رأس المال: الفصل الرابع والعشرون (97) 5) انعکاس تأثير الثورة الزراعية على الصناعة. نشوء السوق الداخلية من أجل رأس المال الصناعي


كارل ماركس
2021 / 8 / 26 - 22:46     

ما يسمى بالتراكم الأولي
5) انعکاس تأثير الثورة الزراعية على الصناعة. نشوء السوق الداخلية من أجل رأس المال الصناعي
إن انتزاع ملكية السكان الريفيين على دفعات وبصورة متكررة على الدوام، وطردهم من أرضهم كانا يزودان صناعة المدن، كما رأينا، بجمهرة تلو أخرى من البروليتاريين لا صلة لها، قط، بالطوائف الحرفية، وهذا ظرف عويص حمل العجوز أ. أندرسون (الذي لا ينبغي خلطه مع جيمس أندرسون) في مؤلفه عن تاريخ التجارة، على الإيمان بتدخل مباشر من العناية الإلهية في ذلك. ويتوجب علينا أن نتوقف لحظة عند هذا العنصر من عناصر التراكم الأولي. إن تضاؤل كثافة سكان الريف المستقلين، الذين يزرعون حقولهم الخاصة، لم يفض فقط إلى زيادة كثافة البروليتاريا الصناعية، على غرار ما يفسر جوفروا سانت – إيلير زيادة كثافة مادة الكون في هذا الموضع، بتضاؤل كثافتها في موضع آخر(1). فقد أخذت الأرض، على الرغم من انخفاض عدد زارعيها، تدر الآن القدر نفسه من الغلة أو حتى أكثر من ذي قبل، نظرا لأن الثورة في علاقات الملكية العقارية اقترنت بتحسن طرائق الزراعة، وتوسع التعاون، وتركز وسائل الإنتاج، وما إلى ذلك، ولأن العمال الزراعيين المأجورين لم يرغموا على العمل بشدة أكبر فحسب(2)، بل كذلك لأن ميدان الإنتاج الذي كانوا يعملون فيه لأجل أنفسهم، تقلص أكثر فأكثر. ومع تحرر قسم من السكان الزراعيين، تحررت وسائل عيشهم السابقة هي الأخرى. فقد تحولت الآن إلى عناصر مادية لرأس المال المتغير. وصار على الفلاح، الذي جرد من ملكيته، وقذف به في الهواء، أن يبتاع قيمة هذه الوسائل على هيئة أجور من سيده الجديد، الرأسمالي الصناعي. وما يصح على وسائل العيش يصح على المواد الأولية التي تقدمها الزراعة المحلية للصناعة. فقد تحولت إلى عنصر من عناصر رأس المال الثابت.

لنفرض، على سبيل المثال، أن قسما من فلاحي وستفاليا، الذين كانوا، في عهد فريدريك الثاني، يتعاطون جميعا غزل الكتان، قد جرد عنوة من ملكيته وطرد من أرضه وعقاره، وأن القسم الآخر الباقي قد حول إلى أُجراء مياومين عند كبار المزارعين. لنفرض أنه تبرز، في الوقت نفسه، مؤسسات كبرى لغزل ونسج الكتان، يعمل فيها أولئك الرجال «المحررون» من الأرض الآن بصفة عمال. إن مظهر الكتان باق على ما كان عليه بالضبط. ولم يتغير خيط واحد من أليافه، ولكن روحا اجتماعية جديدة قد حلت في جسده منذ الآن. فهو يؤلف الآن جزءا من رأس المال الثابت لأصحاب المانيفاکتورات. وإذا كان الكتان، من قبل، موزعاً على عدد لا حصر له من المنتجين الصغار، الذين يزرعونه ويغزلونه بأنفسهم مع أسرهم بمقادير صغيرة، فهو يتركز الآن بين يدي رأسمالي واحد، يجعل الآخرين يغزلونه وينسجونه لأجله. لقد كان العمل الإضافي المبذول في غزل الكتان يتحقق، من قبل، في دخل إضافي لعدد وفير من الأسر الفلاحية، وكذلك – في عهد فريدريك الثاني – في ضرائب لأجل ملك بروسيا (pour le roi de Prusse). أما الآن فيتجسد في ربح لقلة من الرأسماليين. إن المغازل والأنوال، التي كانت مبعثرة في السابق في القرى، تحتشد الآن، على غرار العمال والمواد الأولية، في عدد قليل من ثكنات العمل الكبيرة. وتتحول المنازل والأنوال والمواد الأولية الآن، من وسائل عيش مستقل للغزالين والناجين، إلى وسائل للتحكم فيهم (3) واعتصار العمل غير مدفوع الأجر منهم. إن مظهر المانيفاکتورات الكبرى، شأنها شأن المزارع الكبرى، لا ينمّ البتة عن أنها نشأت من دمج عدد كبير من وحدات الإنتاج الصغيرة، وتأسست بانتزاع ملكية عدد كبير من المنتجين الصغار المستقلين. إلا أن المراقب غير المتحيز لن يخدع بذلك المظهر أبدا. ففي زمن میرابو، أسد الثورة هذا، كانت المانيفاکتورات الكبرى لا تزال تسمى (manufactures réunies) أي ورش عمل موحدة، مثلما نتحدث في الوقت الحاضر عن حقول موحدة.

يقول میرابو: «لا يتركز الانتباه إلا على المانيفاکتورات الكبرى التي يعمل فيها مئات الرجال تحت إشراف مدير واحد، والتي تدعى عادة بالمانيفاکتورات الموحّدة (manufactures réunies). أما تلك الورش التي يعمل فيها عدد ضخم جدا من العمال بصورة منفصلة، كل لحسابه الخاص، فإنها قلما تحظى بأي انتباه، بل وتقصى بعيداً إلى المؤخرة. وهذا خطأ فاحش، فهذه الأخيرة هي وحدها التي تؤلف حقاً قسماً مكوناً هاماً للرفاه الوطني… إن المعامل الموحدة (fabriques réunies) قد تثري واحدة أو اثنين من أرباب العمل ثراء فاحشاً، أما العمال فلن يكونوا أكثر من مياومين، يتقاضون هذا القدر من الأجور أو ذاك، من دون أن يشتركوا البتة في ثروة رب العمل. أما المعامل المنفصلة (fabriques separdes) فعلى العكس، لا تغني أحداً، ولكنها تؤمن الرفاه لعدد كبير من العمال… إن عدد العمال المقتصدين والمثابرین سوف يزداد، لأنهم يرون في حسن السيرة والمثابرة، وسيلة لتحسين وضعهم بصورة جوهرياً، عوضا عن السعي للحصول على زيادة طفيفة في الأجور لا يمكن أن تكون لها أيما أهمية بالنسبة إلى المستقبل. ونتيجتها الوحيدة، في أحسن الحالات، أنها تتيح للعامل أن يحسن وضعه قليلا، ولكن فقط من اليوم إلى الغد. إن المانفياكتورات الفردية المنفصلة، التي تقترن، عادة، بزراعة استثمارة صغيرة، إنما هي المشروعات الحرة الوحيدة»(4).

إن انتزاع ملكية قسم من السكان الزراعيين وطردهم من الريف، لا يقتصران على تحرير العمال ووسائل عيشهم ومواد عملهم من أجل رأس المال الصناعي، بل يفضیان إلى إقامة السوق الداخلية أيضاً.

والواقع أن الأحداث التي تحول الفلاحين الصغار إلى عمال مأجورين، وتحول وسائل عيشهم ووسائل عملهم إلى عناصر مادية من عناصر رأس المال، تخلق، في الوقت نفسه، سوقاً داخلية لهذا الأخير. لقد كانت الأسرة الفلاحية، فيما مضى، تنتج وسائل العيش والمواد الأولية التي كانت تستهلك معظمها هي بنفسها. أما الآن فإن المواد الأولية ووسائل العيش هذه غدت سلعة، ويقوم المزارع الكبير ببيعها، ويجد سوقه في المانيفاکتورات. إن الغزول والأنسجة الكتانية، والمنسوجات الصوفية الخشنة – وهي أشياء كانت موادها الأولية في متناول كل أسرة فلاحية، حيث كانت تقوم بغزلها ونسجها لاستعمالها هي بالذات – قد تحولت إلى مصنوعات تنتجها المانيفاکتورة، وتؤلف المناطق الريفية أسواقاً لها في الحال. إن الزبائن المستهلكين الكثيرين، المبعثرين، الذين كانوا، حتى الآن، يؤمنون حاجاتهم من جمهور من المنتجين الصغار الذين يعمل كل منهم لحسابه الخاص، هؤلاء الزبائن يتركزون الآن ليؤلفوا سوقاً واحدة كبيرة يتولى رأس المال الصناعي (5) تجهيزها بالمصنوعات. وهكذا، إلى جانب انتزاع ملكية الفلاحين المستقلين فيما مضى، وفصلهم عن وسائل إنتاجهم، يجري تدمير الصناعة الثانوية الريفية، وتجري عملية الانفصام بين المانيفاکتورة والزراعة. وتدمير الصناعة المنزلية الريفية هو وحده الذي يستطيع أن يعطي للسوق الداخلية في بلد من البلدان ذلك الاتساع والثبات اللذين يقتضيهما نمط الإنتاج الرأسمالي.

مع ذلك فإن المرحلة المانيفاکتورية، بالمعنى الدقيق للعبارة، لا تفلح في تحقيق التحول بصورة جذرية. ولا بد من أن نتذكر أن المانيفاکتورة لا تغزو الإنتاج الوطني إلا جزئياً، فهي ترتكز، دائمة، على قاعدة عريضة من الحرف اليدوية في المدن ومن الصناعة المنزلية الثانوية في الريف. فهي إن دمرت هذه الأخيرة في أحد أشكالها في فرع معين من الصناعة، وفي نقاط معينة، فإنها تستدعيها إلى الوجود ثانية في أشكال ومواضع أخرى، لأنها تحتاج إليها، في حدود معينة، لمعالجة المواد الأولية الضرورية لها. وعليه فإن المانيفاکتورة تخلق طبقة جديدة من صغار أهل الريف الذين يزاولون زراعة الأرض كعمل ثانوي، بينما يمارسون العمل الصناعي كعمل رئيسي، فيصنعون منتوجات يبيعونها إلى المانيفاکتورات، إما مباشرة، أو بصورة غير مباشرة، عن طريق التاجر. وهذا هو السبب، وإن لم يكن السبب الرئيسي، لتلك الظاهرة التي تحير، قبل غيرها، دارس التاريخ الإنكليزي. فابتداء من الثلث الأخير للقرن الخامس عشر، يواجه الدارس شکاوی مستديمة، لا تنقطع إلا خلال فترات، عن تنامي الاقتصاد الرأسمالي في الريف، وتفاقم دمار الفلاحين. إلا أنه يرى من جهة أخرى، أن هؤلاء الفلاحين موجودون دائما، وإن بعدد أقل، وفي حال أسوأ (6).. والسبب الرئيسي هو هذا: تغدو إنكلترا تارة بلداً يزرع الحبوب بدرجة رئيسية، وتغدو تارة أخرى بلداً يربي المواشي بدرجة رئيسية، وذلك على فترات متناوبة، مما يؤدي إلى تقلب نطاق الإنتاج الفلاحي. والصناعة الكبيرة هي وحدها التي تُرسي أخيراً، بواسطة الآلات، قاعدة راسخة للزراعة الرأسمالية، وتنتزع من الجذور ملكية الغالبية الساحقة من سكان الأرياف، وتنجز فصل الزراعة عن الصناعة المنزلية الريفية، إذ تستأصل جذور هذه الأخيرة، أي الغزل والنسيج (7).
ولهذا فإن الصناعة الكبرى وحدها تغزو السوق الداخلية برمتها من أجل رأس المال الصناعي (8).

______________

(1) راجع مؤلفه، مفاهيم الفلسفة الطبيعية. (1838)
(2) وهذه نقطة يشدد عليها السير جيمس ستیوارت. [بحث في مبادئ الاقتصاد السياسي، ج1، دبلن، 1770، الكتاب الأول، الفصل 16. ن. برلین].
(3) يقول الرأسمالي «إنني أمنحك شرف أن تخدمني شريطة أن تعطيني القليل مما بقي عندك وذلك لقاء الجهد الذي أبذله لحكمك». (جان جاك روسو، مبحث في الاقتصاد السياسي، [جنيف، 1760، ص 70])
(J. J. Rousseau, Discours sur l’Économie Politique, [Geneve 1760, p.70]).
(4) Mirabeau، میرابو، المرجع المذكور، المجلد الثالث، ص 20 – 109، ومواضع أخرى. أما ان میرابو يعتبر ورش العمل المنفصلة أكثر توفيراً وإنتاجية من ورش العمل «الموحدة» ولا يرى في هذه الأخيرة غير نبتات غريبة اصطناعية تقدم لها الحكومة الرعاية، فتفسير ذلك هو الوضع الذي كانت عليه أغلب المانيفاکتورات القارية آنذاك.
(5) «إذا جرى تحويل عشرين باوناً من الصوف، بدون وسيط، إلى ملبس سنوي لأسرة العامل، بما تبذله هذه بنفسها من جهد، في فترات الفراغ بين الأعمال الأخرى – فليس في ذلك غرابة تلفت النظر. ولكن خذ هذا الصوف إلى السوق، وابعثه إلى المصنع، وخذ منتوج هذا إلى السمسار، ومنه إلى البائع، وها أنت إزاء عملية تجارية ضخمة، يشترك فيها رأسمال اسمي يفوق قيمة الصوف عشرين مرة … على هذا النحو يجري استغلال الطبقة العاملة من أجل الحفاظ على السكان الصناعيين البائسين، وإدامة طبقة طفيلية من أصحاب الحوانيت، وإدامة نظام تجاري ونقدي ومالي وهمي»، (ديفيد أورکهارت، المرجع المذكور، ص 120).
(6) باستثناء عهد کرومویل. خرجت جماهير الشعب الإنكليزي خلال فترة الجمهورية، بجميع فئاتها، من درك الانحطاط الذي غاصت فيه خلال عهد آل تيودور.
(7) يعلم تاكيت أن صناعة الصوف الكبيرة قد انبثقت، مع استخدام الآلات، من المانيفاکتورات بالمعنى الدقيق للكلمة، ونتيجة لزوال المانيفاکتورات الريفية او المنزلية، (تاكيت Tuckett المرجع المذكور، المجلد الأول، ص 139-144). «إن المحراث والنير، هما اختراع الآلهة وصنعة الأبطال، فهل أن النول والمغزل ودولاب الغزل من نسب أقل نبلاً؟ إفصل دولاب الغزل عن المحراث، والمغزل عن النير، نحصل على مصانع ومآوي فقراء وائتمان وذعر مالي، وأمتين متعاديتين، أمة زراعية وأمة تجارية» (ديفيد أورکهارت، المرجع المذكور، ص 122). ولكن ها هو کیري يأتي ليتهم إنكلترا – ليس بدون وجه حق بالتأكيد – بأنها تسعى لتحویل سائر البلدان الأخرى إلى محض أمم زراعية، وترغب في أن تكون الصناعي لهذه الأمم. ويزعم بأن تركيا أصابها الخراب على هذا النحو، لأن إنكلترا «لم تسمح لمالكي الأرض وزارعيها، في تركيا بتوطيد وضعهم عن طريق تحقيق ذلك الجمع الطبيعي بين المحراث والنول، بین المسحاة والمطرقة». أنظر: تجارة العبيد. (125P .The Slave Trade) وبرأي کبري، فإن أوركهارت نفسه هو أحد المشاركين الرئيسيين في خراب تركيا، حيث روج فيها الدعاية للتجارة الحرة خدمة لمصالح إنكلترا. وألطف ما في الأمر أن كيري، وهو بالمناسبة خادم شغوف لروسيا، يريد أن يمنع عملية الانفصال هذه بواسطة نظام الحماية الجمركية، أي ذلك النظام الذي يُعجّل أصلا بهذا الانفصال.
(8) إن محبي الخير من الاقتصاديين الإنكليز، أمثال میل، روجرز، غولدوين سميث، ناوسیت، وأضرابهم، والصناعيين الليبراليين أمثال جون برایت وشركاه، يسألون الأرستقراطيين العقاريين الإنكليز مثلما سأل الرب قابيل عن أخيه هابيل: أين راح الآلاف من فلاحينا الملاك الأحرار (Freeholders)؟ – ومن أين جئتم أنتم بالذات؟ من دمار أولئك الفلاحين. ثم لم لا تسألون أيضا أين راح النساجون، والغزّالون والحرفيون المستقلون؟