الأسس الفكرية لثقافة التطرف والأصولية التكفيرية


عباس علي العلي
2021 / 8 / 24 - 20:29     

الجذور الفكرية لثقافة التطرف والأصولية التكفيرية

يستغرب البعض من مقولة أن داعش هي الصورة التطبيقية لفكر الإسلام وأنها نتاج طبيعي لإعادة أستنساخ التجربة الإسلامية الأولى ويستند على العشرات من الدلائل النصية والروايات الواردة في الصحاح أو في السير وكلها من تاريخ صدر الإسلام بما لا يقبل الشك أن الصورة التي يجسدها الإسلام الدعوي العنفي الإقصائي اليوم هي حقيقة الإسلام بلا جدال , وأظن أن من يزعم وينادي بهذا الصوت محقا وجادا وغير ظالم لا الإسلام ولا المسلمين بما قال ,وهناك رأي أخر يناقض الأول ويرى أن ما نشهده اليوم مجرد مؤامرة قام بها أعداء الإسلام لتشويه وتعرية الإسلام من سماحته وعدله ووجه الإنساني مستندا أيضا على عشرات النصوص والروايات والقصص التي حدثت في صدر الإسلام وأيام الدعوة تظهر الوجه الإنساني النبيل للإسلام وأظن كالعادة أنهم أصحاب هذا الرأي على درجة كبيرة من الصدقية والحق وأنهم لم يظلموا لا الإسلام ولا المسلمين بما فيهم موضوع البحث .
المهنية في كتابة وقراءة التأريخ لا تستند فقط على الدليل فقد يكون حقيقيا ولكنه فاسد , وقد يكون حقيقيا وصحيحا ولكن المقاربة فيها خلل أو أن المشترك التماثلي بين الدليل والواقعة غير حقيقي أو غير متصل ,وأحيانا انتساب الدليل للحدث انتساب غير واقعي ويستخدم فيه أسلوب الإقحام القهري ليبدو التفسير حسب ما يرون منطقي وعقلاني , بالنتيجة إن لم نعط الدليل الحرية في الإثبات دون تدخل في كل مرة للتفسير والتبرير أي البحث عن دليل للدليل حتى نصل إلى مرحلة الدلائل المتوالية سيكون ما نكتبه تأريخا هو مجرد خلط في الأوراق الهدف منه تسويق أيديولوجية محددة ومعينة دون أن ننجح في كتابة تأريخ .
مما لا شك فيه أن الفكر الأصولي الإقصائي التكفيري المعنون اليوم بالإسلام الجهادي لم يأت عن فراغ وليس أبتكارا بررته الظروف الزمانية والمكانية ولا هو إفراز غير طبيعي لمجتمع أمن بالإسلام وأتخذه منهج حياتي , نعم كل ما يذكره المعنيون اليوم به صحيح سواء أكان موافقا له أو مضاد ولكن من يقرر صحية المبدأ من الأساس الوقائع مقارنة بالنصوص أي الترجمة السلوكية للأفكار وهنا يجب البحث عن التطبيقات النموذجية للنص كمثال وليس أي تطبيق جرى وأنتسب للنص نأخذه حتى لو تعارض مع فكرة الإسلام ونعتمده دليل قاطع يمكننا به أن نحسم أمرا ما .
قد نأخذ مثالا واحدا فقط منه نستمد الفكرة التي ننادي بها وهيأن العودة لنموذج الفكري المجسد كقدوة في السلوك صادرة من قدوة في ذات الفكر لنستقي منها حقيقة ما يجب أن ينسب للإسلام كمدرسة تأريخية , وهنا أشير لواقعة الأخر المختلف التي حدث كثيرا في زمن النبي محمد ص حيث كان لليهود والنصارى والمشركين وحتى من أدعى النبوة في حياته ,كانت النظرة لهم نظرة حوار ومجادلة بالتي هي أحسن للحود التي لا تمس بوجود الإسلام كوجود حقيقي وهو ما يعرف اليوم بالتسامح لحد الاصطدام بالخط الأحمر المساوي للوجود من عدمه , وهذا الحال حد منطقي عقلاني وعقلائي تقره الشريعة العقلية الإنسانية .
مرت أحداث في هذه الفترة ينسب لها جذور الإقصاء ورفض الأخر واعتبارها الأساس التاريخي لثقافة التطرف في الإسلام وينسبون ما نزل بشأنها على أنها قواعد عامة شرعت المفهوم خارج حدود المناسبة والتناسب وهنا أذكر مثلا أحداث بني قريظة وما شابهها وما جرى فيها من أحداث دون إنكار الحدث ولكن يجب ربط الحدث بالسبب والنص بالحدث والبحث عن الدواع الأساسية لنزول النص مرتبطا بالحدث وهنا نشير إلا حقيقة أن الرواية التي صيغت تاريخيا لها صيغت وفق مفهوم منحاز وغير تأريخي بمعنى تجرده عن اسلوب العملي العلمي في كتابة التاريخ لأن أصل الحدث وما تفرع عنه كان يمس وجود الإسلام كدين ناشئ يحاول أن يدافع عن نفسه من خلال تجربة المعايشة بسلام في لحظة ما وجد نفسه أمام خيار الزوال أو إنزال حق الدفاع الشرعي عن وجوده بما فيه أيضا منح العدو المتآمر حق تقرير المصير وبالتالي لم يكن الإسلام في موضع أعتداء غاشم ضد الأخر بل كان ضحية أطماع تهدد وجوده , ومن قراءة النصوص التي نزلت وفقا لسيرورة الحدث نجد أن أرتباط الفكرة بالنص أرتباط علة بالمعلول وليس قانونا صارما يستخدم في كل حالة بمعزل عن فهم العلة .
بعد وفاة النبي ص لم يعد لهذا المعيار من وجود بمجرد أن نختلف ولو بالحدود الدنيا للاختلاف يكون الرفض والإقصاء والعنف هو المنهج دون تحديد للتناسب بين ماهية الأختلاف وبين حدود تطبيق النص , فشهدنا ما يسمى بحوادث حروب الردة التي كانت وقائعها الأولى موجودة في زمن النبي وعلمه متصل بها ولم يمارس أي نشاط ضدي تجاهها والدليل أن مسيلمة الكذاب غيرهم كانت هناك تواصل واتصالات متبادلة أستخدم فيها النبي الأكرم ص أسلوب المحاجاة والخطاب بالحسنى لأنه يعرف أن إلزام الأخر بالعقيدة قهرا ليس من واجب المسلم ولا من فريضة الإسلام أصلا لأن الحرية التي منحتها النصوص تؤكد إنما أنت منذر والمنذر في المعنى العام والحقيقي هو من يلق الحجة وتفاصيلها دون أن يكون وكيلا على المنذور بها .
الشق الثاني من حروب الردة والتي أسست لثقافة العنف والتطرف الإسلامي والمعين الذي أستقى منه الكثيرون قوانينهم وبها أسسوا للمدرسة الجهادية التكفيرية قامت على فهم غير متكامل بل ومناقض لعقيدة الإسلام ألا وهي أن الإسلام ليس بوارد أن يكون نظاما تطبيقيا يقام بمفهوم بالكلية أو يرفض بالكلية ,أي أن المسلم عليه أن يكون مطبقا لكامل الواجبات والموجبات التي يرى أنصار هذه المدرسة كفايتها لتطبيق مفهوم الهوية الإسلامية وبالتالي فأي نقص في جزئية من هذه توجب خروج المسلم من دينه وبالتالي إعلان ارتداده ودخوله دائرة الأستهداف, في حين أن الشعار عن الإسلام كان قولوا لا إله إلا الله تفلحوا أي إن الإسلام يعتمد في ثبوتيته على مبدأ وأعتقاد التوحيد والوحدة الربانية كي يصان به الإنسان من تبعة الكفر ولو أدبيا .
السبب بعيدا عن نظرية المؤامرة والتحريف ووجود القصد العمد عند القيادة التي نفذت وبشرت بهذا المنهج هو عدم قدرتها الحقيقية في هضم مبادئ الإسلام الحقيقية لقلة وحداثة التجربة التي لا تتعدى كم قليل من السنين , كما أن الظروف والارتباكات التي تلت رحيل النبي محمد ص في الوقت الذي بدأت للتو ملامح نضوج الفكرة والميل الإنساني الطبيعي للعودة للثقافة المتجذرة في العقلية الجمعية التي لم ينجح الإسلام في قمعها وتهذيبها ,فكان لها الدور الأهم والحاسم في نشوء هذه المدرسة وتفاعلاتها البعدية , ولكن ما يعيب الفكر الإسلامي المحافظ هو ومع مرور الأيام والسنين لم توضع التجربة وبفعل عوامل سياسية وحزبية موضع النقد والامتحان قبال النصوص وروحية الإسلام الرسالي , فتحول المنهج من أجتهاد قابل للتطبيق والعزل إلى قواعد وركائز يسعى البعض حثيثا لجعلها هي القواعد العامة وفكر الإسلام السلام المتسامح الذي يدعوا للحسنى هي الاستثناء , وبالتالي فنشوء مدرسة العنف ورفض الأخر من حيث كينونتها ولدت في ظل الإسلام الرسمي ونتيجة لواحدة من أخطاء المسلمين الكبرى .
إلى هنا يكون قولنا أن من يدع أن التطرف الإسلاموي نتاج فكر وتعاليم الإسلام لأنه يرى من الإسلام الجانب الرسمي الجانب الأكثر ظهورا على شاشة الحياة ,الإسلام التي تلهج به دور المعرفة وحلقاتها الأكاديمية الرسمية التي تنفق عليه بأعتباره يمثل نظرية السلطة وجوهرها المشرعن لها وبالتالي فظهور الإسلام الرسالي محارب اليوم تحت عناوين كثيرة منها أن السلف الذين يأخذون دينهم منه وليس من المنبع الأصلي القرآن الكريم وأهل الذكر هم الأقرب زمانا ومكانا من فهم القصد التشريعي ولأنهم الأقرب للتجربة ومصاديقها وأن تعرض لهذا الفهم يعني ببساطة شديدة الطعن في قداسة الصحابة وأنتهاك لمفاهيم صاغتها وجذرتها المدرسة تتعلق بحصر المعرفة القرآنية بالذين سموا بالأئمة الأربع ولا خلاف على أن من لا يتبعهم هو خارج عن الملة .
في الجانب الأخر عندما يقول أهل النظرية الثانية أن هذه الأفكار والرؤى ما لها وما عليها لا تمثل حقيقة الإسلام ولا تنطلق من الثوابت الشرعية والأسس العقيدية للإسلام لأن الدين جاء من الله رحمة للناس والرحمة تستوجب السعة في التفهم والسعة في تقبل الأخر وأن كل ما يضيق على الناس في حياتهم لا بد أنه غير مرتبط لا بالدين ولا بروح التدين , وما يقوله مدعم بالغالب من النصوص التي تشكل نظرية كاملة في أن الأصل في الإيمان الحرية وكل تدين ملجئ مرفوض وباطل لأن الله يعلم ما في الصدور وكل ما في الصدور إن لم يكن حقيقيا وجادا وصادقا فلا يلزم المؤمن به أو الذي جعله كذلك تجاه الله بشيء ومن هنا نفهم قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) فلو أظهر المسلم المزيف إيمانا كاملا مع عدم جدية النية فكل ما بني عليه باطل والعكس صحيح .
هذا التفارق والافتراق في بيان الصورة هو السبب الوحيد الذي جعل مشكلة الدليل في الإشارة للحدث معقدة ,لأن كل مدرسة لديها منهج تعتمده في القراءة والغالب في المنهج البراغماتي التاريخي المحافظ أن الغايات التي تؤمن بها وتسعى لها مرتبطة بالنتيجة بتوافق بين ما هو سياسي تدبيري يسعى حسب الفهم لتطبيق قراءته التاريخية للنص بمضمون رضا الله لأن هناك موافقة من رجال الدين المسئولين عن بيان تطابق النص مع الحدث يؤكد شرعية وسلامة المنهج وبالتالي فهو غير ملوم ولا مسئول عن الخطأ لأن المؤسسة المسئولة أفتت له بذلك وهي وحدها التي تتحمل الجزاء .
صحيح أن المؤسسة الدينية قديمها وجديدها أفتت بذلك وشرعت وأجتهدت من خلال النصوص لتجذر مفاهيمها ولكن الإنسان في الإسلام ليس مطلوبا منه أن يكون خاضعا في إيمانه وسلوكياته المنعكسة عن الإيمان برجل الدين إلا في حدود التوضيح والسؤال ويبقى العقل هو مصدر الحكم ,الإسلام بناه الرب على قاعدة التبيان والبيان والعرض والفرز والتقرير أستنادا للتوافق بين حكم العقل ومضمون النص ,لذا فهو يذم العميان والصم والبكم ليسوا لأنهم أصحاب عاهات بدنية ولا يقصد هذا المعنى أصلا ولكن يشير إلى تعطيل الحواس عن العمل والاستشعار والأتصال بالعقل .
هذا الخلاف الأزلي بين الإسلام الرسمي وبين الإسلام الطوعي تجذر تحت مدرستين تتصارعان الساحة ولكن ولأمتلاك المدرسة الأولى كل الأدوات والوسائل أصبحت هي الناطق العلني للرأي العام وانعكاس عند الأخر سواء المختلف أو الحيادي عن أنها تمثل النموذج الإسلامي وهي التي تحمل روحه وبالتالي فما يصدر عنها ومنها لا بد وبالضرورة تعبير عن قيم الإسلام ,وهكذا سجلت حضورها التاريخي كواحدة من أهم معالم الحياة الأجتماعية والفكرية والسياسية عند المسلمين الغالبية دون أن يلتفت من جهة أخرى ولو من باب الحياد المنطقي لسماع صوت المدرسة المهمشة مدرسة الظل التي قارعت بحجتها أركان المدرسة المحافظة دون أن يحسم الصراع لأن الأولى تملك القوة والثانية تملك الحجة والمتلقي منحاز للتاريخ دوما .
ساعد الجو المنغلق وأطار القداسة التي أحيطت بالنص وبالرموز من قبل رواد المدرستين وجبن المفكر الإسلامي في التصدي برغم المحاولات القليلة التي أنتهت دموية في الإسهام بصورة أو أخرى في تثبيت صورة الإسلام المتطرف الإسلام الرافض للأخر والمعتدي على وجوده من خلال السكوت عن حقيقة أن القراءة لا ينبغي مهما كانت سامية وحيادية أن تكون بديلا عن النص ,وعندنا قاعدة فقهية يمكن أن تكون سلاحا في وجه تزييف وتحريف النصوص أو لي عنقها وهي (قاعدة لا أجتهاد في مورد النص) خاصة وأن الكثير من الأحكام بل المطلق من الأحكام التي تستند لها المدرسة المحافظة هي أستثناءات محدودة من قواعد عامة وبالتالي الأجتهاد ينصب على الأستثناء ولا يتعدى القاعدة أو يخرج أستثناءات أخرى أو يقلل من حاكمية القاعدة لمصلحة ما أستثني منا بنفس النص الواحد أو المتصل .
إن ظهور التطرف الإسلامي بهذه الصورة البشعة سواء أكان تطرفا في الرفض أو تطرفا في الإخراج من النص شكل بدورة تشويها تأريخيا ليس لصورة الإسلام كأمة أو دين بل تعدى ذلك إلى صورة الأنبياء والرسل وإلى موضوع التدين عموما وصورة الله عند الإنسان ,حتى أضحى التشكيك بمفاهيم مثل الألوهية والقدر والغيب والإيمان والأخلاق الدينية محل تساؤل عن حقيقة وجودها وحقيقة دورها في الحياة ساعد ذلك إصرار البعض وهو عالم أن ما يجري في الواقع لم يكن حقيقيا ,هو ليس ذات مفهوم وجوهر الدين كما هو بل أستنساخ لتجربة تاريخية قادها بعض المسلمين وهم من يتحملون وزرها وليس الإسلام ولا النبي ولا حتى الذات الإلهية .