الهجرة شدّة المعرفة


باسم سليمان
2021 / 8 / 27 - 00:02     

قراءة في ديوان الطوفان في نوحه الاخير
للشاعر ماجد مطرود

قال الشّاعر القديم :” ألا ليت شعري”

وفسّرت كلمة ” شعر” على أنّها المعرفة والمعرفة الفائتة عموماً وخصوصاً؛ لذلك,
الشّاعر يستحضرها كنوع من الغياب الذي يستحضره بطلسم ال” ليت” لكن لنذهب للتأويل،
الخروج عن ظاهر المعنى لمعنى آخرَ لسببٍ ما.

الإنسان كائن مصاب بالفقد،فهو منذ فقد جنّته وهو في حنين وما الشعر والغناء إلا ترجمة للمعرفة السّابقة بتلك الجنّة
وإغناء لحاضر الفقد بذكراها وهنا تأتي العتبة العنوانية لديون الشّاعر المنفي ماجد مطرود كدال حاسم
باستحضاره طوفان نوح والنّواح عبر الجناس اللفظي والصوتي في عتبته العنوانية ” الطوفان في نوحه الأخير”
وتحمل ثيمة طوفان نوح التطهير الذي مارسته السماء لإعادة الإنسان لطريق الجنّة ,
إلا أن الواقع يثبت أن الطوفان لم ينجز مهمته وهكذا تصبح كلمة النواح دلالة مضاعفة عن نهائية الفقد
وأنه مصير الإنسان الوحيد،

فالتاريخ كما يقول الشاعر في عتبة بؤرية للديوان تحدو كل نصوصه : (الزمن شاقولي، لاحضر فيه ولا ماض
إنما أحداث متداخلة, البريق فيه كلام الله وانطفاؤها هذا القلم)
في العتبة الثانية نجد كلمتين ” البريق – وانطفاؤها” وعلينا التوقف عند كلمة ” القلم”
فالكتابة بقدر ماهي تخليد للكلام هي أقرب إلى الطلل، فالطللية دلالة جذمورية ممتدة عبر الزمن والمكان
ومع ذلك عندما تتحول الأحاسيس والمشاعر والأفكار إلى كتابة تنفصل عن قائلها لتصبح طللاً يقف عليه الشاعر كأيّ طلل آخر يستحضره ويبكي زمنه الفائت
وبنفس الوقت تعمل الكتابة على تخليد الميت عبر القبر الظاهر/ الكتابة، هكذا تجتمع وحدة الأضداد لتكون محصلة
الشاعر صفراً في النهاية ونوح لم ينجز فلكه ولا طوفانه :
(يونس والحوت وأسماك شتى وضفادع ثكلى وآثار سنين
صالح، لا صلح له والناقة قد عقرت ورقاب قد نحرت وشخير وأنين)
الهجرة المعادل الموضوعي للجنّة/ الوطن
لاريب أنّ الهجرة لم تكن بجوهرها بحثاً عن عشبٍ وماء للإنسان القديم بقدر ما كانت تكفيراً عن ذنب الخطيئة
الخروج من الجنّة/ الوطن وعندما استقر حاول بناء مدينته كمحلته الأولى وعندما استطال في ينائه بلبلت السّماء فعله،
فالمعادل الموضوعي لا يمكن إقامته وعندما حطتِ الصحراء رحال الشّاعر في مدينة (تمبكتو) الأفريقية وكتب نصه
(ملحمة البمبرة… نزيف بين تمبكتو وبغداد) قدّم في جملته مدينة تمبكتو على بغداد ,
كأنه بذلك يحاول بناء محلته الأولى وهكذا ماجعل التناص يغدو ثيمة النص الأساسية من حيث أن التناص كتابة على كتابة
ترجو أن تكون الكتابة الثانية في هدفها المباشر استحضار الكتابة القديمة ( بغداد)
وفي الهدف البعيد إنجاز المحلة الثانية كبديل ومعادل موضوعي إلا أن السّماء نظرت لأضحية المهاجر/ الراعي هابيل
ورفضت أضحيت المزارع/ المستقر قابيل، فكان القتل ومن هنا نجد كيف أن التناص أعاد إنتاج بغداد
وأعاد انتاج الهجرة إلى مكان آخر :
( دعني أفتح السّماء وأدعي نهاية سعيدة
دعني أترك الصحراء، السؤال، الحسرة، المرّة /…./
أهجرهم جميعا
أهجرهم حتى تكشف الصحراء عن نهدين عذراوين
لصبيتين شقيتين
ويتسع سريري الطائر الحلمان
لمكانين بكرين
تمبكتو وبغداد
حينها أصلي بطريقة لائقة جداً
أصلي أكثر مما ينبغي
لعله يهدينا مدينة برية
(,,لم يمسسها بشر ولم تكن بغية,, )
في البدء كان الحدث
وضع الشاعرماجد مطرود نصوصه بتعدد عددي للأحداث، كأن يقول: الحدث الثالث؛ لبداية نصٍ جديد في الديوان
ثم يؤسس بعتبة عنوانية ثانية مع نص ثيمي يوجه حركة النص التصاعدية في مواجهة مع التاريخ الذي عدّه
حدثا شاقولياً ضاغطاً على رأس الإنسان ومؤكداً بذات الوقت على أن التاريخ ليس أرقاماً بل صور
وأحداث تتداخل لمن يؤمن بتناسخ الأحداث وبما أن الحدث الأول للإنسان كان الهجرة من محلته الأولى،
فلا بد أن الحدث بدعته الجديدة الذي يريد به جبّ خروجه الأول من الجنّة/ الوطن وإعادة تأسيس الوطن في الهجرة
بما أن المحلة الأولى صارت سراباً , من هنا جاءت كلمة الاستنساخ فالإنسان يريد العودة على بدء موقفاً حركة التاريخ
باستنساخه وإخراجه من التراكم العددي لتحويلة لبؤرة صراع مع الزمن الشاقولي الذي يضغطه عبر إعادة إنتاج حنينه/ وطن:
(حتى يسوع القلب تهالك منزوياً/كهلا
كالخسر أياماً وحروباً
قيد ساعته
ونسي فوق صليب الحب جروح أبيه
ثم نسي
في البدء يكون الهمس
فنام بظلّ الآريين سعيداً،
حتى انكسرت فرس الشمس ومات)
.
الطوفان في نوحه الأخير
دبوان شعر للشاعر العراقي المنفي ماجد مطرود يكتب فيه سيرة عبر ذاتية مخضبة بدم التاريخ وصديد الهجرة
عبر لغة (فاركوموسية) – سم وترياق تقبل أضحية دلالة وترفض أخرى، فتوّلد القتل من حيث أن القتل هو شدة المعرفة
والمعرفة خطيئة تستوجب الطرد والحرمان والكتابة قبر, بناء ,أول ما استحدث الإنسان في منفاه الأرضي
حيث الأنسان كائن منفي بالضرورة.