سمير أمين: النهضة العربية الإسلامية، عن التحديث، التراث، القومية الشعبوية، الإسلام السياسي، دور الإمبريالية...


محمد الهلالي
2021 / 8 / 26 - 01:49     

"كانت النهضة الأوروبية نتاجا لديناميكية اجتماعية داخلية، وحلا مُقدّما من طرف التدخل الرأسمالي للتناقضات الخاصة بأوروبا في ذلك العهد. وخلافا لهذه التجربة، فإن ما نعته العربُ (من باب التقليد) بميلادهم الجديد (العودة إلى الأصل، كترجمة حرفية للكلمة الفرنسية Renaissance)، أي نهضتهم، في القرن التاسع عشر، لم تكم نهضة.
كانت أوروبا، التي جعلتها الحداثة قوية ومنافسة، تمارس على العالم العربي تأثيرا غامضا يتمثل في الجاذبية (الإعجاب) من جهة، والنفور (بسبب عجرفة غزوها) من جهة أخرى. إن النهضة العربية (الميلاد الجديد) تعاملت مع المعنى الحرفي لعبارة "الميلاد الجديد". واعتقدت أنه إذا "عاد العرب" إلى منابعهم (التي أهينت في فترة ما)، بما أن الأوروبيين فعلوا ذلك، فسوف يعثرون على مجدهم. لكن النهضة تجهل ما تعنيه الحداثة التي صنعت قوة أوروبا.
لم تنجز النهضة القطائع الضرورية مع التراث، وهو الأمر الذي يميز الحداثة. ولم تستوعب معنى العلمانية (اللائكية)، والتي هي الشرط الذي يسمح للسياسة بأن تصبح مجال التجديد الحر، أي مجال الديمقراطية بالمعنى الحديث للكلمة. اعتقدت النهضة أنه بإمكانها تعويض ذللك بقراءة جديدة للدين المُطهر من الانحرافات الظلامية. ولازالت المجتمعات العربية، إلى يومنا هذا، ضعيفة العدة لكي تفهم أن العلمانية (اللائكية) ليست "خصوصية" غربية، وإنما هي متطلب ضروري للحداثة.
لم تفهم النهضة ما تعنيه الديمقراطية، والتي هي تحديدا الحق في القطع مع التراث. لذلك ظلت النهضة سجينة الدولة الأوتوقراطية (الاستبداد)، وتأمل في مجيء مستبد "عادل" (وليس حتى مستبد مستنير)، والفرق الدقيق بين الاثنين دال جدا. لم تفهم النهضة أن الحداثة تولّد أيضا تطلّع النساء لتحررهن، وهو ما يمكنهن من ممارسة حقهن في الإبداع والتجديد والقطع مع التراث.
لقد اختزلت النهضة الحداثة في المظهر المباشر لما تنتجه: أي التقدم التقني. ولا يعني هذا الفهم المبسط إراديا أن صاحبه يجهل التناقضات التي تم التعبير عنها في النهضة، ولا أن بعض المفكرين الطليعيين كانوا واعين بالتحديات الواقعية للحداثة، مثل قاسم امين في ما يتعلق بأهمية تحرير النساء، علي عبد الرازق فيما يتعلق باللائكية، عبد الرحمن الكواكبي فيما يتعلق بالتحدي الديمقراطي. لكن هذه المنافذ لم تكن لها أية آثار، بل على العكس من ذلك، كانت ردة فعل المجتمع العربي هي التخلي عن اتباع الطرق المشار إليها. لم تكن النهضة إذن لحظة ميلاد الحداثة في الأراضي العربية، بل كانت لحظة إجهاضها.
قام جلبير الأشقر في كتابه الرائع "Les arabes et la Shoah, la guerre israélo-arabe des récits" (وقد ترجمه إلى العربية بشير السباعي تحت عنوان: "العرب والمحرقة النازية، حرب المرويات العربية-الإسرائيلية")، بتحليل عميق لكتابات رشيد رضا، الذي يعتبر آخر حلقة في سلسلة النهضة المنحرفة عن مسارها. لقد كتب رشيد رضا كتبه في العشرينيات من القرن العشرين، وألهم الإخوان المسلمين منذ بداية نشأتهم، كما أن الإسلام الذي اقترحه، والذي وصف بـ"العودة للأصول"، هو إسلام خالٍ من الفكر. إنه الإسلام المحافظ الذي يحقق مصلحة جماعة مُغلقة ويدعم وجودها، إسلام الطقوس. كما أن انخراط رشيد رضا والإخوان المسلمين في المذهب الوهابي (الذي هو تعبير حقود تّجاه كل توجه فكري نقدي، لا يستجيب إلا لمتطلبات مجتمع البدو القديم) هو إعلان عن قدوم الإسلام السياسي.
● حدود وتناقضات الحداثة:
إن الحداثة التي تطورت في ظل إكراهات فرضتها حدود الرأسمالية هي حداثة متناقضة تَعِدُ أكثر مما تنتج، وتولّد بناء على ذلك آمالا غير مشبعة. إن الإنسانية المعاصرة تواجه تناقضات هذه الحداثة (وهي الحداثة الوحيدة التي نعرفها إلى حدود اليوم) التي ليست إلا الحداثة التي أنشأتها المرحلة الرأسمالية. إن الرأسمالية وحداثتها هما عدوان للكائن البشري الذي اختُزل إلى مجرد بضاعة حاملة لقوة العمل. وفضلا عن ذلك، فإن عملية تحويل المنتجين إلى بروليتاريين على الصعيد العالمين (وهي العملية التي يحملها وينقلها تراكم رأس المال على هذا المستوى) تلغي (بالنسبة لأغلبية السكان الموجودين في محيط النظام الرأسمالي) كل إمكانية لإشباع الحاجات التي تَعِدُ الحداثة بإشباعها. إن هذه الحداثة، بالنسبة للأغلبية الساحة، هي بكل بساطة حداثة بغيضة. إن مشروعها هو مشروع عنيف، كما أن الرفض فعل سلبي. فنقائص المشروعات البديلة تقضي على فعالية التمرد، وتقود إلى الخضوع الفعلي لمتطلبات الرأسمالية والحداثة التي تدعي رفضهما. إن الوهم السياسي يتغذى من الحنين للماضي، أي لمرحلة ما قبل الحداثة. يتمردُ الوضع الماضوي بعنف مبرر في محيط النظام الرأسمالي، لكن هذا التمرد ليس إلا صيغة عصابية وعاجزة لكونه يرتكز على الجهل بطبيعة تحدي الحداثة.
تعبر النزعة الماضوية (أي النزوع الطاغي إلى الماضي) عن نفسها بلغات متنوعة، وهي عموما لغات التأويل الديني الشمولي الأصولي، التي تخفي، في الواقع، خيارا محافظا، أو تعبر عن نفسها باستعمال لغات إثنية مزينة بثوب الخصوصية، مُقصية الأبعاد الأخرى المكونة للواقع الاجتماعي، مثل الطبقات الاجتماعية... إن القاسم المشترك بين كل هذه الصيغ هو ارتباطها بأطروحة ثقافوية (أطروحة تبالغ في تقدير دور الثقافة) والتي بسببها يتم إضفاء خصائص لا تاريخية (تتجاوز مجال التاريخ) على الديانات والإثنيات، وهو ما يؤدي إلى اعتبار الهويات ثابتة. إن هذه الكيفيات في التعامل مع الديانات والإثنيات، والتي لا ترتكز على أي أساس علمي، لها مع ذلك قدرة كبيرة على تعبئة الجماهير المهمشة والتائهة بسبب عمليات التدمير التي تسببت فيها الحداثة الرأسمالية. ولكنها تعتبر، ولنفس الأسباب، وسائل فعالة للاستعمال المغرض والضار، وسائل تجد مكانتها داخل استراتيجيات تواجه الخضوع الواقعي لديكتاتورية القوى المسيطرة في العولمة الرأسمالية وعملائها المحليين.
إن الإسلام السياسي هو أفضل مثال عن هذا النمط من التدبير في رأسمالية المحيط. ففي أمريكا اللاتينية وأفريقيا يتمُ الاستعمال المُغرض لعملية تكاثر "الطوائف" الظلامية ذات التوجه البروتستانتي والمدعومة من طرف أجهزة أمريكا الشمالية لمحاربة لاهوت التحرير، واستغلال حالة اضطراب المقصيين وتمردهم ضد الكنيسة الرسمية المحافظة.
● علاقة الحداثة والديمقراطية واللائكية بالإسلام:
إن الصورة التي تقدمها المنطقة العربية والإسلامية عن نفسها اليوم هي صورة مجتمعات يحتل فيها الدين (أي الإسلام) الواجهة في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية، إلى حد يبدو أنه من غير المناسب تصور أن يكون الأمر مخالفا لهذه الصورة. فمعظم "المراقبين" الأجانب (المسؤولون السياسيون ووسائل الإعلام) يخلصون إلى أنه ينبغي على الحداثة، بله على الديمقراطية، أن تتلاءم مع هذا الحضور الثقيل للإسلام، ضاربة بذلك عرض الحائط بالعلمانية (اللائكية).
تشكل الحداثة قطيعة في التاريخ الكوني، ولقد نشأت ابتداء من القرن السادس عشر. وتنص الحداثة على أن الكائن البشري مسؤول عن تاريخه فرديا وجماعيا، وبذلك فهي تقطع مع الإيديولوجيات المسيطرة قبل عهد الحداثة. وتسمح الحداثة بقيام الديمقراطية، كما أنها تتطلب اعتماد العلمانية (اللائكية) بالمعنى المحدد التالي: الفصل بين الديني والسياسي.
أين هي، من هذا المنظور، شعوب منطقة "الشرق الأوسط" المعنية بهذا الأمر؟ إن صورة حشود الملتحين الساجدين، وأفواج النساء المحجبات تلهم القيام بخلاصات متسرعة فيما يخص مدى كثافة الانخراط الديني للأفراد. ونادرا ما تتم الإشارة للضغوطات الاجتماعية الممارسة للحصول على هذه النتيجة (...) من النادر أن يبحث الأصدقاء الغربيون ("المبالغون في تقدير دور الثقافة" الذين يطالبون باحترام تنوع القناعات) عن المعلومات المتعلقة بالتدابير المستعملة من طرف السلطات لتقديم هذه الصورة التي تلائم مصالحها. هناك بالفعل "متطرفون": لكن هل هم أكثر عددا من كاثوليكيي اسبانيا الذين يقومون باستعراضاتهم بمناسبة عيد الفصح؟ أم أكثر عددا من الحشود الهائلة في الولايات المتحدة الأمريكية الذين ينصتون للوعاظ؟
لم تقدم المنطقة، في جميع الحالات، هذه الصورة عن نفسها. فبعيدا عن الاختلافات بين البلدان المكونة لها، يمكن الحديث عن منطقة كبرى تمتد من المغرب حتى افغانستان، والتي تضم جميع الشعوب العربية (باستثناء شعوب الجزيرة العربية)، والأتراك والإيرانيين والأفغان وشعوب آسيا الوسطى (التي كانت تابعة سابقا للاتحاد السوفييتي)، وهي منطقة تزخر بمقومات كبرى فيما يخص النهوض بالعلمانية (اللائكية). لكن الوضع مختلف لدى الشعوب المجاورة، أي عرب الجزيرة العربية والباكستانيين.
لقد تأثرت التقاليد السياسية وبقوة، في هذه المنطقة المحددة أعلاه، بتيارات الحداثة الراديكالية: كانت الأنوار والثورة الفرنسية والثورة الروسية والشيوعية والأممية الثالثة حاضرة في جميع الأذهان، واحتلت حيزا أكبر من الحيز الذي احتلته النزعة البرلمانية (...). لقد ألهمت هذه التيارات المسيطرة النماذج الأساسية للتغيير السياسي التي اعتمدتها الطبقات الحاكمة، والتي يمكن وصفها، بناء على بعض جوانبها الشكلية، بـ"الاستبداد المستنير".
ينطبق ذلك، بكل تأكيد، على مصر في عهد محمد علي أو في عهد الخديوي اسماعيل. وقد استعمل تيار كمال أتاتورك في تركيا، والتيار التحديثي في إيران مناهج مماثلة. وتنتمي القومية الشعبوية التي ميزت المراحل القريبة منا تاريخيا لعائلة هذه المشاريع السياسية "التحديثية". وكانت المشاريع المستجدة والمستمدة من هذا النموذج عديدة (جبهة التحرر الوطني الجزائرية، تيار بورقيبة في تونس، تجربة عبد الناصر في مصر، تجربة حزب البعث في سوريا والعراق)، لكن القيادة (المنطلقات الأساسية) واحدة. أما التجارب التي تبدو في الظاهر متطرفة (أي الأنظمة التي وصفت بأنها "شيوعية" في أفغانستان واليمن الجنوبي) فلم تكن في الواقع مختلفة عن التجارب السابقة. لقد أنجزت جميع الأنظمة الشيء الكثير، ولهذا السبب استفادت من دعم شعبي واسع جدا. ولهذا السبب، فبالرغم من أن تلك الأنظمة لم تكن ديمقراطية، فإنها مهدت الطريق لتطور ممكن في هذا الاتجاه. ففي بعض الظروف، مثل ظروف مصر (من سنة 1920 إلى سنة 1950) تم خوض التجربة الديمقراطية الانتخابية، وتم تدعيمها من طرف القوة المعتدلة المعادية للإمبريالية (أي حزب الوفد)، كما تمت محاربتها من طرف القوة الإمبريالية المسيطرة (بريطانيا العظمى) وحلفائها المحليين (الملكية). ولم ترفض الشعوبُ العلمانية (التي طبقت بصيغ معتدلة في الواقع)، بل كان الرأي العام يرى أن رجال الدين هم ظلاميون، وهذه صفة تنطبق على معظمهم.
لم تكن التجارب التحديثية (من الاستبداد المستنير إلى القومية الشعبوية الراديكالية) نتيجة للصدفة، لقد كانت مفروضة من طرف حركات سياسية قوية كانت مسيطرة في أوساط الطبقات المتوسطة، وكانت تعبر من خلال هذه الوسيلة عن إرادتها في فرض نفسها في العولمة الحديثة كشريك كامل يتمتع بجميع حقوق الشريك. كانت هذه المشاريع التي يمكن نعتها بـ"المشاريع البرجوازية الوطنية" تحديثية تنحو نحو العلمانية (اللائكية)، وهي مشاريع تحمل بالقوة تطورات ديمقراطية، لكن هذا الأمر يعود بالتحديد لكون هذه المشاريع دخلت في صراع مع مصالح الإمبريالية المسيطرة، ولقد حاربت هذه الأخيرة تلك المشاريع بدون كلل وعبأت لهذا الغرض القوى الظلامية.
إننا نعرفُ تاريخ الإخوان المسلين، هذه الحركة التي أسست في العشرينيات من القرن الماضي في مصر على يد البريطانيين والملكية لقطع الطريق على حزب الوفد الديمقراطي العلماني (اللائكي). ونعرف تاريخ عودتهم المكثفة من منافيهم السعودية بعد وفاة جمال عبد الناصر، تلك العودة التي نظمتها المخابرات المركزية الأمريكية وأنور السادات. ونعرف تاريخ حركة طالبان التي تكونت من طرف المخابرات المركزية الأمريكية وباكستان من أجل محاربة "الشيوعيين"، الذين فتحوا المدارس للجميع ذكورا وإناثا. بل نعرف أن الإسرائيليين دعموا حركة حماس في بداياتها لإضعاف التيارات العملانية (اللائكية) والديمقراطية في المقاومة الفلسطينية.
كان الإسلام السياسي سيواجه العديد من الصعوبات لكي يتخطى حدود العربية السعودية وباكستان بدون الدعم الحاسم والدائم والقوي للولايات المتحدة الأمريكية (...). فالتحالف ما بين الإمبريالية والطبقة الحاكمة "التقليدية" الذي تمّ توطيده مباشرة، كان لصالح الطرفين، وأعطى نفسا جديدا للإسلام السياسي الرجعي الوهابي. وتوصل البريطانيون من جهتهم إلى تدمير الوحدة الهندية بإقناع القادة المسلمين بخلق دولة خاصة بهم، دولة سجنت نفسها في الإسلام السياسي بسبب عقد ميلادها نفسه. سنلاحظ أن "النظرية" التي أضفت الشرعية على هذا الاختيار، تلك النظرية المنسوبة للمودودي، تمت صياغتها قبليا وكليا من طرف المستشرقين البريطانيين في مقرات مصالح المخابرات البريطانية.
لذلك نفهم أن المبادرة المتخذة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية لتدمير الجبهة المتحدة لدول آسيا وأفريقيا التي تأسست في باندونغ (1955)، هدفت إلى تأسيس "مؤتمر إسلامي" حصل مباشرة (منذ سنة 1957) على دعم العربية السعودية وباكستان. لقد اخترق الإسلام السياسي المنطقة من خلال هذه الوسيلة.
إن أدنى خلاصة علينا استخلاصها من هذه الملاحظات المذكورة أعلاه هي أن الإسلام السياسي ليس نتاجا تلقائيا لتأكيد الشعوب المعنية على القوة الأصيلة لقناعاتها الدينية. لقد تم بناء الإسلام السياسي اعتمادا على العمل المنظم والمستمر الذي قامت به الإمبريالية المدعومة بالقوى الرجعية الظلامية وطبقات البرجوازية الكومبرادورية التابعة. وبناء على ذلك، فإن مسؤولية اليسار، الذي لم يعرف كيف يواجه ذلك الوضع، هي مسؤولية قائمة ولا تقبل المناقشة". (ترجمة: محمد الهلالي).

المرجع:
- Samir Amin, Mémoires, l’éveil du sud, éditions NENA, 2019.