كيف تبلور مفهوم المرحلة الوطنية الديمقراطية بعد الاستقلال؟


تاج السر عثمان
2021 / 8 / 25 - 23:44     

1
عندما تأسست الحركة السودانية لتحرر الوطني – حستو ( الحزب الشيوعي قيما بعد) ، طرحت المهمة المباشرة وهي تحرير البلاد من الاستعمار ، وطرحت الجلاء وحق تقرير المصير للشعب السوداني بديلا لشعاري " وحدة وادي النيل تحت التاج المصري" الذي كانت ترفعه الأحزاب الاتحادية ، و"السودان للسودانيين" تحت التاج البريطاني الذي كانت تطرحه الأحزاب الاستقلالية مثل حزب الأمة، كما طرحت الحركة تحرير البلاد من البؤس والفقر الذي عاني منه شعب السودان بعد الحرب العالمية الثانية التي ارتبطت بارتفاع الأسعار والندرة في السلع الأساسية، وتجهت مباشرة للدفاع عن قضايا العمال والمزارعين والكادحين ، وارتبطت بالنضال الجماهيري ضد الاستعمار ، وتاسيس هيئة شؤون العمال في عطبرة ، وتحسين احوال العاملين المعيشية، كما ساهمت في تأسيس اتحادات المزارعين والمعلمين والطلاب واتحاد العمال والموظفين ، و اتحادات الشباب والنساء ، ومنظمات الدفاع عن السلم العالمي .
لقد ارتبط الحزب الشيوعي بقضايا الجماهير، كما أشار عبد الخالق محجوب في كتابه لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني حتى أصبحت هذه الحقيقة سرا من أسرار بقاء الحزب الشيوعي السوداني ونموه ومنعته وتأثيره المباشر على مجمل الحياة السياسية في السودان ، رغم ما تعرض له من ملاحقة وبطش من كل الأنظمة والحكومات منذ العهد الاستعماري .
2
بعد الاستقلال رفض الحزب الشيوعي شعار " تحرير لا تعمير " الذي طرحه الحزب الاتحادي ، وطرح ضرورة ارتباط التحرير بالتعمير ، كما في الشعار البديل "لاتحرير بلا تعمير".
لقد عبر شعار لا تحرير بلا تعمير " عن نفسه في برنامج الجبهة المعادية للاستعمار التي كان تحالفا واسعا ضم الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين لخوض انتخابات نوفمبر 1953 الذي كان من أوائل البرامج التي ركزت على مطالب الشعب التاريخية في مستوى المعيشة والتعليم والصحة والضمانات الاجتماعية الحريات الديمقراطية التي لازالت تنتظر الحل مثل: سياسة خارجية مستقلة ،نظام جمهوري برلماني ديمقراطي، ، الحريات الديمقراطية: حرية الصحافة، العقيدة، التعبير، الخطاب، الاجتماع، التظاهر، الإضراب، تكوين الأحزاب، كفالة الحريات النقابية، إلغاء القوانين المقيدة للحريات، حماية التجمعات القومية من القهر القومي واعطائها حق الحكم الذاتي وتنظيم قوانينها المحلية وفق إرادتها في نطاق وحدة البلاد ومصلحتها العامة وتصفية الحكم القبلي، تحسين أحوال العاملين: زيادة الأجور، تحديد ساعات العمل، التأمين ضد التشريد، الضمان الاجتماعي، وتحريم تشغيل الأطفال دون الثانية عشرة، والدفاع عن مطالب المزارعين : بتعديل لوائح المياه لمصلحة المزارعين واعتبارهم شركاء في جميع المشاريع الزراعية وتحريم الربا وإلغاء الضرائب المجحفة بهم وتأمين الأرض والمياه لكل مزارع، ورفع المستوى الصحي والثقافي وتحسين كل مظاهر الحياة في القرية، وتخفيض الضرائب عن جميع الفئات الشعبية ورفعها على الشركات الأجنبية وأصحاب الأملاك الأغنياء وإلغاء ضريبة الدقتية، بناء اقتصاد وطني مستقل : صناعة وطنية ، إنتاج زراعي ، بنك للتسليف الزراعي ، تنشيط العلاقات التجارية مع كل دول العالم على قدم المساواة، تحقيق مطالب الشباب: بالاهتمام بالحركة الرياضية، الأندية الثقافية والرياضية وتشجيع حملات محو الأمية وقيام مكتبات وطنية، حمتية وتطوير تراث البلاد الفكري ومكافحة الخرافة والثقافة الاستعمارية وثقافة الانحلال وسط الشباب ، الدفاع عن حقوق المرأة ،بتحقيق: الأجر المتساوي للعمل المتساوي، حماية الأم والطفل، ايجاد الوسائل اللازمة لتأمين ذلك، دور توليد، حضانة، علاج مجاني،. الخ، توسيع الخدمات الصحية والتعليمية، تحسين أوضاع ومرتبات الجنود والبوليس ( للمزيد من التفاصيل : راجع برنامج الجبهة المعادية للاستعمار 1954) .
3
وجاء المؤتمر الثالث للحزب في فبراير 1956 ، ليطور شعار " لا تحرير بلا تعمير" كما في برنامج مرحلة الثورة الوطنية اليمقراطية التي تستهدف استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي ، وتحقيق المجتمع الزراعي الصناعي المتطور، وطور الحزب هذا البرنامج كما في برامج المؤتمر الرابع 1967، المؤتمر الخامس 2009، والمؤتمر السادس 2016. ، فما هو مفهوم المرحلة الوطنية الديمقراطية ؟
مفهوم المرحلة الوطنية الديمقراطية
المرحلة الوطنية الديمقراطية هي المرحلة الانتقالية للاشتراكية ، والتي في الوقت نفسه تتشابك وتتداخل في مستويات معينة مع المرحلة الاشتراكية، وبالتالي لايمكن الفصل بين المرحلتين، ومع ذلك مهم الوضوح حول أن المرحلة الوطنية الديمقراطية مرحلة قائمة بذاتها في مسار الثورة السودانية.
وكان المؤتمر الرابع قد أشار حول المرحلة الوطنية الديمقراطية الي الآتي:
* ما زالت بلادنا تعيش مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، ومهام هذه المرحلة التي حددها المؤتمر ذات شقين:
المهام الوطنية الخاصة بدعم الاستقلال السياسي والذي لايمكن أن يتحقق بغير انجاز الاستقلال الاقتصادي والتحرر من التبعية للاستغلال الرأسمالي.
ومهام ديمقراطية تتلخص في ازالة كل العلاقات الاجتماعية والإنتاجية المتخلفة التي تحول دون التقدم وتحبس الطاقات الخلاقة للجماهير.
هذه المهام الوطنية الديمقراطية لايمكن الفصل بينها لأنها تكمل بعضها.
* كما حدد المؤتمر الرابع القوي الاجتماعية صاحبة المصلحة في انجاز مهام هذه المرحلة في :
الطبقة العاملة وجماهير المزارعين والمثقفون الثوريون والرأسمالية الوطنية.
اما أعداء هذه المرحلة فهم: الاستعمار بشقيه القديم والحديث والعناصر التي يستند اليها في داخل البلاد وصاحبة المصلحة في الابقاء علي التخلف والتبعية.
وهذا التحديد للمرحلة ومهامها وقواتها واعدائها هو مانسميه باستراتيجية الحزب.
* كما أشار المؤتمر الرابع الي أن الجبهة الوطنية الديمقراطية هي التعبير عن تحالف القوي الاجتماعية لهذه المرحلة، أي ان الحزب الواحد بما في ذلك الحزب الشيوعي لايصلح كاداة للتحالفات المطلوبة لانجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية.
كما توصلنا منذ دورة ل.م اغسطس 1977م، وفي المؤتمرين الخامس والسادس الي أن الوصول لهذه السلطة يتم بطريق ديمقراطي جماهيري تعددي.وان الدور القيادي للطبقة العاملة يتم بقناعة الناس وليس بالفرض أو الوصاية.
وبالتالي، فان استراتيجية الحزب حاليا هي انجاز المهام الوطنية الديمقراطية.
4
* مع هذا التحديد الواضح لاستراتيجية الحزب، نأخذ في الاعتبار أن المرحلة الوطنية الديمقراطية تشكل التربة الصالحة لنمو جنين العلاقات الاشتراكية والتي تتفاعل مع السمات والخصائص المحلية، أى أنه ليس هناك فصل ميكانيكي بين المرحلة الوطنية الديمقراطية والمرحلة الاشتراكية.
* أشار ماركس في مؤلفه " نقد برنامج غوتا" الي أن التشكيلة الاشتراكية تتخلق داخل التشكيلة الرأسمالية، وتخرج من احشاءها ، بالتالي سوف تكون حاملة لتناقضاتها لفترة طويلة، وبالتالي، فان قانون القيمة الخاص بحركة السلع سوف يظل فاعلا، ولذلك أشار ماركس الي التفاوت في قدرات وعمل الناس، وبالتالي يستمر التفاوت في الدخل، أي" يأخذ الانسان حسب عمله"، أي أن الحق البورجوازي يظل مستمرا حتي في المرحلة الاشتراكية، والتي يتم فيها لجم التطور الرأسمالي بتحويل فائض القيمة أو الفائض الاقتصادي لتوفير احتياجات الناس الأساسية: في التعليم والصحة، حماية الامومة والطفولة والشيخوخة وتحقيق العدالة الاجتماعية بمفهومها الاشتراكي.
لكن من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الاشتراكية هي طور ادني من المجتمع الشيوعي، أو مرحلة انتقالية طويلة للوصول للمجتمع الشيوعي الذي يشكل بداية تاريخ الانسانية الحقيقي، ويتحقق فيه شعار "من كل حسب قدرته ولكل حسب حاجته"، وتطور الفرد الحر كشرط لتطور المجموع الحر، والانتقال من مملكة الضرورة الي مملكة الحرية، واضمحلال الدولة كاداة للقهر والقمع وتحولها لأداة لخدمة الناس، وليس الغاءها، وفي المجتمع الشيوعي يتم الغاء كل اشكال القهر الطبقي والقومي والجنسي والاثني، ويتم فيه الغاء قانون القيمة الذي يتم فيه سيطرة المنتوج علي المنتجين (زوال الاستلاب).
كما انه من المهم أن نأخذ في الاعتبار أن الاشتراكية هي حركة نضال يومي، فكل خطوة نخطوها في اتجاه تحسين احوال الناس المعيشية والثقافية تقربنا من هدف الاشتراكية.
5
* في تجديد المشروع الاشتراكي، توصلنا الي الآتي :
- ضرورة التعددية السياسية والفكرية والثقافية، وتعدد القطاعات الانتاجية (ملكية دولة، تعاونية، مختلط، خاص. الخ)، مع الدور القيادي لقطاع الدولة.
- نبذ فكرة الحزب الواحد ، واعتماد الديمقراطية وسيادة حكم القانون، وحرية العقيدة والمعتقد.
- الحل الديمقراطي السلمي للمسألة القومية علي أساس حق تقرير المصير في ظروف الديمقراطية وحرية الإرادة ، كحق ديمقراطي انساني.
-المساواة الفعلية بين المرأة والرجل، علما بأن المساواة في القانون لايعني المساواة في الحياة، وبالتالي، لابد من الصراع الثقافي الطويل النفس لازالة البنية الثقافية التي تكرس دونية المراة.
- حماية السلام العالمي ونبذ الحروب والحد من التسلح، والتضامن مع الشعوب من اجل سيادتها وحقها في السيطرة علي مواردها الاقتصادية واختيار نظمها السياسية والاقتصادية والثقافية، وحقها في التبادل المتكافئ.
مع ذلك، نأخذ في الاعتبار تداخل وتشابك هذه المراحل: الفترة الانتقالية الحالية وانجاز مهامها التي تفتح الطريق لانجاو مهام الثورة الوطنية الديمقراطية ، المرحلة الاشتراكية، ومرحلة الشيوعية.
صحيح أن المرحلة الشيوعية مازالت هدفا بعيد المنال، وحتي الاشتراكية ، اذ أن الهدف المباشر الان انجاز المهام الوطنية الديمقراطية، بل الأكثر الحاحا حاليا هو: انجاز مهام الفترة الانتقالية أو البرنامج اسعافي: يتم فيه اصلاح كل الخراب الذي تم في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاخلاقية، وهذا البرنامج يتداخل ويتشابك مع المهام الوطنية الديمقراطية، اذ أن كل خطوة نحققها في ذلك، تقربنا من البرنامج الوطني الديمقراطي.
لكن لايغيب عن بالنا، علي المدي البعيد، يجب أن يكون هدفنا المجتمع الشيوعي الذي هو الطور الأعلي من المجتمع الاشتراكي، والذي يبدأ فيه تاريخ الانسان الحقيقي، وتزول فيه كل اشكال الاستغلال، فالاشتراكية هي الطور الادني من المجتمع الشيوعي والذي يظل فيها قانون القيمة الذي يعبر عن التفاوت موجودا، واذا لم يتم لجم التطور الرأسمالي من السهل الارتداد من الاشتراكية الي الرأسمالية.
وبالتالي من المهم أن يكون هدفنا المجتمع الشيوعي، والذي يستمد اسم الحزب الشيوعي السوداني منه كتعبير عن ذلك الهدف البعيد.