الحياة قبل الموت


احمد المغربي
2021 / 8 / 24 - 13:16     

إن كل شيء يتمحور حولها وكل ما تنفخ فيه روحها يصبح معبودا ينافس الآلهة فما إن صارت تلك الأوراق و القطع الفضية المسماة النقود إحدى وسائل التواصل معها حتى صار بعض الناس يقدمون شرفهم و أنفسهم و حتى أولادهم قرابينا للحصول على القليل الذي يُشبِع من تلك اللامحدودة التي لا تَشبع من هؤلاء الضحايا الذين أُرغموا على عبادتها و حبها أو حب و عبادة أخس أشكالها
و حتى هؤلاء الزاهدون و الصوفيون الذين أعلنوا ازدرائها عجزوا عن التحرر من ديكتاتوريتها التي تفرض نفسها على الجميع بدون استثناء فهي لا تبالغ عندما تتبجح بقوتها و تعلن بكل ثقة "أنا كل الوجود و كل ما وُجد و ما سيوجد سيكون موجودا من أجلي فمن أجلي وُجدت الحياة بعد الموت و من أجلي وُجد الانتحار ألا ترون يا من تسمون بالكائنات العاقلة أني أتجسد حتى في ما يبدوا نقيضي الذي لا يتشكل إلا كاحتجاج يائس على الحرمان من الحصول على القليل من حناني "
إن الجلادين و الجبناء المحافظين و خصومهم الثوار و الفدائيين و العمال المضربين و الرأسماليين كلهم يتصارعون من أجلها رغم اختلاف الجزء الذي يحرك كل طرف من هؤلاء المتصارعين و لهذا فأيضا لن تبالغ هذه القوة التي تحرك صراع الأضداد إن قالت أنه "إذا كان الخالق العظيم هو المحرك الأول الذي كان سببا في وجود الكون فأنا المحرك الثاني الذي تنشأ بسببي الحركة المستمرة لهذه الكائنات الحية المسماة بالبشر فإنتاجهم الذي ينمي قوتهم و الطبيعة المحيطة بهم مجرد طقس من طقوس الاستهلاك الذي يتم تأديته كواجب مفروض من طرفي"
إن البشر بطبيعتهم يرغبون ببساطة في أن يحصلوا على حياة قبل الموت لكن في المجتمع الطبقي الذي تعيش فيه "الأنا" على حساب "الغير" يتصارع الناس و الأنانية تحرضهم و تعميهم لتكون حياتهم مبنية على سلب الآخرين الحق في الحياة قبل الموت وحتى الكهنة الذين يدّعون سموهم عن صديقتنا التي يسمونها حياة دنيوية و يعظون الناس بالاستسلام للشر و التقشف و الزهد فيها فهم يفعلون ذلك بدافع تأمين البذخ و الاستمتاع بالحياة لهم و لأولياء نعمتهم دون إزعاج أو تهديد من الأغلبية المحرومة و يظهر ذلك في نموذج "الحياة بعد الموت" الذي يستعملونه لتأمين استقرار و استمرار استغلالهم فرغم حديثهم عن الروحانيات أسسوا جنتهم كنسخة مطابقة للحياة المادية قبل الموت و تتلخص صيغتهم الدعائية في "اتركوا لنا هذه الحياة لتحصلوا على مثلها بعد الموت" أما صراعهم ضد النزعات الأبيقورية فهو في الواقع صراع ضد الرغبة الطبيعية في الحياة قبل الموت و هو فوق كل شيء صراع غايته تأمين احتكار الأقلية للعيش على نهج الفلسفة الأبيقورية
أما من ناحية أخرى ففي المجتمع الطبقي الذي يعيش فيه البؤس بجانب البذخ تصبح مواساة المحرومين من الحياة قبل الموت بأمل تعويضهم بأخرى أفضل بعد موتهم ضرورة لا غنى عنها لتأمين الاستقرار الذي تعجز الأسلحة وحدها عن ضمانه فالدولة كما وضح انجلز نشأت لضمان تفادي قيام "الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة بالتهام بعضها بعضا" لكن هذا الجهاز المسلح لم يكن قادرا على تحقيق هذه السيطرة وحده فخلال قرون طويلة و عند أمم مختلفة لم يفارقه جهاز الكهنة الذي كان يتكفل بضمان السيطرة الروحية و الفكرية و كانت المؤسسة الدينية أهم عنصر في البنية الفوقية التي لعبت دورا كبيرا في الحفاظ على استمرار و استقرار نظام الاستغلال
لكن في عصر المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي و الثورة التكنولوجية التي حوّلت العالم بالفعل لقرية صغيرة لم تعد ثرثرة الكهنة قادرة على اشباع شهية المحرومين أو إخماد لهيبها فحتى هؤلاء الذين يتظاهرون بالتقشف الديني يعجزون عن التخلص من رغبتهم الطبيعية في الحياة قبل الموت و يلاحظ بعض الصحفيين البرجوازيين مثلا أن لمواقع التواصل الاجتماعي بعرضها ما يعتبرونه "نموذجا زائفا للحياة" دور كبير في الاكتئاب الذي يعاني منه عدد هائل من الشباب لكن ما لا يرغب هؤلاء البرجوازيين في الاعتراف به هو أنه في ظل حرمان الأغلبية من حقهم في الثروة الهائلة التي لم يعد إخفائها ممكنا من الطبيعي أن يسود الاكتئاب و الحسد و السرقة و كل ما هو بغيض في البشر
وقد سبق لكارل ماركس أن وضح بطريقة رائعة الفرق بين الفقر المطلق و الفقر النسبي فبخلاف هؤلاء الذين يحددون الفقر على أسس فيسيولوجية غير متغير أشار لأن الفقر يحدد أيضا و بشكل رئيسي على أساس تطور الإنتاج و المجتمع فبزيادة المنتوجات تُخلق حاجات جديدة و ما يكون ترفا في الأمس يغدوا مع التطور ضرورة لا غنى عنها للأغلبية الساحقة في المجتمع (و يمكن أخذ جهاز التلفاز كمثال لفهم ما أقصد)
و يعد مفهوم ماركس الجدلي حول الفقر مفتاحا أساسيا لإدراك المعنى الحقيقي للحرمان و عدم الفصل (او الخلط) بين شكله المجرد و الملموس فيكفي أن ننظر للكهرباء والقطار و التلفاز و آلة غسل الملابس و كل ما نسميه "وسائل الحضارة" التي يتزايد عددها باستمرار ثم نسأل عن تاريخ صنعها و تاريخ تحولها إلى منتوجات يستطيع أغلب الناس اقتنائها لنسخر من هؤلاء الذين لا يرون الفقير إلا في صورة متسول أو متشرد و من الذين يفتخرون بسذاجة(و خبث أحيانا) بأن وضع فقير القرن الواحد والعشرين أفضل من وضع بؤساء القرن الثامن عشر أو ضحايا العصر الفيكتوري فبخلاف الما-بعد-حداثيين نحن مثل هيجل نعتقد أن فلسفة التاريخ تعبر عن الاتجاه نحو المزيد من الحرية و كماديين دياليكتيكيين يمكن أن نؤكد أن تطور المعرف و وجود آلة غسل الملابس و الهاتف و غيرهما من "وسائل الحضارة" أوضح دليل على ذلك لكن جوهر ما نحن بصدد نقاشه هو حقيقة أن في المجتمع الطبقي مع توسع و تطور الحياة و وسائل التمتع بها تتوسع اللامساواة و حرمان الأغلبية من الحياة الحقيقية قبل الموت و حقيقة أن هذا الواقع الغير سعيد تنتج عنه وقائع لا تسعد الميسورين نفسهم أما معضلة مجتمعنا الرأسمالي فتكمن في أنه دفع هذه الوقائع(الشرور) لحدود خطيرة لا يحتملها الواقع الحالي إذ أن هذا المجتمع الاستهلاكي من ناحية يخلق باستمرار حاجات جديدة يوازيها حرمان الناس من تلبيتها و ما يشتكي منه بعض الصحافيين هو وسيلة أساسية يستعملها هذا المجتمع للدعاية و الترويج لذاته أما من ناحية أخرى فإن حاجات المجتمع في ظل التطور الذي وصل له حاليا صارت تتناقض مع ما يحتاجه استمرار وجود النظام الرأسمالي لدرجة لا مبالغة في اعتبارها تهدد الانسانية هذا فضلا عن أن الرأسمالية صارت عقبة أمام الحياة الكريمة رغم وجود كل الامكانيات لتحقيقها و يظهر هذا بشكل واضح في أزمات فائض الانتاج أو حين تدفع الدول الديموقراطية لمزارعيها مقابل اتلاف محاصيلهم في عالم يموت فيه الملايين بسبب الجوع
إن تخطي الرأسمالية مع الاحتفاظ بإيجابياتها صار ضرورة لا غنى عنها من أجل منح الأغلبية فرصة الحياة قبل الموت و من الضروري أيضا التأكيد على أن التخطي يجب أن يعني تقدما حقيقيا نحو الأمام لا تراجعا يرتدي قناع التقدم فيجب أن يكون التخطي اتجاها نحو تعميم الرفاهية لا التقشف و لهذا سيكون على النظام الجديد استيعاب كل التقدم الذي وصل له البشر إن أراد النجاح في التخطي الحقيقي للنظام الحالي فبخلاف هؤلاء الذين يشمئزون من الرأسمالية و يَحِنون للحياة البدائية نحن نرى أن المجتمع الشيوعي البدائي نفسه لا يصلح في عصرنا إلا كنموذج ننطلق منه لإيضاح شكل الحياة الاجتماعية بدون تفاوتات طبقية و بالرغم من أننا نعتبر الانسجام الذي كان سائدا بين أفراده شيئا عظيما إلا أننا نسعى لتحقيقه على أساس الوفرة التي يضمنها التطور الحالي لا على أساس الندرة التي لن تكون حاليا سوى مصدر للصراع
و بالإضافة لما سبق فنحن لا نتصور "الحياة قبل الموت" بدون الحياة العقلية التي تحدث عنها أرسطو و كل الفلاسفة العظماء فالمجتمع الاشتراكي لا يعني لنا تشريك البؤس أو تغيير عبودية الرأسماليين بعبودية الدولة(أي البيروقراطيين) بل يعتبر الانتقال إلى الحرية أهم هدف للاشتراكية و لا أعتقد أن هناك عاقل يفترض وجود الحرية في غياب الحياة العقلية ففي الحياة قبل الموت تظل الحياة العقلية أسمى أشكال الحياة و هي ضرورة لا غنى عنها للوقاية من عبادة أخس أشكال الحياة و أكثرها دناءة كما أن من يهبها ذاته تهبه أعظم حياة قبل الموت فتحصنه من خداع الكهنة الذين يطلبون منه التخلي عن حياته مقابل وعود كاذبة و من ميوعة المشعوذين الذين يروجون لحياة تشبه حياة الحيوانات و كما وضح أرسطو فللحياة العقلية فوائد كبيرة حتى في الحياة العملية و يدرك الماركسيون جيدا العلاقة الجدلية بين الحياة و الحياة العقلية فبالإضافة لأنهم بخلاف بعض المثاليين و الماديين الأحاديين لا يرون أن وجود احديهما يفترض اقصاء الآخر يفهم الماركسيون أن نمو الحياة العقلية يحتاج شروطا معينة و يناضل الاشتراكيون من أجل توفير تلك الشروط و من أجل ضمان منح جميع الناس الفرصة في الحياة العقلية و الحياة قبل الموت و كما قال آلان وودز : "سوف ترفع الاشتراكية الحضارة الانسانية إلى مستوى لم تسبق رؤيته في أي وقت مضى سيتم التفوق على أمجاد قرطبة و غرناطة و سيصل الشعر و الفن و الأدب و الفلسفة و العلوم إلى مستويات جديدة من العظمة"(آلان وودز – الماركسية و الفلسفة)
و بالنسبة لبلداننا المتعطشة للحياة فمن واجب جميع المناضلين التقدميين القيام بدورهم في الكفاح من أجل النهضة و القضاء على التخلف و الظروف التي تسمح للرجعيين بدفع المحرومين من الحياة قبل الموت للهمجية و الموت مقابل وعد خادع بالحياة بعد الموت و إن قال البعض أن هذا الكفاح بدوره يشترط كفاحا ضد نفود الرجعيين فهذا لا يعني سوى الاعتراف بحقيقة ارتباط المشروع الفكري بالمشروع السياسي و لزوم وجود كل طرف منهما لنجاح الطرف الآخر في تحقيق غاياته و بالتالي فمثلما يجب التخلي عن وهم الاكتفاء بمشروع سياسي جاف و خالي من أي مضمون فكري و ثقافي يجب أيضا التخلي عن أوهام المشروع الفكري الذي يعزل ذاته قسرا عن المشروع السياسي فيتوهم بطوباوية و نرجسية أنه المسيح الذي له معجزات تغنيه عن اقحام نفسه في السياسة و قد وضح ماركس العلاقة بين القوة الثورية و الفلسفة كسلاح و قال : "إن الفلسفة تجد في البروليتاريا أسلحتها المادية كما تجد البروليتاريا في الفلسفة أسلحتها الفكرية"(كارل ماركس – نقد فلسفة الحق عند هيجل)
إن ضرورة الكفاح من أجل حق الجميع في "الحياة قبل الموت" تخبرنا ببلاغة عن وحدة المصلحة الخاصة و المصلحة العامة ففي ظل الأخطار الناتجة عن التخلف الشديد الذي تعاني منه بلداننا صار الجزء يهدد الكل و أصبح استمرار "أمن و استقرار" من استطاعوا الحصول على نصيب من الحياة(المادية و الفكرية) مهددا من طرف المحرومين و تشير هزيمة أقوى امبريالية على يد مجموعة صغيرة من البدويين الرجعيين لأن البوليس الذي تثق بعض تلك الفئات في قدرته على ضمان الاستقرار سيكون عاجزا تماما أمام أي تهديد حقيقي و لهذا فإن الكفاح من أجل الاشتراكية باعتبارها مفتاح النهضة و علاج جميع الأمراض الخطيرة في عصرنا قد صار واجبا على جميع القوى الحية و التقدمية في المجتمع فبتوفيرها لحياة إنسانية للجميع ستضمن الاشتراكية استقرارا و ازدهارا و انسجاما اجتماعيا لم يعرفه أي عصر قبلها و مشاكل الهجرة و الإرهاب و السرقة و التطرف الديني ستصبح مثل العبودية و أكل لحوم البشر مجرد فصول في دروس التاريخ التي سيستغرب الطلاب و يشمئزون من كونها ماضي أجدادهم وفي ظلها سيتحقق حلم الانسانية فيعيش البشر في إخاء و مساواة و حرية على أساس الثروة و الوفرة الحالية التي تنتجها الأغلبية و تحتكرها و تبذرها الأقلية في ظل الرأسمالية