصاد أمريكا الجنوبية، رغم التفاؤل بتحسّن الوضع سنة 2022، وأصدرت منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية توقعات "متفائلة، لكنها حَذِرَة، لأن التّعافي قد يكون بطيئا، وقد يستغرق فترة أطول من المتوقع للعودة إلى مستوى سنة 2019" (التي لم تكن جيدة)، لكن يُمكن إلهاء جماهير الغاضبين من الفُقراء بالمهرجانات الخطابية ضمن الحملات الإنتخابية، وتوزيع بعض الفتات على بضعة آلاف من الفُقراء وتوزيع الوُعود على الملايين...
تُشكّل الإنتخابات مُتنفّسًا للجماهير الغاضبة وغير الراضية عن الوضع، فيما تُشكل أخفّ الأضرار للأثرياء والفئات الحاكمة، ففي حال فوز رئيس من اليسار، يتحمّل مسؤولية إصلاح الخراب الذي خلفته سنوات أو عُقود من الليبرالية (كما في تشيلي أو بيرو)، ويكون مُقيّدًا بالدّستور، وبجهاز الإعلام وبمنظومة التعليم الخاص وبالمؤسسة الدّينية، ما يُعسِّرُ مهمة تجاوز النظام الرأسمالي، عبر الإنتخابات، لو تَوَفّرت إرادة تجاوزه، بدلَ إصلاحه، ولذلك لم يُفْضِ حُكْم اليسار في أورغواي أو البرازيل أو هندوراس أو غيرها إلى تغيير في طبيعة النّظام، وكان أقصى ما فعله حزب العُمّال في البرازيل، أكبر اقتصاد بأمريكا الجنوبية، ارتقاء بعض الآلاف من الفُقراء إلى صفوف البرجوازية الصّغيرة، وتحويل بضعة ملايين إلى مُستهلِكِين، عبر المُساعدات الحكومية وإعادة توزيع جزء صغير من الثروة، بواسطة الإنفاق الحكومي على البنية التحتية والتعليم والصحة والسّكن...
جرت وتجري انتخابات في عدد من بلدان أمريكا الجنوبية، سنة 2021، في ذروة انتشار وباء "كوفيد 19"، وفشل الأنظمة القائمة في توفير الحد الأدنى للوقاية، نظرًا لانتشار الفَقْر ولتخريب المنظومة الصّحية، طيلة عُقُود، وتزامن انتشار الوباء مع الإنتفاضات الشعبية التي انطلقت في الرّبع الأخير من سنة 2019 وتواصلت في بعض البلدان حتى بعد منتصف سنة 2021 (في تشيلي، على سبيل المثال) ولذلك شكّلت الإنتخابات مُتنفّسًا، لكنها اتّسمت بالعنف الشديد، ففي "بيرو" قُتِلَ أثناء الحملة الإنتخابية ما لا يقل عن 16 مواطن، وفي المكسيك قُتل تسعون مواطنا، وفي تشيلي يتواصل القمع، قبل انتخابات يوم 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2021 التي قد تُفضي إلى وضع حدّ للتوافق الطّبقي السّاري من 1990، وإرساء توافق جديد، قد يميل قليلاً نحو اليسار، بمفهومه الفَضْفَاض، فيما يُنهي "دانيال أورتيغا" سنته الثالثة عشر من الحكم المتواصل بنيكاراغوا، في ظل حملة أمريكية ضد الحكومات التقدمية بفنزويلا وبوليفيا، ومحاولات لعرقلة تنفيذ برنامج رئيس المكسيك "لوبيز أوبرادور"، منذ سنة 2018.

في هندوراس (حوالي تسعة ملايين نسمة)، اتسم المناخ بالعنف، منذ إزاحة الإستخبارات الأمريكية الرئيس المنتخب "إيمانويل زيلايا"، سنة 2009، وتوثيق العلاقات مع الكيان الصهيوني (راجع الفقرة الخاصة بتغلغل الكيان الصهيوني في أمريكا الجنوبية)، واتسمت انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2017 بالعنف الحكومي، وبإعلان حالة الطوارئ وحظر التجول الليلي (من السادسة مساء إلى السادسة صباحًا)، إثر احتجاجات أنصار مُرشّح اليسار "سلفادور نصر الله" على التزييف المُحتمل للنتائج من قِبَل أنصار الرئيس "خوان أورلاندو هرنانديز"، ووصفت اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان هذه الإجراءات بأنها "غير دستورية" واعتبرت إعلان حالة الطوارئ وقرارات وتصرفات الحكومة "إرهاب دولة ضدّ المدنيين الذين يحتجون على تزوير الإنتخابات"، وأصدرت بيانا يوم الخامس عشر من كانون الثاني/ديسمبر 2017، للتنديد بقرار الحكومة مَنْح الجيش والشّرطة صلاحيات واسعة، أدّت إلى قتل ما لا يقل عن 16 شخصًا وجرح ما لا يقل عن مائة، واعتقال حوالي 1700 مواطن ومواطنة، خلال الإضراب العام احتجاجًا على المُخالفات التي ارتكبتها لجنة الإنتخابات، باعتراف تقارير المراقبين التابعين لمنظمات محلية وأجنبية، منها مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في هندوراس الأحد، الذي اتهم السلطات "بعدم احترام حقوق الإنسان وعدم احترام أرواح الناس والسلامة البدنية"، خصوصًا بعد الإنقطاعات المتعددة للكهرباء وتوقّف أجهزة الحاسوب عن العمل، في مراكز فرز الأصوات، ما شكّل تعلّة للرئيس الذي قَرّر إشراف الرئاسة مباشرة على عمليات الفرز، وتزييف النتائج وسرقة الفَوز بمنصب الرئاسة...
دعمت الولايات المتحدة رئيس هندوراس "خوان أورلاندو هرنانديز"، المتهم بتزييف نتائج انتخابات 2017، قبل أن تتخلّى عنه لاحق، وتتهمه بالمتاجرة بالمخدّرات، خصوصًا بعد تنظيم تجمعات احتجاجية عديدة، قريبًا من موقع السفارة الأمريكية، ومهاجمتها أحيانًا (عندما يتمكن المحتجون من الإقتراب من السفارة)، مثلما حصل يوم الأول من حزيران/يونيو 2019، حيث أضرم محتجون النار في بوابة دخول السفارة الأميركية في العاصمة "تيغوسيغالبا"، خلال ثاني يوم من الاحتجاجات الضخمة ضد الرئيس خوان أورلاندو هيرنانديز، الذي أصْدَر مراسيم تهدف خصخصة القطاع العام والخدمات الأسياسية، بحسب وكالة رويترز وأ.ف.ب. (02/06/2019) وهتف المحتجون شعارات مناهضة للإمبريالية الأمريكية، بحسب وكالَتَيْ رويترز وأ.ف.ب. (02 حزيران/يونيو 2019)، وتكررت الإحتجاجات التي تربط مباشرة بين الرئيس والإمبريالية الأمريكية التي تدعمه، وبعد بضعة أشهر نشرت بعض الصّحف الأمريكية (من 02 إلى 04 كانون الأول/ديسمبر 2019) خبر ملف قضائي وتحريات يُجريها جهاز القضاء الأمريكي بشأن رئيس هندوراس "خوان أورلاندو هيرنانديز"، الذي كان حليفًا رئيسيًّا للإمبريالية الأمريكية في المنطقة، منذ سنة 2014 (خلال فترة رئاسة باراك أوباما، ودونالد ترامب)، وشقيقه النائب بكونغرس هندوراس، في إطار تحقيق يتعلق بتهريب مخدرات وأسلحة وغسيل أموال، وحماية عصابات المخدّرات والجريمة المُنَظَّمَة، لقاء رشاوى، وأصبح الإتهام رسميًّا وعَلَنيًّا في العاشر من آذار/مارس 2021، وتُظهر ملفات القضية أن إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية بدأت التحقيق في قضية هيرنانديز وآخرين بشأن تهريب المخدرات وغسيل الأموال، منذ سنة 2013، سنة انتخابه رئيسًا بعد أن ترأس البرلمان أو الكونغرس، وأصبح الملف بمثابة الورقة الإحتياطية، التي تُستخدم في حال تَضَرّر مصالح الولايات المتحدة، جراء دعمها للرئيس الفاسد، ما يُؤَكّد تخلّي الإمبريالية الأمريكية عن عُملائها، والتّخلّي عن حمايتها لهم، عندما تصبح الخسائر المحتلمة أعلى من الأرباح.
من المُقرّر إجراء الإنتخابات العامة في الثامن والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وتشمل رئاسة الجمهورية ونواب الكونغرس ونواب برلمان أمريكا الوسطى وأعضاء مجالس البلديات، في مناخ اتّسم بالعُنف، حيث تمتلك هندوراس واحدًا من أعلى مُعدّلات قتل المدنيين ( الفقراء والنساء والنقابيين والمُعارضين) في العالم، وتنتشر عصابات المخدرات العنيفة التي جعلت من أراضي البلاد طريقًا لعبور المهاجرين إلى الولايات المتحدة وطريقا لتهريب مُخدّر الكوكايين نحو أمريكا الشمالية...

الكيان الصهيوني في أمريكا الجنوبية
اعتبرت منظمات وأحزاب اليسار بأمريكا الجنوبية نضال الشعب الفلسطيني ضد الإمبريالية والصهيونية دَعمًا لِنضالهم، وجزءًا منه، بينما اعتبر اليمين نفسه جُزْءًا من الإمبريالية ومن الصّهيونية، ولئن بقي دعم اليسار الحاكم فضفاضًا، لا يتجاوز تجميد أو قطع العلاقات إثر كل عدوان عسكري على قطاع غزة أو الضفة الغربية، ولا يتجاوز دعم "حلّ الدّولَتَيْن" (إحداهما قائمة وتحتل كامل فلسطين وجزءًا من أراضي بلدان عربية مُجاورة، والأخرى افتراضية) فإن التّعاون بين الكيان الصّهيوني واليمين الحاكم بأمريكا الجنوبية كان ولا يزال عَمَلِيًّا ومُمَنْهَجًا وناجعًا وواسعًا يَشْمَلُ التعاون السياسي والإقتصادي والعسكري والدّبلوماسي، ويشمل تعاونًا بين أجهزة القمع والتّجسّس، وعند الإطاحة بأي حكومة تقدّمية، يُعيد اليمين (في بوليفيا والبرازيل وإكوادور وغيرها) العلاقات مع الكيان الصهيوني، بسرعة فائقة، واستعان اليمين الذي أطاح بالرئيس "إيفو موراليس" (بوليفيا) بالجيش الصهيوني لقمع الإحتجاجات ضد قادة الإنقلاب المدعوم أمريكيا، ووصف وزير الخارجية الصهيوني الحكومة الإنقلابية بالصّديقة، وفي فنزويلا، أعلن غُلام أمريكا (خوان غوايدو) الذي نَصّبته أمريكا رئيسًا افتراضيا، أنه سوف يبذل جهده لإعادة العلاقات مع كيان الإحتلال الصهيوني. أما في البرازيل فإن الرئيس اليميني المتطرف "جاير بولسونارو" مهووس بالكيان الصهيوني وسَرّبَ عدوى هذا الهُيام لأبنائه، فيما يرفع أنصاره العلم الصهيوني في كافة تظاهراتهم.
انظمّت "هندوراس"، يوم 24 حزيران/يونيو 2021، إلى الولايات المتحدة ودُوَيْلة كوسوفو وغوتيمالا، لتصبح رابع دولة تنقل سفارتها إلى القُدْس، بإشراف الرئيس اليميني "خوان أورلاندو هرنانديز" الذي أعلن توقيع اتفاقيات مع العدو الصهيوني في قطاعات الزراعة والتكنولوجيا العسكرية والسياحة والصحة والمياه وغيرها، في حين ما انفكّت تتزايد حالات الوفاة بين الفُقراء، بفعل انتشار وباء "كوفيد 19" بهندوراس...
يدعم الكيان الصهيوني أيضًا الرئيس التشيلي "سيباستيان بينيرا"، في قمع الإحتجاجات الشّعبية، كما دعم الجنرال "أوغوستو بينوشيه"، بعد انقلاب 1973، ويبيع الكيان الأسلحة ومعدات القمع و"مكافحة الشغب" إلى تشيلي (ودول عديدة أخرى)، مع إرسال خُبَراء القمع لتدريب قوات الشرطة والجيش على استخدام المُعدّات لقمع انتفاضة شعب تشيلي، منذ تشرين الأول/اكتوبر 2019، وشرطة وجيش بلدان أخرى بأمريكا الجنوبية، ولئن شكّلت تشيلي نموذجًا للتعاون القمعي مع الكيان الصهيوني، فإن كولومبيا تُعتَبَر نموذَجًا للتعاون القمعي وتبادل الخبرات مع الصهاينة بإشراف أمريكي، ما ساعد اليمين المتطرف الحاكم بكولومبيا على تزوير نتائج الإنتخابات، سنة 2018، ضد الفدائي اليساري السابق "غوستافو بيترو"، مع تهديده بالإغتيال، وشراء الأصوات وتهديد كل من يُدْلِي بصوته لفائدة "بيترو"...

كولومبيا، تعاون نموذجي بين الدّكتاتورية والصّهيونية:
في كولومبيا، تعتبر الولايات المتحدة والكيان الصهيوني من أكبر الدّاعمين عسكريا للسّلطة اليمينية المتطرفة، بقيادة الرئيس "إيفان دوكي"، ونفذت القوات شبه العسكرية اليمينية العديد من المذابح في كولومبيا، في أيلول/سبتمبر 2020، وهي قوات خاصة تابعة للجيش الكولومبي، بشكل غير ظاهر، تقوم بالإغتيالات وعمليات الإبادة، وأشرف الجيش الصهيوني على تدريبها...
نشر موقع "منْتبرسنيوز" يوم 28 أيار/مايو 2021 مقالاً بعنوان: "طُيُور بِريش فاشي، لماذا تدعم إسرائل الحملة (القمعية) الكولومبية على المُحْتَجِّين؟"
( Birds of a fascist feather : Why Israel is aiding Colombia’s crackdown on protesters – mintpressnews.com – May 28- 2021) )
انطلق المقال من تحليل صُوَرٍ تداولتها وسائل التّواصل "الإجتماعي"، ونُظهر الصور استخدام القوات الحكومية الكولومبية (بعد القوات التشيلية) أسلحة وعربات مُدَرّعة وطائرات آلية صهيونية، ضد المتظاهرين في العديد من المدن الكولومبية، خصوصًا خلال الإضراب الوطني الشّامل (بداية من 28 نيسان/ابريل 2021)، حيث أعلن المتظاهرون، ومنظمات الدّفاع عن حُقُوق الإنسان، عن وجود خُبراء و"مُتعاقدين عسكريين" صهاينة في مجال القمع، يدعمون قوات حكومة الرئيس اليميني المتطرف "إيفان دوكي"، كما دعموا الجيش الكولومبي بتقنيات أمنية وقمعية وبأنظمة التّعرّف على الوجه، كما دعموه في القتال ضد القوات الثورية المُسلحة، حيث يُعدّ الكيان الصهيوني ثاني أكبَر مُزَوّد حَرْبي لكولومبيا، بعد الولايات المتحدة، كما انشأ ضبّاط صهاينة متقاعدون شركات أمنية تُشغّل المُرتزقة بصفة "متعاقدين أمنيين"، ليسوا أعضاء رسميين في القوات المسلحة الكولومبية ولا يرتدون الزي الرسمي للجيش، ما يسمح للدّولة بإنكار جرائمهم ضد الحركة الثورية والقوى التقدمية واغتيال المُزارعين والصحافيين والنقابيين والسياسيين المُعارضين، ودَرّب الضّبّاط الصّهاينة عناصر الشرطة الكولمبية ومجموعات شبه عسكرية يمينية متطرفة مسؤولة عن معظم المجازر وأعمال الإرهاب في كولومبيا، منذ ما يزيد على خمسة عُقُود، وسبق أن ظهر الرئيس الكولومبي السابق "خوان مانويل سانتوس"، في شريط إشهاري لشركة مُرتزقة صهيونية (غلوبل سي إس تي) مُصرّحًا: "لقد ساعدنا هؤلاء الأصدقاء، الذين اكتسبوا خبرة كبيرة (في قمع الفلسطينيين) على العمل والحفاظ على الأمن بشكل أفضل"...
أعلنت البيانات الحكومية قَتْلَ ما لا يقل عن أربعة وأربعين مواطنا، خلال الإضراب العام، وإصابة أكثر من مائة بالذّخيرة (الصهيونية) الحَيّة، وتم الإبلاغ عن "اختفاء" خمسمائة شخص، خلال مُظاهرات كانت تعبيرًا عن ضائقة اقتصادية، نتيجة السياسات النيوليبرالية للنظام القائم، والتي اتّسمت بخصخصة قطاعات الصّحة والتّعليم والنّقل والمعاشات وخفض رواتب العاملين وفَرْض ضريبة القيمة المُضافة، بنسبة 19%، على استهلاك السّلع الغذائية الأساسية.
في مجال العلاقات الإقتصادية، وقّعت حكومة كولومبيا، سنة 2013، مع العدو الصهيوني "اتفاقية تجارة حرة"، وكما أسلفنا، فإن جزءًا كبيرًا من هذه التجارة يتمثل في استيراد كولومبيا أسلحة وخبرات قمعية وتجسّسية صهيونية، يُخْتَبَرُ بعضها على الفلسطينيين كما على السكان الأصليين بكولومبيا، مقابل نهب الصهاينة للمعادن الكولومبية كالفحم، والإنتاج الزراعي كالبُنّ والسّكّر، ففي سنة 2011، شكلت صادرات الأسلحة والخُبراء العسكريين والأمنيين نصف إجمالي الصادرات الصهيونية نحو كولومبيا، وساهم الجيش الصهيوني في طرد السكان الأصليين والمُزارعين من أراضيهم الزراعية الخصبة أو التي يحتوي باطنها على بعض المعادن، وتَرْعَى الإمبريالية الأمريكية هذا التّعاون بين حليفيْن هامّيْن لها، مُثَمِّنَةً دوْرَ كلٍّ منهما في منطقته وخارجها، حيث يتلقّى جيش كولومبيا أسلحة أمريكية بقيمة 461 مليون دولارا، سنة 2021، لتعزيز دوره في تخريب فنزويلا، بذريعة محاربة الإرهاب والجريمة المُنظّمة وتجارة المُخدّرات، وصرّح الرئيس الأمريكي "جوزيف بايدن"، إثر انتخابه، سنة 2020، وقبل تنصيبه، سنة 2021، أنه يُخطّط لتعزيز دور كولومبيا في مساعدة الولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، وزعزعة استقرار الأنظمة التّقدّمية، مثل فنزويلا وبوليفيا، مثلما رعت الإمبريالية الأمريكية دوْر الكيان الصهيوني في دعم الدّكتاتورية العسكرية بتشيلي (1973 – 1990) والدكتاتورية العسكرية بالأرجنتين (1976 – 1983).
نقلت القوات العسكرية والأمنية الكولومبية تقنيات القمع والخبرة الصهيونية إلى الخارج، بإشرافها على تدريب قوات الشّرطة بهندوراس وسلفادور والمكسيك وهايتي، التي تحتلها القوات الأمريكية بغطاء الأمم المتحدة.
سبق أن وصف الرئيس الفنزويلي الراحل "هوغو تشافيز" ( 1954 - 2013 ) كولومبيا بأنها "إسرائيل في أمريكا الجنوبية... فهي أداة للإمبريالية الأمريكية.، وتشن كلاهما حروبًا لا نهاية لها ضد السكان الأصليين، بالتزامن مع الحديث عن السلام الذي تُعرقلان تحقيقه..."، فيما افتخَر الرئيس الكولومبي "ألفارو أُورِيبي"، مُعلّم الرئيس "إيفان دوكي"، بالعلاقات المتينة مع الكيان الصهيوني، الذي نقل إلى كولمبيا تجربة مُصادرة الأراضي وقَمْع السّكّان الأصليين، ليصل عدد النازحين الكولومبيين إلى نحو 7,5 ملايين مواطن، سنة 2017، بحسب الأمم المتحدة، حيث لا يوجد في كولومبيا نظام فصل عنصري رسمي، بل نظام يعتمد مصادرة الأراضي بالعنف وإجبار سُكان الريف على إخلاء ومغادرة مناطقهم، فرارًا من المجازر ومن الصعوبات الإقتصادية...
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الكيان الصهيوني وكولومبيا، خلال منتصف عقد الخمسينيات من القرن العشرين، ونشر موقع "بريد الأطلس" باللغة الفرنسية، في الخامس عشر من شهر آب/أغسطس 2018، مقالا عن العلاقات التاريخية المتطورة بين نظام كولومبيا والكيان الصهيوني، ويُشير إلى تبادل الخبرات العسكرية والقَمْعِيّة، والدّعم المُتَبادل، فيما أشارت وزارة الخارجية الكولومبية إلى الدّعم العسكري الصهيوني الهام الذي استفاد منه جيش كولومبيا في حربه ضد المنظمات الثورية المُسلحة (مثل "فارْك" و " ELN ")، وفي قمع احتجاجات صغار الفلاّحين، وتبيع الدولة الصهيونية طائرات (بترخيص أمريكي) وطائرات بدون طيار وأسلحة ومعدات عسكرية للجيش الكولومبي، مع إشراف الضباط الأمريكيين والصهاينة على تدريب الجيش الكولومبي.
تغلغلت العصابات الإجرامية الصهيونية في كولومبيا (وبلدان أخرى بأمريكا الجنوبية) ونشرت وكالة الصحافة الفرنسية ( أ.ف.ب. ) يوم العاشر من كانون الأول/ديسمبر 2018، خبر "اكتشاف عصابة فساد إسرائيلية" تمارس نشاطها في كولومبيا، حيث ألقت الشرطة الكولومبية القبض، بعد سَنَتَيْن من التحقيق والتّقَصِّي، على ست صهاينة وكُولومِيَّيْن إثنَيْن (أحدهما ضابط شرطة)، أنشأُوا شبكة فساد، تُجّنّد نساء فقيرات لممارسة الدّعارة مع السّائحين الصهاينة، وصادرت مبلغ 45 مليون دولارًا، ووُجِّهت لهم تُهَم "الإستغلال والإستعباد الجنسي لفتيات قاصرات ونساء، في حالة فَقْر، وغسيل الأموال، بالإضافة إلى جرائم قَتْل" بحسب بيان القضاء في العاصمة "بوغوتا"، الذي أشار إلى توسيع نشاط هذه الشّبَكة إلى عدد من دول أخرى بأمريكا الجنوبية والبحر الكاريبي...


الوضع الحالي في كولومبيا:
ينشر الجيش والشرطة والجماعات شبه العسكرية العنف في البلاد، منذ أكثر من ستة عُقُود،و يعاني الشعب الكولومبي من العُنف الرسمي دون محاسبة أو متابعة ومعاقبة مرتكبيه، منذ خيانة "فرانسيسكو دي باولا سانتاندير" للقائد الثوري "سيمون بوليفار" في القرن التاسع عشر، حيث لم تتوقف الأوليغارشية الكولومبية أبدًا عن خَنْق أي صوت حُر وأي احتجاج وأية محاولة للثورة على الأوضاع السيئة القائمة، واتخذ العُنف منحى ومنعطفًا أكثر مأساوية مع اغتيال "خورخي إليسر جايتان"، سنة 1948، ومثّل ذلك الحادث المأسوي أساسًا لحرب لا هوادة فيها ضد الفئات الكادحة والفُقراء والسّكّان الأصْلِيِّين للبلاد، والمناضلين النقابيين والسياسيين المُعارضين للرأسمالية ولكبار مالكي الأرض، لا تزال هذه الحرب الطّبقية متواصلة، بدعم من دكتاتوريات العالم، وبدعم مباشر من الإمبريالية الأمريكية والكيان الصهيوني، وظهر ذلك بشكل جَلِيٍّ خلال الإنتفاضة التي بدأت بنهاية سنة 2020، وخصوصًا خلال الإضراب العام، حيث استمرت التّعبِئة الشعبية خلال أكثر من ستة أسابيع من بداية الإضراب الوطني الذي بدأ في جميع أنحاء البلاد يوم 28 نيسان/ابريل 2021، تستمر التعبئة (يوم العاشر من حزيران/يونيو 2021) ولم تُظْهر الحكومة إرادة سياسية للحوار حول مطالب الشعب، وأهمها وقف القمع ضدّ المتظاهرين الذي احتجّوا على السياسات النيوليبرالية للحكومة اليمينية للرئيس "إيفان دوكي"، وتُطالب لجنة تنسيق الإحتجاجات بالتفاوض على مطالب مختلف القطاعات، وتوقيع اتفاقية مُلْزِمَة للحكومة، وعقد ممثلو لجنة الإضراب الوطنية ولجنة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان (IACHR) اجتماعا مع منظمات حقوق الإنسان المحلية (تمبلورس و إنديباز وباييس...) يوم الثامن من حزيران/يونيو 2021، ودعا البيان الصادر عن اللقاء والمؤتمر الصحفي المشترك، الحكومة الكولومبية إلى استئناف عملية الحوار لمعالجة الأزمة الاجتماعية المستمرة، والكف عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها قوات أمن الدولة خلال الأسابيع الستة الماضية من الإضراب الوطني، وكانت الحكومة قد منعت وصول اللجنة في السابق لكن اضطرت للسماح بالزيارة، بعد ضُغُوط خارجية عديدة، وسبق أن نشرت العديد من المنظمات المحلية والخارجية تقارير عن حالات الوفاة والإصابات في الوجه، والإعتقال التعسفي والإختفاء القسري ، والعنف الجنسي والعُنصري ضد النقابيين والمدافعين عن حقوق الإنسان ، فضلاً عن المجازر في المناطق الريفية النّائية أو في الأحياء الشعبية الفقيرة بضواحي المُدُن، وتفيد معطيات معهد دراسات التنمية والسلام، بين تشرين الثاني/نوفمبر 2020 وأيار/مايو 2021 ، وقوع ما لا يقل عن 110 مجزرة بإجمالي 446 ضحية، واغتيال 342 من القادة الاجتماعيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، و 74 من الثوريين الموقعين على اتفاقيات السلام مع الحكومة.
يصِف الشعب الكولومبي منظومة الحُكْم الحالية ب"الأُورِيبِيّة"، نسبة إلى "ألفارو أوريبي فيليز" الذي تم انتخابه سنة 2002، في سياق الحرب الأهلية التي تمزق البلاد بين الدولة الكولومبية المدعومة من قبل الميليشيات شبه العسكرية والكيان الصهيوني والإمبريالية الأمريكية من جهة، والقوات الثورية المُسلحة الكولومبية وجيش التحرير الشعبي، من جهة ثانية، ويُعْتَبَرُ "أُورِيبي" حارسًا أمينًا لمصالح الشركات العابرة للقارات، خاصة الأمريكية، التي تستغل الثروات المعدنية والزراعية للبلاد، وتستولي على أراضي السكان الأصليين والمُزارعين، وتستولي على إنتاج الفلاحين والحِرَفِيِّين، وهو مدافع شرس عن النيوليبرالية التي أرهقت الكادحين والفُقراء، واتّسمت فترة حُكْم أوريبي بارتفاع معدل الاغتيالات والمذابح الانتقائية، وزيادة نُفُوذ كبار مالكي الأرض وعصابات تُجّار المخدرات التي تدعم جيش ومليشيات النظام خلال الحرب الأهلية للحرب الأهلية، مقابل الإستحواذ على الأرض، وطَرْد ساكنيها وأصحابها، كجزء من الحرب ضد "الأعداء الدّاخليين" للنظام وللعصابات (الإقتصادية والعسكرية ) التي تدعمه، فضلاً عن الدّعم العسكري الأمريكي الذي يعتمد على وجود سبع قواعد عسكرية أمريكية في كولومبيا، لمحاربة نظام فنزويلا، ولقصف أراضي "إكوادور" سنة 2008...
تنتج كولومبيا أكثر من 70% من الكوكايين على مستوى العالم، ويُستخدم هذا الإنتاج الضّخم من المُخدّرات لتخريب البلدان المجاورة (فنزويلا والبرازيل) وللتهريب نحو الولايات المتحدة، عبر المكسيك، ويستخدمه النظام القائم لرشوة بعض الفئات كالقُضاة، ولشراء الضّمائر، كما تتسم البلاد بانتشار العُنف المسلّح، حيث يقتل الجيش ورجال العصابات الإجرامية المُسلحة آلاف المواطنين، خاصة في الأرياف، وتم اكتشاف العديد من المقابر الجماعية التي دُفِنَ بها آلاف الضّحايا، مثل مقبرة "لاماكارانا" و "فيلا ديل روزاريو" والعشرات من المقابر الجماعية "السّرّيّة" الأخرى، وتدّعي قوات الجيش أنها قتلت "إرهابيين"، أي مقاتلين من المنظمات الثورية المُسلّحة، وكانت هذه المجازر، وعمليات افتكاك الأراضي، سببًا في النزوح القَسْري لملايين السّكّان من المناطق الرّيفية، ولا يمر يوم واحد دون اغتيال الفلاحين والنقابيين والنساء، ما أدّى، سنة 2019، إلى انتفاضة مجمل الفئات المُسْتَغَلَّة والمُضْطَهَدَة والمُتضرّرة من هذا النظام ومن ارتفاع عدد حالات وفاة الفُقراء تنيجة انتشار وباء "كوفيد 19"، ومن حُكومة الرئيس "إيفان دوكي"، تلميذ "أوريبي"، في مادّة الفساد وتمتين العلاقات مع عصابات المخدّرات والمليشيات اليمينية المُسلّحة التي تُموّل الحملات الإنتخابية للرؤساء اليمينيين، من "أورويبي" إلى "دوكي"، وتشتري الأصوات وتهدّد المُعارضين، بل وتغتالهم، بينما ينهار قطاع الصحة العمومية ويرتفع عدد الواقعين تحت خط الفقر إلى أكثر من 42,5%، وبلغ عدد العاملين بالقطاع الموازي، والمحرومين من الحقوق الإجتماعية 11 مليون (سنة 2017)، وتزامن هذا الوضع المُزْري مع زيادة قيمة الإنفاق العسكري إلى أربعة مليارات دولارا، وتمويل الميزانية من رفع ضريبة القيمة المُضافة على السلع الأساسية، ومنها الغذاء وخدمات الكهرباء ومياه الشُّرب، من 5% إلى 19% ضمن ما ادّعى الرئيس "دوكي" أنه "إصلاح ضريبي"، بينما يُهرّب الأثرياء المُخدّرات والثروة، ويتهرّبون من تسديد الضّرائب، فكانت القطرة التي أفاضت الكأس، فتوسّعت رُقعة الحرب الطّبقية في الأرياف وفي المناطق الحَضَرِيّة، في أحياء الطبقة العاملة بالمُدُن الكُبْرى...
تدعم الولايات المتحدة النّظام القمعي الدّموي بكولومبيا، خدمةً لمصالحها، ونُذكّر مرة أخرى بوجود سبع قواعد عسكرية أمريكية بأراضي كولومبيا التي أصبحت، سنة 2017، شريكًا رسميًا لحلف شمال الأطلسي (ناتو) ولذلك ليس من مصلحة الإمبريالية الأمريكية تغيير الوضع وإزاحة التحالف الطبقي الحاكم، خلال انتخابات 2022...
لم تحتل أخبار القمع بكولومبيا حيزًا هامًّا في البلدان ووسائل الإعلام والمنظمات التي تدّعي الدّفاع عن حقوق الإنسان، وهي منظمات دولية (عابرة للقارات) يتم تمويلها من قبل بعض المُؤسسات الرأسمالية "الخيرية" مثل "أُوبن ديمُكْراسي" (جورج سوروس) ومن الأوقاف والمنظمات شبه الحكومية الأمريكية والأوروبية، ما يجعل هذه المنظمات الحقوقية العابرة للقارات، تنشر بيانات عديدة ضد حكومات إيران وفنزويلا وسوريا، ونيكاراغوا وبوليفيا، وضد حماس وحزب الله، وتتجاهل أو تورد بيانات خجولة بشأن الكيان الصهيوني والولايات المتحدة والعديد من الحُكومات العميلة لها...

آفاق الإحتجاجات بأمريكا الجنوبية:
نجحت الإحتجاجات في تشيلي وكولومبيا وبيرو، رغم القمع الشّديد، في توضيح صورة الإستقطاب الطّبقي، وارتباط الأنظمة الحاكمة بعصابات الإجرام والمتاجرة بالبشر وبالمُخدّرات، ولعبت الإنتخابات دور المُتَنَفّس في تشيلي وفي بيرو، وفي بوليفيا، وقد يُصبح "غوستافو بيترو" الرئيس المُقبل في كولومبيا (29 أيار/مايو 2022)، وأظْهرت الحُكومات التّقدّمية في بلدان مثل البرازيل وفنزويلا وبوليفيا وإكوادور، أن اليسار بقي حبيس المنطق الرأسمالي (الكينزي) ولم يتمكّن من تغيير موازين القُوى الطبقية، ومن السيطرة على الإعلام ومنظومة التعليم وغيرها، ولا تتجاوز إنجازات اليسار بأمريكا الجنوبية، تحويل الفُقراء إلى مُستهلكين، بواسطة فُتات الرّيع الذي توزعه الحكومة وارتقاء بعض الفُقراء، بواسطة التعليم، والسّكن (خصوصًا في البرازيل) إلى فئات من البرجوازية الصغيرة التي تثور على النظام، عندما يعجز عن توزيع الرّيع، وتصطف وراء فئات البرجوازية العميلة...
بالإضافة إلى هذه العوامل الدّاخلية، تقف الإمبريالية الأمريكية بكل قواها لسدّ الطّريق أمام أي قوة تقدّمية بالعالم، وخصوصًا بأمريكا الجنوبية، وتستعين الولايات المتحدة بأوْفى حُلفائها (مثل الكيان الصّهيوني) لإدامة الفوضى وللسيطرة على الوضع في أمريكا الجنوبية، وتنظيم الإنقلابات العسكرية (تشيلي) و"الدّستورية" (البرازيل) والهجمات الإرهابية ومحاولات الغزو من الخارج (كوبا وفنزويلا)، وشن الحملات الإعلامية المتتالية، وغير ذلك من الوسائل، خدمة لمصالح الإمبريالية الأمريكية وشركاتها العابرة للقارات، ومُجَمّع الصّناعات العسكرية الأمريكي...
طبّقت العديد من أنظمة دول أمريكا الجنوبية الوصفات النيوليبرالية التي يدعو لها البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي والدول الرأسمالية الإمبريالية، واعتمدت على الجيش والشرطة والمجموعات والمُسلّحة والمليشيات اليمينية المتطرّفة، لِفَرْضِ نمط الحُكم الذي يقوم على ائتلاف رأسمالية الرّيع وكبار مالكي الأرض وتُجّار المُخدّرات، ووُكلاء الشركات الأجنبية العابرة للقارّات، وترسّخ هذا التّحالف على مَرّ العُقُود، خاصّة سنوات الدّكتاتوريات العسكرية في تشيلي والأرجنتين والبرازيل وغيرها، لذلك ليس من السّهل تغيير نمط الحُكْم والإنتقال سلميًّا إلى نمط آخر للإنتاج ونموذج آخر من المجتمع، ولا يختلف الأمر كثيرًا في البلدان العربية، حيث تمكّنت القوى الرجعية من الإلتفاف على انتفاضات شعوب تونس ومصر والبحرَيْن، وحَوّلت الإمبرياليةُ العراق وسوريا وليبيا إلى خراب...
يتطلب التغيير وجودَ قُوى ثورية مُنظّمة، وتحالفات محلية وإقليمية، وعالمية، لتنسيق النضالات والدّعاية لها وخلق شبكات تضامن دولي، عابر للحُدُود، بعد أن ظَهَرت حُدُود التّغْيير بواسطة الإنتخابات، وفق قواعد اللعبة التي حَدّدتها القوى الإمبريالية ووُكَلاؤُها...