نهاية القرن الامريكي والفوضى الكونيه/3


عبدالامير الركابي
2021 / 8 / 25 - 14:35     

تنتقل الراسمالية متحولة، من راسمالية طبقية، الى راسمالية آلية، هذا التطور يأتي باعقاب الانقلاب البرجوازي / الطبقي، و انتهاء الاقطاع ضمن حالة انقلابيه غير مسبوقة اصطراعيا، طبقيا، وفي ظل حالة انقلاب كوني كيفي على مستوى العملية الانتاجيه، نقلتها من اليدوية الى الالية، الامر الذي انهى في حينه، شطرا زمنيا طويلا واساسيا من تاريخ المجتمعية وتشكلاتها، وانماطها، والاليات الناظمه لحركة تفاعلها.
هذا الانقلاب لم يعدم ، وعاد ليكرر اليوم أيضا ومجددا ، شكلا من اشكال النكوص وعدم القدرة على الاحاطة المميزه لعلاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، تجلى بصيغة او نوع رؤية واعقال يحاكم الراهن والمستجد بحسب، و استنادا للانتكاس الموروث، والمتخيل مما يعد قوانينه ان وجدت، ما قد اسبغ على الحال النوعي الناشيء، ماكان، وماسبق ان استعمل من اشكال رؤية وتحليل و مقاربة، هي بالاصل وحتى بالنسبة لوقتها، قاصرة ودونية قياسا للحقيقة المضمرة في الظاهرة المجتمعية، وما هي ميسرة له، وهو ماقد تجلى أساسا في الادماج المعتمد للانتقالية البرجوازية الراسمالية في طور واحد، اساسة طبقي، في حين ان ظاهرة الغرب الحديث وانتقاليته، جرت على مرحلتين، الأولى طبقية تنتمي للماضي اليدوي، والثانيه "آلبة"ظلت خارج الاستيعاب، مع ان الأخيرة من بينهما تنفي ماقبلها، وتنهي مفاعيلها والياتها.
حكم مثل هذا لايستقيم بالطبع، ومناخ الاتباعية الغالبة والمهيمنه، تلك التي ترى الغرب كوحدة انجازية وتفكرية، أي تؤمن بداهة وبلا محاولة نظراو تفحص، بان مايقوله الغرب عن نفسه، وماقد امكنه التوصل له من قراءة للحظته، هو بنفس مستوى الإنجاز العلمي والالي الذي تحقق فيه وبين جنباته، ومثل هذا الاعتقاد البداهي الراسخ، والدال من زاوية ما، على القصورية الاعقالية التقليدية ذاتها مع قدر من التدني، يكرس التفارقية العقلية المجتمعية، ولا ينتبه لها، فضلا عن ان يعتبرها واردة، ان لم تكن ترقى لمستوى الظواهر الأساسية المميزه للظاهرة المجتمعية العقلية وعلاقتهما ببعضهما.
هل يجوز الفصل او التفريق بين الغرب المنجز، والغرب الافتكار، او افتكار الذات والعالم، وهل توجد مثل هذه الأسباب او المؤهلات التي يمكن ان تبرر، او تدفع لاتباع مثل هذا النهج، سواء في الغرب الحديث نفسه، او خارجه، بالطبع لا، فطور هيمنه المنظور الأحادي الارضوي الغالب بعد انتكاسة التحقق اللاارضوي الأول في مابين النهرين، قبل الاف السنين، ووقوف العقل دون الارتقاء لمستوى التعرف على الازدواج المجتمعي واللاارضوية، والمسار التحولي الصاعد نحو مابعد مجتمعية، لم يتغير مع الانقلاب الغربي الحديث على ضخامته وعمقه، المحدود بحدود نوعه وزمنه، كقفزة هي الأعلى داخل الأحادية الارضوية، والمحطة الأخيرة المفضية الى مابعدها، والتي من شانها، وهي موجودة بما هي عليه لتهيء الأسباب للعبور عنها، وعن مجمل نوعها النمطي.
والى ذلك الحين فان الغرب الأوربي يبقى محكوما، بغض النظر عن اشكال تعبيريته الارقى ضمن نمطه بمالايقاس، الى ماقبل، لا الى مابعد، او الى وماوجد وماهو معني او صار موجودا هو نفسه ليهيء اشتراطاته، ومن هنا تكون الراسمالية "طبقية" وحسب، مثلها مثل "الاقطاع" الذي سبقها، هو وماقبله، وفي حين تظهر "الراسمالية الالية" الطبقية/ اللاطبقية، فان مايدركة العقل الغربي الأحادي، ويقيم النظريات حوله وبخصوصه باعتداد، هو "الراسمالية الاقطاعية العبودية" المنتهية، والتي غادرت التاريخ بمجرد ظهورالالة.
والاهم من هذا والأخطر غير النكوص عن متابعه تحورات الطبقية الراسمالية، ومااستجد عليها بنيويا اوربيا، لصالح مروية تصر على ارجاع التاريخ الى الوراء، لايفتا الغرب عن مواصلة تضخيم الضلالة الكبرى المنبثقة عن ظهور القارة الجديدة، ومجتمعيتها المفقسة خارج رحم التاريخ، وحيث تظهر هنا "الراسمالية الالية" بنوعها الصرف الصافي الاعلى من ذلك الأوربي الأساس والمنطلق، يظل الغرب مصرا على ممارسة قصوره الاعقالي، بادراج الراسمالية الالية اللاطبقية ضمن مملكته وعالمه النكوصي، متسببا بحالة مزرية وخطيرة من الايهام الشامل باسم الحداثة والعصر، تلقي باثرها وثقلها على رؤية البشر لذاتهم وعالمهم، لتزداد مع الوقت تازما واحتقانا لدرجة الانفجار الاعقالي.
تنتهي الظاهرة المجتمعة متجاوزه ذاتهاكما هو مقرر لها، ومصمم من لدن الغائية الكونية العليا، وقانون تحوليتها الشامل، بمقطع ليس بالعارض، تظهر ابانه حالة "المجتمعية اللامجتمعية"، فتفقس خارج رحم التاريخ، بالهجرة ابان الانقلاب الأحادي الأوربي الأعلى والأخير الالي، لينتقل العالم والمجتمعات من وقتها الى مابعد مجتمعية، عبر حالة ازدواج تشبهي ايهامي "ابراهيمي لاارضوي"، و"راسمالي آلي" لاطبقي، هو مايعرف بالولايات المتحدة الامريكيه، المحكومة الى التصارعية الازدواجيه الوهمية والرسالية، قبل التازم الأقصى بعد انتهاء ممكنات وطاقة الاستمرارالاسقاطي، وبدءالانكفاء، مع وقوف العالم الأمريكي وقتها، امام الخيار الفاصل التحولي، بمامتوفر له وفيه من الأسباب التحولية المادية، التي تكون وقتها بانتظار الرؤية اللاارضوية بصيغتها الأخيرة التحققية، الابراهيميه "العلية"، التي تحل مكان الأولى، الحدسية النبوية الأولى، التي انتهت ضرورتها ومبرراتها مع اخر الأنبياء محمد.
تبدا أمريكا وعالم المجتمعية اللامجتمعية، رافدينيه لاارضوية، "عراقية"، تصادر من اخر اشكال وتجليات الأحادية واعلى اشكالها الغربيه الاوربيه، وصولا الى التصادم الكوني التدميري الأخير، بين المجتمعية المتشبهه بالمجتمعات، وبين اصلها ومنطوى سرها الأكبر، الامر الذي تأخذ عنده ومعه، اخر ممكنات استمرار التجلي الامبراطوري الاضطراري الأمريكي، بعد ان يصل اعلى قمة له، وابانها، بالانحدار والتقلص، بما يعني الاختناق وشبح التفجر الذي لاحل له ولامخرج ممكنا منه، الا بالتجدد، واستبدال الرؤية الايهامية البيوريتانيه الابراهيمه الأولى، بالثانيه التحولية اللاارضوية بصيغتها "العليّه" الانتهائية التحققية.
تقع الحالة الامريكية ضمن سياقات وسردية التحولية التاريخيه المجتمعية، تلك التي تبدا بالاصل في ارض مابين النهرين، لتنتكس ابتداء، عاجزة عن التحقق، بينما تغلب الأحادية الارضوية ومنظورها ورؤيتها التي تظل طاغية منذ أولى خطى المجتمعات، لحين نهوض الغرب وظهور المجتمعية المفقسه خارج رحم التاريخ، بازدواجها التوهمي الاسقاطي، وصولا الى ذهابها لتدمير بنى المجتمعية الأولى الأصل الازدواجية الأرضية/ اللاارضوية العراقية، بعد ان كان هدف الغرب وحضور نمذجه يتركز على مسعى ومحاولة تدمير احدى وجهي المجتمعية الازدواجية السفلى اللاارضوية، مولدة بذلك شروط بزوغ الرؤية اللاارضوية بصيغتها التحققية النهائية، التي تصير آنذاك، المنقذ، ومايمنح المجتمعية القارية اللامجتمعية الأساس الذي كانت تبخث عنه لوعي حقيقتها، وماهي بحاجة له كي تعي ضرورة اندراجها ضمن السياقات التحولية الكونية، بما هي متوفرة عليه من خلاصة منجز احادي ضروري ولازم، ولاتحول من دونه.
الامر الأهم في كل ماتقدم ذكره هو التغير الأساس والمهم في موقع الوظيفة التصورية الاعقالية، او مايعرف بالافكار، وموقعها كما هو متعارف عليه ومتداول، مع تطوراته ومراحله الكبرى الرئيسية المحددة حسب هيغل ب ( الأسطورية/ الدينيه/ الفلسفية) وهي تتابعية مغرقة بالخطأ، ترى في الفلسفة مستوى اعلى وارقى من السماوية النبوية، وهي تدمجمهما لتحيلهما معا ضمن مصادر موحده، في حين ان السماوية الابراهيمية هي عالم ونمط تعبير صادر عن مجتمعية بعينها مختلفة، هي اللاارضوية، بينما الفلسفة هي المنظور الاحادي الارضوي الأعلى، والارفع، هذا اذا لم تخضع للمصادرة الارضوية المعتادة والطويله.
اليوم تتغير كليا مكانه وموقع الافتكار العقلي، ليصبح من قبيل الضرورية الوجودية، وماقد يبلغ درجة ومستوى اللازمة الحياتيه، التي يتعذر من دونها استمرارالنوع البشري، ناهيك عن احتمالية توليده لعالم أخر يرثه، وينسحب هذا على الأفكار والرؤى الأحادية المتوارثة الراسخه من ناحية، ومتبقياتها وماهو في قمتها واعلى تجلياتها الحالية الراهنه، التي رافقت الظاهرة الغربية الحديثة، فالضلالات المواكبه لحقيقة الظاهرة الوجودية المجتمعية، ماعادت اليوم ممايمكن التعايش معه، بالاخص مع بلوغ الراسمالية الاليه، قمة ومنتهى، ماتنطوي عليه، وماهي قادرة على تحقيقه ضمن سياقات الاستمرار والديمومة، وقد بدات لحظة الاستحالة الوجودية الواقعية المادية المتوارثة، وصارت المنتجية، والياتها تتزايد تكشفا اكثر فاكثر، عن التضارب الوجودي الإنتاجي البيئي، الذي تولد ونشأ بالاصل وابتداءعن الالة ودورها كممكن تدخلي بشري.
ومع التراكم المؤدي الى انبثاق "البيئية الثانيه"، وبدء تهاوي مقومات السيطرة الكوكبيه الامريكيه نيابة عن الغرب، وماتولد عن خيار العولمه الاقتصادية من اهتزازات في بنية النظام الدولي، والدولة ومكانها، مع ماقد دفع نحوه التازم العام المطرد بظل تزايد انغلاق الأفق الواقعي المستند لممكنات الإنتاج، فقد نشات اليوم حاجة الى "استبدال الواقع" المعاش نفسه، بنقل الحياة الى الافتراض، مع ماقد توحي به التكنولوجيا من أوهام الاشتراطات، ومستوى الاعقال الغربي غير المهيا والذي لايملك مقومات تحاشي اغرائها، في الوقت الذي تبدا فيه "البيئة الثانيه" باغلاق الطريق على اية مشاريع من هذا النوع، ومع اول شكل من اشكال حضورها مع الجائحه الأخيرة التي لن تكون اخيره، فان ثورة الاعقال والبحث عن المطوس وإعادة صياغة السردية التاريخيه التصيرية المجتمعية، تغدو من هنا فصاعدا حاجة قصوى لايمكن تخيل استمرار وجود الكائن البشري، واليحاة على الكوكب من دونها.