من حضارة الأرض إلى العمل المأجور


محمد علي مقلد
2021 / 8 / 22 - 20:38     

بدأ الجيل الجديد عملية انتقال هادئة من حضارة الأرض وقيمها إلى حضارة العمل المأجور، دشنها أخوالي وأعمامي وأترابهم من مواليد الثلاثينات بانتقالهم من الريف إلى المدينة، بحثا عن عمل خارج الزراعة، موظفين في مؤسسات تجارية خاصة، وفي الترامواي وسكة الحديد والبور وسوق الخضار وسوق الخشب، الخ. وقليلون منهم في الوظيفة العامة، أما العدد المحدود الذي قارب مولده أوائل الأربعينيات، والذي مكنته رعاية والديه من متابعة الدراسة فقد تحول إلى الوظيفة العامة ولا سيما التعليم .
شقيقي البكر، عاطف، الذي صار فيما بعد أستاذاً جامعياً وعضواً في مجلس التأديب العام وفي التفتيش المركزي، وخالي شبيب مقلد، الذي صار من قضاة لبنان الكبار ومديراً لمعهد الدروس القضائية، كانا من أوائل من عبروا نحو نمط جديد من الحياة. من علاقات الريف الزراعية، إلى العلاقات المدينية. سبقهما أو رافقهما إلى العمل في الإدارة العامة والتعليم بضعة من رواد الانتقال المديني من أهل قريتي، علي محمود مقلد، صبحي مشورب، وقد صارا استاذين جامعيين، علي حمد الشامي وبطرس خواجة وحبيب خواجة وعلي ابراهيم درويش وعبد الحسين دويك وأحمد دويك وشقيقه موسى دخلوا الوظيفة العامة بعد تخرجهم من الجامعات. سبقهم إلى الوظيفة العامة في التعليم سرحان سرحان الذي تزوج صبية من قريتنا، وصار يصطاف فيها حتى عد من أبنائها، وترقى في صفوف الوظيفة في العهد الشهابي إلى رتبة مدير عام، وكان قدوة لنا بعصاميته وبانتمائه اليساري. لم يعد الريف إذن بمشيخاته وفلاحيه وإقطاعييه واقتصاده الزراعي وتجارته القائمة على المقايضة المحل الصالح لصنع مستقبل الجيل الجديد.
جيل الرواد عشرة أشخاص. الجيل التالي عشرات ،كنت واحدا منهم. مع جيل الرواد شاهدنا أول سيارة خاصة في القرية. قبلها كانت بوسطة منيف بيطار تقوم برحلتها اليومية إلى بيروت ولها محطات في القرى، إلى أن صار لكل فرد من أبناء جيلنا ولكل فرد من أبنائنا سيارته. عالم بقضه وقضيضه تحول من حضارة إلى حضارة.
كان الفلاحون يعيشون في حرم واحد مع ثيران الفلاحة والبقرة الحلوب .من راتبي الأول دفعت بعض التكاليف لننظف الممر من الطريق العام إلى منزلنا من الوحل وروث الحيوانات ولنفرش الدار بالباطون، بعد أن كنا ندخل إليه نحن والزائرون ، قفزاً على أحجار كبيرة مبعثرة رصفتها يد الطبيعة بين الوحول، ولم تكن كل قفزاتنا موفقة دوما وناجحة.
بيوت الفلاحين في الغالب أرضية وعلية. الأرضية في بيتنا بنى جدرانها ذيب درويش وإبنه رضا في يوم واحد وكانت والدتي قد سددت أجره مسبقاً حين كانت تخيط الثياب لزوجته وأولاده، وأذكر أن والدي نقل الرمول اللازمة من مجرى النهر على ظهور الدواب. بنى شقيقي عاطف، من الرواتب الأولى التي تقاضاها، غرفتين من الباطون بدل العلية التي كانت من لبن وحجارة، والتي تربينا فيها يوم كان يدلف ماء المطر من شقوق سقفها، وكان علي أن أكمل من راتبي تشطيبهما. هذا ما بدأه شقيقي البكر و أكملته أنا بعد انتقاله إلى بيروت، ثم أكمل من بعدنا شقيقي الثالث مقلد مقلد بعد تخرجه من دار المعلمين.أما شقيقتي الوحيدة هيبات فكانت حصتها في استكمال بناء البيت أنها أضافت إلى عائلتنا، بعد أن دخلت سلك الوظيفة في القطاع الخاص ، شقيقاً رابعاً هو زوجها عبد الإله حمود .
جرجوع قرية من قرى الجنوب، كان فيها الإقطاعي مالك الأرض وفلاحون بالمحاصصة، وفلاحون مستقلون. تلك كانت حال كل القرى من غير استثناء. في الأربعينيات ، غداة الاستقلال، ما أن ولدنا في حضارة الأرياف، حتى رحنا نهيء أنفسنا لمغادرتها. كنا نأنف من نظامها الغذائي الذي تقل فيه اللحوم وتكثر أنواع البقول والألبان ومشتقاتها. وكانت القرى لا تزال من دون شبكات ماء للشفة، مع أن في أراضي قريتنا، فضلا عن نبع الطاسة الذي جرت مياهه للشفة إلى قرى النبطية والزهراني وصيدا، عشرات الينابيع العذبة. وفي غياب الكهرباء، كنا نكتب فروضنا المدرسية، ومن حولنا زوار الشتاء والبرد القارس ومدفأة الحطب، على ضوء القناديل، فوق طاولة صغيرة تستخدمها والدتي لرق العجين وخبزه على الصاج صباح اليوم التالي، إلى أن اشترى أخي البكر من مدخوله الشهري مصباحاً على الكاز (لوكس) كنا نضيئه في المناسبات .
بدأنا تلامذة في مدرسة القرية، ثم عدنا إليها مدرسين، بعد أن تخرجنا من الثانويات أو دور المعلمين أو الجامعات. خرجنا من بيوت الطين لنشيد المباني والفيلات، كنا نتنقل على المطي وصار لكل منا ولكل شاب وصبية في العائلة سيارة، وانتقلنا من تواصل بطيء بين الأفراد وبين القرى من خلال وسائل محدودة إلى أن بلغنا آخر مبتكرات التواصل الألكتروني.
الأرياف كلها كانت تتجه نحو المدينة، حتى تكاد القرى الجبلية كقريتي، التي لا تكفيها الزراعات الصيفية ولا تكفي جلولها لزرعة القمح وأنواع الحبوب الأخرى، تفرغ من ساكنيها في فصل الشتاء. كنت أنا من بين من غادروا القرية. بعضهم سعى وراء رزقه وبعضهم طلبا للعلم. وحين تخرجت من دار المعلمين الابتدائية في عام 1965 وعينت مدرساً وكنت لم أبلغ الثامنة عشرة بعد، وقع علي الاختيار، في صيف ذلك العام، لألقي كلمة ترحيب برئيس البلاد، الرئيس شارل حلو، الآتي لتدشين الكهرباء في المنطقة ومحطة ضخ مياه الشفة على نبع الطاسة. تهيبت المهمة يومذاك ولست أذكر بأية طريقة تملصت منها، لكن مناسبة تدشين الكهرباء علمتني مهنة جديدة، إذ شكلنا أنا والأستاذ محمد فضل مقلد، خال زوجتي، وعلي مشورب رفيق طفولتي، فريق عمل وقمنا بتمديد الشبكات الكهربائية في بيوتنا وبيوت الأقارب والأصدقاء. وبقيت، رغم تبدل الأحوال، لا أحتاج إلى كهربائي لتمديد الشبكة أو إصلاح الأعطال في منزلي، حتى بعد أن صرت أستاذاً جامعياً.
تعميم الكهرباء غيّر وجه الأرياف وقلب حياتها رأساً على عقب، واستبدل منظومة قيمها بأخرى، وترافق مع نهوض جيل جديد لم يرث عن أهله الزراعة ومشاكلها، وتحولت الصراعات القديمة بين الفلاحين ومالك الأرض، ولا سيما بعد وفاة الإقطاعي الأب، إلى مجرد نزاعات عقارية يبت بها القضاء اللبناني. لقد تبدل وجه الصراع الطبقي والسياسي في القرية، إذ لم يعد صراعاً على ملكية بل صراع على الانتماء إلى الوطن. مع الكهرباء صار الجنوب جزءاً من الوطن، وبات عليه أن يتحمل أعباء انتمائه، كوطن، إلى الأمة العربية، وتبعات وجوده على الحدود الشمالية لفلسطين. نعم الكهرباء، هي مفتاح الدخول في الحضارة الجديدة، بل هي أساس ترتكز عليه معظم الاكتشافات العلمية اللاحقة.

يموت استبداد ليحيا آخر
كنا نحن، من غير أن ندري، جزءاً من نظام الاستبداد الذي حاربه جدي على مستوى القرية، وناصره على مستوى الوطن، حين نذر نفسه ومعه كل العائلة لخدمة الاقطاع السياسي. قبل أن أنتقل إلى المدينة أستاذاً في التعليم الثانوي، كنت قد صرت صديقاً للاقطاعي الإبن، مالك الأرض في قريتنا. هو الآخر تخلى عن خصومات أجداده وقدم نفسه في صورة محببة لجيلنا، فتعلمنا منه هواية تدرجت على سلّمها إلى أن فزت بكأس في الرماية على الصحون الطائرة في احتفالات كروم الشمس في مغدوشة. المهم أن هذا الذي علمنا هواية الصيد بدّل أمام أنظارنا صورة الاستبداد وأقنعني، وأنا العنيد المشاكس الذي منحتني والدتي لقب "نكد"، ليرافقني كل العمر ولم يزعجني أن أنادى به، بل كنت أعتبره من قبيل المديح، أقنعني سلوك هذا الاقطاعي الشاب، بأن للاستبداد جذوراً خارج القرية وأن علي أن أبحث عنها وأن أواجهها.
فيما كنت أكتب هذا النص جاءني خبر وفاة غابي رزق الله، الذي كان أهله وأهلي على خصومة واحترام متبادل، خصومة تلك الأيام كانت خصومة فرسان، وللفروسية أصول ومبادئ وقيم يحترمها الطرفان، أين منها خصومات اليوم الضاربة عرض الحائط كل القيم البدوية والريفية والمدنية وحتى الأخلاقية؟
غابي رزق الله لم يكن اقطاعياً، بل عمل بعد وفاة والده في القطاع المصرفي، يعني أنه ينتمي إلى الحضارة الجديدة وإلى قيمها. منه تعلمت هواية الصيد وتدخين الغليون، وهو الذي اختار لي أول بندقية صيد بفوهتين(جفت) ماركة أمباسادور من محلات عفيف نحولي من صيدا، ومنه تعلمت كيف أتقي برد الشتاء القارس أيام الثلج، يوم كنا ننتظر طيور السمن ودجاج الأرض قبيل الغروب أو عند انبلاج الفجر والحرارة تقارب الصفر في شهر كانون الأول من كل عام. كان وحده الصياد، ووحده لا يقرصه الصقيع، إلى أن اعترف لنا أنه يلبس تحت ثيابه (كولان) نسائياً وأرشدنا إلى حيث نشتري مثله بمقاس رجالي، من محلات بيع الثياب العتيقة، البالة. لم يكن يخطر في بالنا أن هذا الاقطاعي الشاب الذي كان يقود سيارة أميركية الصنع والطراز من الحجم الطويل، يمكن أن يدخل محلا لبيع الثياب العتيقة ولا حتى أن يمر في تلك الشوارع المخصصة لمحلات الفقراء. مع الكولان والبالة صار غابي أقرب إلى قيمنا الفلاحية من تلك التي كنا نتوهم أننا نحارب فيها الاستبداد، وترسخ هذا القرب حين أتى ذات يوم إلى منزلنا حاملاً معه معطفاً شتوياً وضعته زوجته خارج الخدمة، طالباً من والدتي الخيّاطة أن تحوّله إلى لباس للصيد فتزيل أكمامه لأنها لا تساعد على وضع البندقية على الكتف وقت التصويب والرمي، وتقصره ليكون على مقاسه فيرتديه في رحلات الصيد الباردة.
باعدت الحرب الأهلية بيننا لكننا بقينا على تواصل متقطع، وكنت أنتظر سماع صوته في أعقاب كل إطلالة تلفزيونية لي. كان على الدوام أول المبادرين إلى تهنئتي على "جرأتي ووضوحي وتسلسلي المنطقي وقدرتي على الإقناع" بحسب قوله. وظل على هذه الحال حتى حين أقعده المرض وحال دون قيامي بزيارته للاطمئنان على صحته، لأنه على ما روت لي زوجته اللطيفة أوغيت، "عزّت عليه الدنيا"، حين رأى نفسه على هذه الحال، بعد أن كان يمشي منتصب القامة ، شامخا بأناقته و حسن هندامه .
لم يكن هذا الاقطاعي الشاب يقصد أن يبدل في مخيلتنا صورة الاستبداد والظلم التي انطبعت في أذهاننا، فقد أقنعتنا أحداث كبرى بإن جذور الاستبداد أعمق من أن تتشخصن، وأن النضال من أجل الحرية لم يبدأ بصراعات محلية على حصة على بيدر القمح أو على دالية أو في بستان. كنا على موعد مع تلك الأحداث الكبرى في لبنان والعالم العربي: هزيمة حزيران 1967، المقاومة الفلسطينية، أيلول الأسود، مظاهرة 24 نيسان 1969، مظاهرات مزارعي التبغ، التي تردد فيها إسم أحد أبرز قادتها أو المشاركين فيها، وسرعان ما صار هذا الزعيم صديقاً، عنيت به سيد الكلام، السيد هاني فحص، وعلى موعد أيضاً مع حسن حمدان، مهدي عامل، الذي أقنعنا بسلوكه وبقوة المثال وأغرانا بالالتزام، لنناضل ضد نسخة جديدة من الاستبداد تمارسه "الإمبريالية، أعلى مراحل الراسمالية"، على شعوب الأرض كافة، ولا سيما على الشعب الفلسطيني وعلى الأمة العربية، إلى أن مات حسن حمدان اغتيالا فتذكرنا طرفة بن العبد وقوله عن الظلم
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند.
ترسخ في يقيننا أن الاستبداد لا يقيم خارجنا، إنه في طرائق تفكيرنا وفي سلوكنا وفي خطابنا السياسي، وأن مالكي حقول الاستبداد هم أقرباؤنا وحلفاؤنا في النضال اليومي، ولسنا نحن في تلك الحقول سوى فلاحين. وربما يصح في هذا المقام قول الشاعر محمد الماغوط عن غياب الحرية في بلادنا : قطعا، أنا لم أكن مربوطا إلى رحمي بحبل صرة، بل بحبل مشنقة !
مقطع من سيرة ذاتية