تقادم الماركسية !!


فؤاد النمري
2021 / 8 / 25 - 18:21     

القول بتقادم الماركسية المعمم اليوم، أي أن الماركسية لم تعد قادرة على تفسير التطورات المتلاحقة في النظام العالمي المعاصر، قول لا يصح إلا إذا كان من يقوله ماركسياً ذا علم . الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن من يتقوّل بمثل هذا القول الجهول لا علاقة له بالماركسية من قريب أو بعيد . فالماركسية هي أولاً وأخيراً نهج محدد بقراءة علم التاريخ كما هو –نقول علم التاريخ لأن أبا علم التاريخ ومؤسسه هو كارل ماركس . هذا من جهة ومن جهة أخرى، فماركس لم يُعنَ قط بالنظام الإشتراكي بل رفض رفضاً قاطعاً أن يقول كلمة واحدة عن النظام الإشتراكي سوى بوجوب استباقه بإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا ؛ ذلك يعني دون لبس أو إبهام أن ماركس لا شأن له بالإشتراكية السوفياتية سواء كانت ناجحة أم فاشلة . ماركس يواجه مثل هؤلاء القوالين بالقول .. إقرأوا التطورات المتلاحقة في النظام الدولي المعاصر ، إقرأوها كما هي كيما تكونوا ماركسيين ذوي علم مؤهلين للحديث في الماركسية، فأنتم أيها القوّالون لستم ماركسيين قبل أن تنجحوا في قراءة النظام الدولي كما هو .

إذاً المسألة العصيّة التي يواجهها الماركسيون اليوم هي استعصاء قراءة النظام الدولي القائم كما هو .
لكن لماذا لم ينجح عشرات ألوف المتمركسين من مختلف الدرجات في العالم في قراة النظام الدولي القائم كما هو حتى اليوم !؟
الحقيقة الكبرى الصادمة والتي لم تصدم حتى الساعة عامة المتمركسين وغير المتمركسين هي أن التاريخ كان قد انتهى في سبعينيات القرن الماضي وما العقود الخمسة او الستة التالية لانتهائه إلا الوقت الإضافي الذي تطلبه التاريخ ليضبضب أغراضة . ضبضبة الأغراض ليست جزءاً من التاريخ وليس لها قوانين كما للتاريخ وليست علماً كما علم التاريخ ؛ ولهذا يفشل المتمركسون في قراءتها ولا ينجحون بالتالي في أن يكونوا ماركسيين من ذوي العلم .

لم تنهزم ألمانيا النازية في العام 1945 إلا بعد أن تسببت بانهيار العوالم الثلاث الموروثة عن الحرب . بدأ الإنهيار في الإتحاد السوفياتي . فما كانت لتنهزم ألمانيا النازية إلا بعد أن تحول الإتحاد السوفياتي من دولة اشتراكية قلباً وقالباً إلى دولة حرب قلباً وقالباً أيضاً . بعد انتهاء إعادة الإعمار في العام 1951 لم يبقَ في دولة الحرب التي ما انفكت تحمل اسم الإتحاد السوفياتي، دولة الحرب المترامية الأطراف والمشكلة من خمس عشرة جمهورية فيها عشرات القوميات، لم يبقَ فيها نَفَس إشتراكي سوى قائدها قائد إنتفاضة أكتوبر البلشفية 1917 يوسف ستالين .
لم تخالجني أدنى شكوك بأن ستالين بما اكتسب من مهابة طاغية وحب وتقدير ليس من قبل السوفياتيين فقط بل ومن جميع شعوب العالم – ما زلت أذكر كلمتي في احتفال عدد من الطلاب بعيد ميلاد ستالين السبعيني في 21 ديسمبر 1949 وكنت ما زلت في سن الطفولة إذ قلت أن الطبيعة أكرمت الفلاحين في الأردن بمناسبة عيد ميلاد ستالين فأمطرت بعد طول انحباس تهدد الموسم الزراعي يالقحط – نعم كان ستالين الأسطوري بوصف تشيرتشل قادراً على القيام بشخصه بثورة اشتراكية ثانية في العام 1951 وهي أصعب كثيراً من ثورة 1917 فالحزب الشيوعي في العام 51 كان إسماً بلا مسمى بعد أن تعطلت وظيفته وهي الصراع الطبقي لخمسة عشر عاماً، وتحولت كامل الطبقة العاملة إلى جنود منهم من يحارب في مواجهة النازي والباقي مجندون في صناعة أدوات الحرب، والفلاحون لم يعودوا فقراء يناصرون الثورة كما كانوا في العام 1917 .
الأطروحات التي طرحها ستالين على مؤتمر الحزب التاسع عشر في أكتوبر 52، وأخصها الخطة الخمسية الخامسة وتغيير قيادة الحزب تشير إلى أن الاتحاد السوفياتي سيعود دولة اشتراكية كما كان قبل الحرب، فيه كل السلطة لدولة دكتاتورية البروليتاريا بمثل ما كان قبل الحرب، وسيكون الإتحاد السوفياتي في العام 55 ليس أقوى دولة في الأرض فقط بل وأغناها .

كانت خطيئة ستالين التي لا تغتفر هي أنه لم يتحسّب أن المؤتمر العام للحزب لن يوافق على اقتراحه بتغيير قيادة الحزب التي رآها بإحكام خطراً جدياً على مستقبل الدولة . لم يكفِ أن يقترح نفسه أول المعزولين من القيادة، كما لم يكفِ إنتقاده الحاد لمولوتوف وهو الشخص رقم اثنين في الحزب ولميكويان ؛ كان عليه أن يقوم بأنشطة موسعة بين مختلف صفوف الحزب تكشف القصور الخطير لأعضاء المكتب السياسي وأن تنحيتهم عن القيادة أمر مستوجب توطئة لانعقاد المؤتمر العام للحزب الذي سيقرر تنحية القيادة القديمة .
لخيبة أمل ستالين أعاد المؤتمر انتخاب نفس القيادة القديمة بالإسم وكان ذلك السبب الأول والأخير لانهيار الإتحاد السوفياتي، السبب الذي يحرص أعداء الإشتراكية على تجاهله . ذات القيادة هي التي تدبرت اغتيال ستالين بالسم في عشاء 28 فبراير 53 . لم يغير في الأمر شيئاً إنتخاب 12 عصواً إضافياً للمكتب السياسي تهدئة لروع ستالين فما إن لفظ ستالين آخر أنفاسه حتى اجتمع أعضاء القيادة القديمة وقرروا ما لا يحق لهم تقريره وهو إلغاء انتخاب الأعضاء الإثني عشر الإضافيين في المكتب السياسي .

لقد أثبت التاريخ عبقرية القائد الأممي للبروليتاريا يوسف ستالين حيث استطاع تحويل دولة إشتراكية منافية لكل مفردات الحرب إلى دولة حربية من طراز رفيع خلال شهور قليلة كيما تكون قادىرة على مواجهة العدوان النازي الهمجي الواسع وحتى سحقه في النهاية . وعليه ثمة ما يبرر الإفتراض أن ستالين منفرداً بشخصه كان قادراً على تحويل دولة الحرب السوفياتية في العام 51 إلى دولة إشتراكية متقدمة بمختلف آياتها في العام 55 .
صحيح أن ستالين كان قد اعتمد في العام 41 على حزب شيوعي فولاذي البنية وعلى دولة دكتاتورية البروليتاريا وهما مفقودان في دولة الحرب السوفياتية في العام 51، لكن الرهان في العام 51 تركز على شخص ستالين وقد ازداد وزنه الأدبي والسلطوي أضعافاً مضاعفة عقب قيادته مسيرة الحرب حتى احتلال برلين .

الرهان على شخص ستالين انتهى إلى الخسران الأعظم لسوء حظ البشرية جمعاء وفي مقدمتها الرئيس الأميركي الأعظم فرانكلن روزفلت وهو من أكد في مفكرته أن ستالين سيبني عالماً يسوده السلام والديموقراطية . لم يكتفِ رفاق ستالين في القيادة الذين تهددهم ستالين بالإحالة على التقاعد، لم يكتفوا باغتياله بالسم بل زادوا بناء على تعليمات من القوى المسلحة التي قبضت على كامل السلطة حال رحيل ستالين، بأن ألغوا الخطة الخمسية التي كانت ستؤمن استعادة الإشتراكية في العام 55 .
دولة الحرب السوفياتية منذ العام 41 وما بعد لم تكن معادية للنازية فقط بل وللشيوعية أيضاً كما أثيتت وقائع التاريخ السوفياتي منذ اغتيال ستالين في مارس 53 وحتى الإعلان الوقح عن التخلي عن الإشتراكية من خلال إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا بموجب قرار المؤتمر الثاني والعشرين للحزب في اكتوبر 61 لتحل محلها "دولة الشعب كله" النافية بطبيعتها للصراع الطبقي وهو الطريق الوحيدة للإشتراكية .
في العام 53 كان هناك ثورة مضادة في الإتحاد السوفياتي وقبضت على كل السلطات أشتات البورجوازية الوضيعة وهي أعدى أعداء الشيوعية وأولها الشت العسكري .
ذلك ما كنت قد أكدته في مذكرة رفعتها من داخل السجن لقيادة الحزب الشيوعي في صيف العام 63 ولذات السبب تركت الحزب حال خروجي من السجن في ابريل 65 وكابدت في ذلك معاناة لا توصف بمواجهة عدوين متناحرين في الأصل، الدولة من حهة والحزب من الجهة المقابلة .