ثوابت المثقّف وتحوّلاته


حسن مدن
2021 / 8 / 23 - 01:53     

هل يمكن أن يكون للمثقف أو المفكر في ختام العمر خطاب آخر غير الذي ألفه أو عرف به في مراحل سابقة من عمره؟ أكثر من ذلك، هل يمكن أن يصل خطاب ختام العمر إلى مستوى أن يكون نقيضاً لخطاب مقتبل العمر أو منتصفه، خاصة أننا نعرف نماذج كثيرة لهؤلاء المثقفين الذين عرفوا بنقلاتهم الحادة، أو بقفزاتهم من ضفة إلى ضفة؟
لكن للموضوع جانباً آخر يتصل بمراحل النضج التي يجتازها المثقف، وتطور اهتماماته وتراكم خبراته وخلاصات عمله.
إن التاريخ المعرفي يفرّق في دراسته لسير العديد من المفكرين بين مراحل حياتهم الفكرية ومستوى خصوبتها، وهكذا نقرأ أحياناً عن «هيجل الشاب» تفريقاً له عن «هيجل الشيخ»، وينطبق هذا على جورج لوكاش الذي يبدو في أعماله المتأخرة متراجعاً عن بعض مقولاته في سني الشباب أو الكهولة، أو في أحسن الأحوال مدققاً لها ومطوراً.
خطرت لي هذه الفكرة وأنا أطالع آخر أعمال الباحث العراقي هادي العلوي التي صدرت في طبعة تحمل تاريخ عام 1997 أي قبل وفاته بأقل من سنة، وهو بعنوان «مدارات صوفية» فأنت هنا بصدد لغة أخرى، غير لغة الباحث الصارمة القاطعة التي ألفناها عند العلوي في أعماله السابقة، وإنما بصدد عمل فلسفي - فكري مصوغ بلغة فلسفية كأنها خارجة للتو، طازجة، من أعمال ابن عربي والنفري والحلاج.
إن هادي العلوي في هذا الكتاب، هو نفسه ذاك الناقم المتمرد المحتج، ولكنه في ختام العمر يبدو أشبه بالشيخ الجليل، إذ يصوغ ما يشبه وصية الوداع.
تحضرني هنا عبارة قرأتها لعالم النفس فرج أحمد فرج، الذي أنفق عقوداً في الدراسات النفسية وخبر مدارس وتجارب كثيرة، قالها في مقابلة أجريت معه منذ عدة سنوات ومفادها أنه بعد رحلة العناء الطويلة التي قطعها يشعر بأنه أصبح يميل «إلى السماحة ورحابة الصدر إزاء الآراء والاجتهادات الأخرى». وهذا، في ما أرى، إشارة أخرى إلى أن العالم في مراحل نضجه يكتسب ما يمكن أن نسميه وقار الفكر والتجربة التي تجعله متسامحاً وواسع الأفق وأكثر تحرراً من الحماس الذي وإن كان مطلوباً كرديف للمثابرة والجد، إلا أنه منبوذ حين يكون رديفاً للتشنج.
وأود أن أختم بجملة للراحل إدوارد سعيد، وهو كما نعلم عدو لدود للدوغما على أنواعها، لكنه يقول "على المثقف إذا أراد أن يكون كذلك، أن تكون له ثوابت".