وفاءا لشهداء الطلبة القاعديين


مصطفى بنصالح
2021 / 8 / 26 - 21:15     

فبقدوم شهر آب من كل سنة يتوجـّب علينا كمناضلين قاعديين وككافة الديمقراطيين المبدئيين المغاربة، التذكير بهذا الشهر وأيّامه التي فقدنا خلالها العديد من الرفاق من مختلف المشارب والاتجاهات.
وعلى عاداتنا كتصور وفي لإرث هؤلاء الشهداء لم نتخلف قط عن مهمة التعريف بشهدائنا الأبرار، شهداء حركة الطلبة القاعديين وشهداء الحركة الديمقراطية المغربية وشهداء الشعب المغربي وحركته التحررية، مصطفى بلهواري وبوبكر الدريدي وعبد الحق شباضة.. مناضلون لمّتهم التجربة الطلابية القاعدية، وصقلهم النضال في صفوف الحركة الطلابية من داخل الجامعة وخارجها، وهدفه تحسين شروط الدراسة وتحقيق تعليم شعبي ديمقراطي يلبّي طموح الشبيبة التعليمية ويقطع مع واقع الاستبداد الذي تقاسي منه الجماهير الشعبية المغربية.
فعلى هذا الأساس انخرط الرفاق الشهداء في صفوف الحركة القاعدية والتي مثلت لحظتذاك تجربة متميزة داخل الأوساط الطلابية العربية والعالمية، سواء بسواء.
ومن المعلوم جدا، أن حركة الطلبة القاعديين برزت للوجود أواخر السبعينات كاستمرارية نوعية ونقدية لتجربة الطلبة التقدميين السبعينية التي قادت أشغال المؤتمر الوطني الخامس عشر، والتي كانت حينها عبارة عن جبهة طلابية سياسية بين منظمتي الحركة الماركسية اللينينية المغربية داخل الجامعة، منظمة "إلى الأمام" ومنظمة "23 مارس".
لم يكن هذا الصعود سوى ثمرة نضال وصراع دام لسنوات، بين التوجه البيروقراطي الذي مثلته حينها الأحزاب السياسية الإصلاحية التي ألزمت الحركة الطلابية باختياراتها المهادنة والانتظارية، وبين التوجه الديمقراطي الذي سعى لبناء منظمة قوية ومكافحة، قادرة على ردع أعداءها، وعلى الدفاع على مصالحها، ومؤهلة للإسهام في التغيير المجتمعي المنشود جنبا إلى جانب جميع القوى التقدمية والديمقراطية المكافحة.. وهو التوجه الذي مثلته منظمات اليسار الجديد حينها.. وقد تمكن هذا المكون السياسي الجديد من تأطير الحركة الطلابية خلال هذه الفترة في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متوترة، تميّزت بالغليان الدائم في الشارع، وبروز الشبيبة التعليمية على واجهة النضالات لحدّ المبالغة في أدوارها في الصراع ـ اعتبرت خلال هذه المرحلة طليعة تكتيكية وقنطرة للعبور لصفوف الطبقة العاملة ـ إلى جانب هذا تصاعدت النضالات العمالية في أكثر من قطاع وانتفض الفلاحون الفقراء والمعدمون في أكثر من منطقة من أجل استرجاع أراضيهم المسلوبة، دون أن ننسى نضالات الشغيلة التعليمية والصّحية، واحتجاجات الجماهير الشعبية التي ناهضت بقوة موجة الغلاء وارتفاع الأسعار وتفشي البطالة..الخ
خلال هذه المرحلة بالذات احتد الصراع وبلغت شظاياه قلب النظام نفسه الذي لم يسلم من خيار الانقلابات العسكرية الفاشلة التي عاشها لمناسبتين متتاليتين سنتي 71 و72 من القرن الماضي.. الشيء الذي ساعد وبرّر تصاعد القمع الموجّه ضد جميع الأصوات السياسية المعارضة، والتي منع خلالها الاتحاد أوطم من مزاولة أنشطته وتم اعتقال قيادته ضمن حملة اعتقال واسعة همّت أغلبية أطر ومناضلي الحركة الماركسية واليسار الاتحادي المناضل، تلتها المحاكمات الجماعية الرهيبة التي وصلت أحكامها لحدّ المؤبّد وتنفيذ الإعدامات..الخ
وبطبيعة الحال وتناقض المصالح، لم يتوقف الصراع والنضال على أكثر من واجهة وفي أكثر من قطاع، في الشوارع، وفي القلب من المعامل والمصانع والضيعات والمناجم، في المدن والبوادي سنوات 79، 80 و84.. بالرغم من الملاحقات والاختطافات والاخفاءات القسرية والاغتيالات في واضحة النهار.. أوضاع رفع من حدّتها حال الجفاف الذي دام حوالي خمس سنوات متتالية عرفها المغرب حينها، عمّقتها الاختيارات السياسية والاقتصادية اللبرالية التي نهجها النظام في إطار ما اصطلح عليه حينها بالتقويم الهيكلي، كتتمة لمسلسل الارتماء التام والنهائي في حضن الامبريالية والانصياع لمؤسساتها ولشروطها المالية المجحفة.
في هذا السياق برز للوجود فصيل الطلبة القاعديين بالجامعة كتيار يساري ديمقراطي لم يتهاون في الدفاع عن الحق في تعليم مجاني وعن حق أبناء الشعب الكادح في كرسي بالجامعة.. وكان من مؤسسي هذا التيار، الشهيد مصطفى بلهواري الذي كرّس حياته الجامعية للنضال والمطالبة بتعليم ديمقراطي شعبي يتناسب مع طموحات الشعب المغربي وقواه الوطنية والديمقراطية.
فعلى اثر القرار الطبقي المشؤوم الذي كاد أن يلزم التلاميذ المرشحين لاجتياز امتحانات الباكالوريا بدفع رسوم مادية تمس مجانية التعليم، أضرب التلاميذ وانتفضوا في الثانويات والشوارع رفضا لهذا القرار الطبقي المجحف، واشتعلت المعارك في الشوارع لأيام قبل أن تتطور وتمتد لأغلب المدن المغربية مراكش والرباط وسلا وتمارة والقنيطرة والقصر الكبير وتطوان والحسيمة والناظور ووجدة ووزان وفاس وتاونات وبني ملال والفقيه بن صالح وخريبكة وأبي الجعد وواد زم..الخ
انطلقت الشرارة الأولى كما هو معلوم من مدينة مراكش في الخامس من يناير 1984، بحيث لم تعد الانتفاضة مقتصرة على التلاميذ ومحصورة بطلبهم وحقهم في المجانية، بل امتدت للأحياء الشعبية الفقيرة وأصبحت انتفاضة جماهيرية تطالب بتحسين الأوضاع وبوقف الزيادات في الأسعار وتوفير فرص الشغل للشباب، وتحسين الخدمات في المدارس والمشافي والإدارات..الخ
ومن موقع الحركة الطلابية، وانسجاما مع الشعار الخالد "لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة" انخرط أوطم في المعركة وقاد وأطـّر العديد من النضالات في هذا السياق، حيث كان للشهيدين مصطفى وبوبكر وجميع الرفاق القاعديين، بمشاركة رفاق مهدي وعمر، المساهمة الريادية في هذا الاحتجاج الشعبي.. وبعد أن استجمع النظام قواه شن حملة قمع واسعة استعمل خلالها الرصاص الحي والحصار والاعتقال العشوائي وسط الأحياء الشعبية ـ حي سيدي يوسف على الأخص ـ ومطاردة المناضلين الديمقراطيين في المدينة الذين قدّر عددهم بحوالي الأربعين، تلاميذ وطلبة وتقني ومحاميان وقائد لنقابة التجار الصغار..الخ
نال الشهيدان حصتهما بعد الاعتقال والتعذيب بمخافر الشرطة بمراكش وبالبيضاء وبدرب مولاي الشريف حيث بلغت مدة الحكم عشر سنوات بالنسبة لمصطفى وخمس سنوات لبوبكر، حيث سيصطدما، كما باقي رفاقهم، بواقع مزري داخل السجن، دفعهم توّا للمطالبة بتحسين أوضاعهم السجنية، وهو الشيء الذي رفضته إدارة السجن المتعنتة التي رفضت الانصياع لمطالبهم البسيطة المتمثلة في حق متابعة الدراسة بالثانوية والجامعة، وحق الحصول على الجرائد والمجلات والراديو والسماح بالزيارة المباشرة من طرف العائلات والرفاق والأصدقاء..الخ
وردّا على هذا التعنث الذي كان بمثابة تصريف للقرار السياسي الرسمي الذي أفصح عنه رئيس الدولة في خطاب ليلة 24 يناير والذي قرر خلاله منع المعتقلين السياسيين من متابعة دراستهم ومن التواصل مع العالم الخارجي والرأي العام الوطني والدولي.. وبعد استنفاد الرفاق لجميع الإمكانيات والوسائل الاحتجاجية المعروفة، من بيانات للرأي العام ورسائل للجمعيات الحقوقية الوطنية والدولية، ورسائل مفتوحة لوزير العدل..الخ انخرط الرفاق المعتقلون في سلسلة من الإضرابات عن الطعام تُوّجت بإضراب لا محدود فاقت مدته الستين يوما سقط خلالها الشهيد مصطفى وبعده بيوم الشهيد بوبكر العزيزين على قلوبنا والمنيرين لطريقنا.
أما الشهيد عبد الحق والذي انخرط هو كذلك في صفوف الطلبة القاعديين بداية الثمانينات بجامعة الرباط دفاعا عن برنامجهم الديمقراطي وعن خطهم النضالي، مناضل يُشهد له بمبدئيته وتفانيه الميداني، لم يتخلف عن جنازة الشهيدين، وكذلك عن المساهمة في الانتفاضة الشعبية بمدن الرباط سلا وتمارة.. تحمل مسؤوليته النضالية كاملة في إطار هياكل إوطم بكلية الآداب عبر مجلس المناضلين، وهو الشيء الذي كلـّفه الطرد من الجامعة ومن السنة النهائية لنيل شهادة الإجازة في الأدب العربي.
كان القرار قاسيا على عبد الحق ورفاقه في تيار الطلبة القاعديين.. ورغم التضييق والمطاردة استمر الشهيد في تحمل مسؤوليته في صفوف النهج الديمقراطي القاعدي لسنتين على الأقل، مؤطـّرا ومنظـّما ومدافعا عن برنامج الطلبة القاعديين. وبسبب من تشبّعه وإيمانه بالنظرية الماركسية وبالاشتراكية التي أملت عليه الارتباط المباشر بالطبقة العاملة، هزّ الرحال لمسقط رأسه البيضاء، المدينة العمالية بامتياز، متـّجها صوب الميناء.. باحثا عن الشغل وسط الطبقة العاملة مقتفيا خطوات الرفاق السابقين جبيهة وزعزاع والنوضة وآخرون من الرفاق الشيوعيين.
استمرت مغامرته هذه لسنة تقريبا قبل أن يتم اعتقاله بالمرسى، ولينتقل مباشرة للرباط ولتتم محاكمته بسنة سجن نافذة، قضاها كلها بسجن لعلو المشؤوم جنبا إلى جانب ثلة من الرفاق الشيوعيين من منظمة 23 مارس، حيث ذاقوا الويلات على يد مدير السجن وزبانيته الملقب بالكومندار.. فمن إضراب إلى إضراب شنت هذه المجموعة سلسلة من النضالات.. وأصدرت العديد من البيانات، والتي كان آخرها إضراب صيف 89 والذي دام 64 يوم مخلفا الشهيد عبد الحق وعاهات مزمنة خصّت الرفاق العلمي وبن عبد السلام وبوقرو..الخ
كان لا بد من التعريف بهؤلاء الشهداء، وهي أدنى مساهمة يمكن أن نقدمها في حقهم، وبشكل خاص في ظروف الجائحة هذه، شهداء شهر آب العظيم، انتموا جميعهم لحركة الطلبة القاعديين، ليسوا وحدهم الشهداء، بل ما يميزهم هو انتماؤهم لفصيل الطلبة القاعديين، فالشهداء كثر وكذا المعتقلين السياسيين الذين لا تعد لائحتهم ولا تحصر، ومن الواجب على جميع مناضلي الحركة الديمقراطية والتقدمية ألاّ يهملوا أو ينسوا هؤلاء الشهداء والمعتقلين الذين ضحـّوا بالغالي والنفيس من أجل قضية شعبنا التحررية
فلا الحجر أو الحظر قادر على منعنا من تخليد ذكرى شهداءنا الأبرار، والمجد والخلود لجميع الشهداء، والحرية الفورية والغير مشروطة لجميع الرفاق المعتقلين لأسباب سياسية ونضالية.

غشت 2021