نهاية القرن الامريكي والفوضى الكونية/ 2


عبدالامير الركابي
2021 / 8 / 23 - 15:58     

اشاع الغرب وكرس مع نهوضه الحديث، مجموعة من الضلالات المفهومية، وطاتها تناسب حجم ظاهرته، وتصل لحد الخرافات القاتلة. في مقدمتها المسالة الطبقية والإصرار عليها كمحور وركيزه أساسية في تقييم ماهو حاصل حديثا، ودلالته واسبابه، ووجهته، وليس ماركس مع انه النموذج الأعلى على هذا الصعيد، لوحده من تصدر مهمة ترويج هذا المفهوم (1)فالبرجوازية ومعسكرها اوغل باجماله في تعظيم دور طبقته، ومنجزها وثوراتها ونظمها، ماقد أدى الى تكريس نموذج وافتكارية الغرب، ومنحها الأولوية، لابل السطوة على مستوى المعمورة.
والوهم المذكور له أسبابه المختلفة، ومنها الرغبة الأحادية في التسيد والهيمنه انطلاقا من الارجحية المفهومية والنموذجية، الا ان هذا الجانب لايبرر كون الغرب الحديث قد وقع ضمن حالة قصور اعقالي خطير، يضعه في مكان من اجمالي حركة العقل البشري بموضع لايحسد عليه، والجانب الأهم والرئيسي فيما ننوه به، ونذهب اليه، هو اغفال عمل الديالكتيك والتراكم الكمي والتحول الكيفي الماركسي تحديدا، في الظاهرة المراحليه الطبقيه، او ماهو مجسد في " المادية التاريخيه"، وبالذات وبالأخص، اهمال التطور، او القفزة النوعيه الالية، واثرها وانعكاسها على الاليات الاصطراعية البيئية المنشأ، بالمقارنه مثلا وضرورة، بين الطور الاقطاعي، او العبودي، وكونهما مرحلتان يدويتان، مقارنة بالطور اللاحق عليهما، مع انبجاس الالة، وحضورها في العملية الإنتاجية، وعلاقة الانسان المنتج والطبقات بها، بما هي انقلاب نوعي، ومايترتب على وجودها مع مالات حضورها مجتمعيا وطبقيا.
هل الالة بعد ان وجدت، لها على صعيد الاليات المجتمعية، نفس نوع مفاعيل اليدوية، ام انها يمكن ان تنطوي على متغير ما على هذا الصعيد، قد يصل حد الغاء الاليات الاصطراعية اليدوية " التقليدية" الموروثه،وهل هذا احتمال وارد ام لا، هنا كان يمكن لماركس بالفعل ان يصبح عبقريا، لااحاديا، متجاوزا لحدود ونطاق نوع المجتمعية التي ينتمي اليها، ووقتها كان سينتقل الى صف اخر غير صف ادعياء الطبقية، والبرجوازيين منهم على المستوى الاعقالي، وفي مايتصل بمنظومة التفكير والرؤية، المواكبه لظاهرة الغرب الحديث ودلالاتها الكبرى.
ليس مما يثير الاستغراب، ان يظن قاصرون عقلا واعقالا، بان ممثل الصراعية الطبقية الفكري الأعلى، قد "اكتشف ديالكتيك الطبيعة"، بالاخص جيش الببغاوات والمطبلين والمتوهمين الكثر، او من تحركهم نوازع التمييز المجاني، من دون اسقاط الحافز المتولد عن الحال المجتمعي، ولا اغفال اثر اللحظة وملابساتها، ووطاة وجدة ظواهرها، ومنجزها الضخم، وكل هذه أسباب ترد في الخاطر، غير كون الغرب بالاحرى كان قدارتقى حينها قمة تجعل سواها، بحال شعور بديهي بالنقص، وبالتردي، وكل هذه أسباب تجعل أولئك " المريدين" الممتثلين من خارج اوربا، وعلى امتداد المعمورة، غير ملامين بالدرجة الأولى، قياسا لمن كرس واشاع الأفكار الحديثة، وبمقدمها نظرية الصراع الطبقي، واستمراره كما كان، وصولا لما جاءت النظرية لتعينه كمآل محكوم لقانون.
لماذا لايكون "ديالكتيك الطبيعة" قد رسم للمجتمعات مسارا تنتهي معه وعنده الصراعية الطبيقة لتدخل عالما واليات أخرى كانت منتظرة، وغير مماط عنها اللثام، من قبيل التهيؤ للاندراج ضمن العملية التحولية التاريخية، المتجاوزه للظاهرة المجتمعية نفسها، بدل الطبقات كما تقول الماركسية، التي تتوقف وتنتهي حضورا مع الالة، اذ ينتقل الكائن البشري حينها من الرضوخ للطبيعة والبيئه وفعهما الأساس في تنميط المجتمعات واختلافاتها، الى توفر الوسيلة والاداة الضرورية للتدخليه البشرية الارادية، والمخططة التي تحيّد الطبيعه والبيئة، الى ان تخرجها من الحساب، ومن الفعل الغالب او الحاسم، والذي اليه تعود الحال الطبقية، اووجود الطبقات واليات اصطراعها، ومراحلها المتعاقبة السابقة على انبجاس الاله.
يأخذ الغرب الحديث "العلماني" على الشرق اسطوريته وخرافيته، ومنها تلك التي تؤول الى المنظور السماوي بحالته، او صيغة تجليه الحدسي النبوي، وباسم العلم والعلموية، لايلبث هو ان يشيع اكبر الخرافات في التاريخ البشري، وأكثرها تناقضا مع الحقيقة والضرورة المستجدة، فيزور امام الكائن البشري، حقيقة ونوع الصراعية الناشي بعد ظهور الاله، واولها حلول التدخلية الإنسانية المستندة لحضورالالة، وتوابعها، ومايتولد عنها تكنولوجيا، في العملية الإنتاجية والمجتمعية، بما يخفف منن وقد يلغي مفاعيل الاصطراع الطبقي بصيغه السابقة المعروفة، كما كانت فاعله ابان الطور اليدوي، بما هو طور مجتمعية أخرى مختلفة على الصعد كافة.
وللتقريب البداهي، نذكر كمثال ايحائي شائع، تعبير او نمط سلوك بعض الحكومات التي تقول ب " الاقتصاد المخطط، او الموجه"، وهو من دون شك مثير للدلاله التفارقية، بين ماقبل ومابعد، فلا يوجد في ماضي الحياة والكائن البشري من قبل، أي احتمالية تفكير بالتدخل في الاليات الاقتصادية و "توجيهها" وفق منظور شمولي ايديلوجي غالبا واع، مستقل عن العملية الانتاجيه، ومن خارجها، ماكان يجب افتراضا الإيحاء، او الإشارة الى ماقد حصل اليوم من نوع اختلاف جوهري في مجال موقع الانسايوان من العملية الإنتاجية، وضمنها، مع إضافة العنصر المادي الالي الحاسم، واثره، ومدى فعاليته.
انتهت دعوة ماركس المتاخرةعن لحظتها، الى مانتهت اليه سواء في التشبهات خارج اوربا، او في اوربا نفسها، فالقارة المنطلق، المفترض انها الاكمل بنية، والأكثر أهلية للتحول الاشتراكي، لم تعرف أي شكل من اشكال هذا التحول المتخيل، وعلى العكس من ذلك تراحعت الى اقصى حد، لابل تكاد تكون قد غابت وخرجت من سجل الحياة، بقايا التفارقية الاصطراعية الطبقية هناك، في حين انهارت التجربة الالية التي قادتها الفئات الجديده في روسيا، الى الزوال، مع تحول الصين الى رسمالية من نوع شديد التناقض، والخصوصية التي تليق بالبنيه التاريخيه الصينيه، السابقة على الالة، مع تكريس نوع الاستبدادية والامبراطورية المواكبة لها، ممثلة بالحزب بصفته أداة ضبط شمولي وهيمنه محورة.
وقد يكون من اكثر مايثير الاستنكار، لابل السخرية، الاعتقاد الضمني والتهربي المقصود الذي يضع الحالة الامريكيه من ضمن القانون العام، ضمن ماهوطبقي شائع، وبالذات حين يتعلق الامر بما يسمى الثورة الامريكيه، وتشبهاتها بالثورة الفرنسية "البرجوازية"، علما بان ماركس لم يتجدد هنا، بل ذهب الى روسيا والصبن، حيث اشكال الطبقية البيئية ماقبل الاليه حاضرة كتاريخ وبنيه، متاخرة عن، انما قابلة للتشبه بالنموذج الكلاسيكي الأوربي، مع هذا يظل النظر لهذا المكان يؤخذ من زاوية كونه استكمال غربي وطليعة غربية لاحقة،هي من دون شك اخر مظهر من مظاهر الغربوية الحداثويه الملفقه، مع ادنى فصيلة من فصائل خرافاتها المعممة على مدى القرون القليلة الاخيره.
وإذ يلوح ترامب قبل الرئيس الأمريكي الحالي باحتمالية الانسحاب من الشرق الأوسط، في حين يقدم بايدن عمليا على الانسحاب من أفغانستان بعد عشرين سنه هناك، كلفت أمريكا المليارات والجهد العبثي بلاطائل، فان نذر واحتماليات الانكفاء الأمريكي على الذات تصيرواردة، ومن بين الاحتمالات الكارثية والخطيرة، التي تضع البشرية امام منعطف ليس له مشابه او مثيل، فالانكفاء الأمريكي على الذات، قد يترافق مع احتمالية تفجر داخلي واصطراع اهلي داخل القارة، مع مايتركة من اختلال في التوازنات الدولية، وارتباك لاحل له، مع تزايد احتمالات الاختناق الأوربي بالهجرات، وتعاظم التحديات المتاتية من انتعاش الإرهاب باسم الدين، وارتباك روسيا والصين، امام المتغيرات الخارجه عن الضبط، الممتده في العالم المفتوح من الشرق المتوسطي، الى حدود روسيا والصين.
بمعنى ان الظاهرة الامريكية وقرنها الذي جربته وكانت ماخوذه حكما بان تدخل غماره، ستكون اخر ونهاية متبقيات الغرب وهيمنته، النموذجيه،كما نهاية الكذبة الكبرى البرجوازية الراسمالية، الامر الذي يدخل العالم طورا انتقاليا من الفوضى واللااستفرار، غير الممكن تخيل عمقه ومداه، هذاولابد من اخذ العلم، بان أمريكا قلبت وغيرت اوليات المفاهيم، وقواعد مايعرف بالراسمالية كما صورت كلاسيكيا، بتحولها الى مصدر عملة عالمية منذ عام 1970 عندما صارت تصدر الترليونات من الدولارات، من دون موقع انتاجي يحسب له حساب، ماجعل حضورها خارج ارضها مع رساليته الكاذبة، يكتسب اليوم ضرورة إضافية استثنائية ملحة داخليا، فالانكفاء الراهن اذا حصل، فان الاقتصاد الأمريكي، ومعه الركائز الأساسية للاقتصاد الكوكبي، سيختل وينهار، بالذات اذا فقد الدولار دوره ومكانه ضمة العملية الاقتصادية العالمية. وكل هذا لاعلاقة له بالطبع بما هو مستمر من اشكال وقواعد النظر والاحكام المرتكزة الى الكذبه الغربية الطيقية الأولى، "الكلاسيكيه" التي واكبت الالة وانكرت دورها الحاسم.
انتقل الغرب الحديث مع الالة الى الزمن اللاطبقي الالي، اقتضى فترة من الاحتدامية الصراعية ابتدائية، واكبت ونتجت عن الطور المصنعي، قبل ان تتهيا الأسباب اللازمة لجعل الوسيلة الجديدة، فاعلة بخدمة المال، ولاجل تكريس نمطية مجتمعية لاطبقية/ طبقية، حالة أمريكا هي نموذجها الأكثر تعبيرا عنها، والأكثر أهلية بفعل لاطبقيته المتاتية من لاتاريخيته، للذهاب الى المنتجية اللامجتمعية "الافتراضية"، المرتكزه على القفز عن الملموس الحياتي، وهو مايشهد حالة من محاولة التكريس، بالتهيئة لخلق عالم مواز على المجالات كافه، بما فيها العملة أساس العملية الاقتصادية، وحتى وبمافي ذلك، العلاقات الحميمه، بعد التجربة الكارثية المعروفة، ومانتج عنها في "وول ستريت"، كمحاولة افتراضية تذهب بالاقتصاد من حالته كعملية ملموسة مادية مرتبطة بالحاجات الحيوية، الى افتراضية مستحيله.
يتجه الزمن الالي منذ انبثاقه بعد فعله في الكينونه المجتمعية الأولى اليدوية البيئية، الى تحويل الالة الى الهة، بموجبها يتم خلق وإيجاد عالم اخر، يفترض ان يكون عالما مافوق ارضوي، هو حالة هروب من الارضوية ومترتباتها غير القابله للمعالجة احاديا وارضويا، حيث يشخص الانقلاب التصوري الاعقالي كعامل حاسم، يشبه من حيث الأهمية لحظة انتقال الحيوان، من الاحادية الحيوانيه، الى الازدواج ( الجسد/ عقلي)، وهو ماسيتكفل "قران العراق" بماهو حالة كشف النقاب عن المضمر الباقي خافيا على مدى سبعة الاف عام، في فتح الباب باتجاهه، مضيئا الطريق الأخير ماوراء نهاية الغرب وامريكا.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في مركز بومبيدو في العاصمة الفرنسية باريس، يوضع باهتمام بالغ، نص لماركس لاتخطئه العين لضخامته، من باب الاستشهاد بشهادة نموذجيية غير عادية،على عظمة الطبقة البرجوازية، ومنجزها، مبالغا في مدحها من موقع هو حسب المفترض الأشد عداء لها.