نظرة سريعة على وباء كوفيد 19 في منتصف عام 2021


محمد حسن خليل
2021 / 8 / 23 - 10:16     

مقدمة
يمثل وباء كوفيد 19 أكبر تحدي وبائي في القرن الحادي والعشرين حتى الآن (منتصف يوليو 2021) بملايين الإصابات والوفيات. وهذه النظرة السريعة على أوضاع الوباء تعتزم إلقاء بعض الضوء على مستويات الانتشار على مستوي العالم، وكذلك مستوى استخدام الاختبارات، ونسب تعاطي اللقاحات، واختلاف تأثير الوباء على مختلف الدول، والعناصر التي تؤثر في ذلك.
فيما سبق كان سلالة فيروسات كوفيد معروفة أساسا لعلماء فيروسات الحيوان، ولم يكن فيروس كوفيد 19 هو أول وباء كوفيد تعرفه البشرية. خلال القرن الحادي والعشرين عرفت البشرية عام 2003 وباء كوفيد سارس أساسا في وسط وغرب أفريقيا، وكوفيد ميرس عام 2012 أساسا في دول الشرق الأوسط مثل إيران والسعودية. ثم اكتشف كوفيد 19 في ديسمبر 2019، وتم اكتشاف تركيبه الجيني في أوائل يناير 2020 في الصين. وخطورة أي فيروس مرضي تتحدد أساسا بسرعة انتشاره، كما تتحدد بخطورته ونسب الوفيات والمضاعفات التي يسببها للمرضى. وإذا كان كل من كوفيد سارس وكوفيد ميرس هي أوبئة، بمعني انتشارها في دولة أو عدة دول أو أقاليم محدودة من العالم، فإن كوفيد 19 هو الذي تطور إلى جائحة أو وباء عالمي بسبب سرعة انتشاره.
التفسير الأرجح والأقرب إلى العلمية لنشأة تلك الفيروسات هو التغيرات الجغرافية والديموجرافية (السكانية) التي حدثت بالتوسع في أماكن التواجد البشري على حساب موائل الحيوانات مثل الغابات وغيرها من أماكن توطنها، نتيجة لاستغلال أشجار الغابات وشق الطرق والتعدين في أماكن الغابات وغيرها من الأسباب، مما تسبب في زيادة التقارب بين الإنسان والحيوان. ساهم هذا في تحور الفيروسات الحيوانية وانتقالها للإنسان. وقالت إحدى الدراسات أن أول حالة من كوفيد سارس تم توثيقها في أفريقيا كانت لطفل كان يقيم في منزل على حدود القرية مع الغابة، وكان يلعب تحت شجرة قريبة من منزله تعيش عليها الخفافيش، مما يرجح انتقال الفيروس له من براز تلك الحيوانات وتحورها لتصيب الإنسان من خلال طفرة في الفيروس.
مستويات الإصابة والوفيات نتيجة للوباء
وتوضح الإحصاءات الكلية إجمالي الإصابات والوفيات حاليا (في 16 يوليو 2021) حيث بلغت الإصابات نحو 190 مليون حالة كما بلغت الوفيات نحو أربع ملايين حالة. وتمثل هذه النسبة من الإصابات في المتوسط 24348 حالة لكل مليون من السكان، بينما يقدر متوسط الوفيات ب 524 وفاة لكل مليون مواطن، أي أن نسبة الحالات المسجلة والموثقة تشمل حوالي نحو 2.5% من سكان العالم بينما تبلغ الوفيات حوالي نصف في الألف من سكان العالم.
ظن العالم طويلا أن عهد الأوبئة بما فيها تلك التي كانت تحصد ربع أو نصف سكان العالم قديما قد انتهت حتى جاء الوباء الجديد بتلك النسب من الوفيات والإصابات لكي يلفت انتباه العالم بقوة إلى تجدد مخاطر الأوبئة، ويجعله يحلل ويخطط لمواجهة تلك المشكلة.
وكما هو شائع ومعروف فإنه من بين 223 دولة في العالم تحتل المراكز الخمس الأولى في عدد الإصابات بالترتيب كل من الولايات المتحدة والهند والبرازيل وروسيا وفرنسا. ولكن هذا الترتيب يغفل الاختلاف في عدد السكان، وبالتالي يفرض علينا إذا أردنا الدقة أن نرتب الدول حسب عدد الحالات لكل مليون من السكان. في هذه الحالة نجد أن ترتيب الدول الخمس الأولى هي جزر أندورا ثم جزر سيشل ثم الجبل الأسود ثم التشيك ثم البحرين، وكلها دول قليلة السكان، وبالتالي فالنتائج لا تعكس بدقة الوضع العالمي. ولكن الدول الخمس المشار إليها في البداية تظل محتفظة بترتيب متقدم هو رقم 13 بالنسبة للولايات المتحدة، و26 بالنسبة للبرازيل، و27 بالنسبة لفرنسا. أما بالنسبة لروسيا فتحتل الترتيب 85 وأخيرا تأتي الهند في الترتيب 115. وهذه هي حدود تلك النسب كما نرى وسنرى فيما بعد تأثيرها على الصورة الكلية، لكي نستخلص المؤشرات الأكثر تعبيرا.
أما بالنسبة إلى ترتيب القارات حسب نسبة الإصابات لكل مليون من السكان تأتي أمريكا الجنوبية في المقدمة، تتلوها أمريكا الشمالية ثم أوروبا. أما القارات الثلاث الأخرى، آسيا وأفريقيا وأوسيانيا، فتأتي بعد ذلك.
مستويات انتشار استخدام الفحوص للوباء
يبدو من تلك النتائج لأول وهلة أن الوباء يحابي الدول الفقيرة ويتركز في الدول الغنية، فأفريقيا وآسيا من أقل القارات في معدلات الإصابات والوفيات بينما أوروبا وأمريكا الشمالية من أعلاها. ولكن هذا التقسيم لا يعبر أيضا عن الحقيقة كاملة، إذ إنه يتأثر بعدد الفحوص التي تجريها كل دولة، فالدول التي تجري نسبا أعلى من الفحوص تكون أعداد الإصابات والوفيات أقرب إلى الدقة، بينما نلاحظ في كل الدول الفقيرة إن الانخفاض الشديد في نسبة الفحوص يؤدي إلى صورة زائفة حول قلة الإصابات والوفيات بها، حتى لو حسبناها لكل مليون من السكان.
يبدو هذا واضحا من حقيقة أن نسب الفحوص لكل مليون من السكان في أوروبا تمثل ثلاثة وثلاثين ضعفا بالنسبة إلى أفريقيا (13.8 مليون لكل مليون من السكان في أوروبا قياسا إلى 42 ألف في أفريقيا)، كما تمثل تلك الفحوص في أمريكا الشمالية ثلاثة أضعاف عدد الفحوص في أمريكا الجنوبية (980 ألف إلى 321 ألف)، أيضا مقاسة لكل مليون من السكان. أما ترتيب القارات حسب نسبة الإصابات لكل مليون من السكان فيرينا أن أعلي قارة هي أوروبا تتلوها أمريكا الشمالية، ثم أوسيانيا. أما القارات الأقل في نسب الفحوص فهي القارات الأكثر فقرا، أيضا بالترتيب: أمريكا الجنوبية، تتلوها آسيا، ثم أفريقيا.
تظهر تلك النسب واقع أن قارة أوسيانيا، وهي تضم استراليا ونيوزيلاندا ويضمان حوالي 31 مليونا من السكان وينتميان إلى الدول الغنية، بالإضافة إلي دول فقيرة تشمل بابوا غينيا الجديدة (عشرة ملايين) وتسعة دول- جزر صغيرة (نحو مليونين من السكان)، بإجمالي سكان 43 مليون نسمة. وحيث إن حوالي ثلاثة أرباع سكان تلك القارة ينتمون إلى دولتين غنيتين فإن هذا يرفع مؤشراتها الكلية من حيث كفاءة النظام الصحي وكذلك عدد الفحوص، ولكن وجود ربع سكان القارة في البلدان الأكثر فقرا يغير النتائج إلى حد محسوس أحيانا. لهذا أتت أوسيانيا مع القارات الغنية في الترتيب الثالث من حيث نسبة الفحوص لكل مليون من السكان.
وهكذا نرى محدودية قدرة أرقام أو نسب الإصابات والوفيات بالمرض على المقارنة بين دول العالم كلها، نظرا لأن الدول الفقيرة لا تقوم إلا بالنذر اليسير من الفحوص، بينما نجد أن استخدام نسبة الفحوص للمقارنة بين مختلف القارات يرينا الفوارق الحقيقية التي تبرز بين الدول والقارات الغنية وبين الفقيرة.
كفاءة النظم الصحية
منذ أول الوباء حذرت منظمة الصحة العالمية من التأثيرات السيئة للوباء على الدول ذات الأنظمة الصحية الهشة. ورغم أن تلك الهشاشة مدركة من ناحية التقسيم الفعلي للدول الغنية والدول الفقيرة، إلا أننا سنحاول هنا إيجاد مدلول عملي يمكن به قياس تلك الهشاشة.
والمؤشران اللذان نراهما حاسمان لقياس كفاءة النظام الصحي هما نسبة أسرة المستشفيات ونسبة الأطباء لكل ألف من السكان. وإذا بدأنا بنسبة الأطباء لكل 1000 من السكان نجد أن المتوسط العالمي هو 1.57 طبيب لكل ألف. إلا أن المتوسطات غالبا ما تكون خداعة بالنسبة لعدالة توزيع الأطباء، شأنهم شأن كافة الثروات البشرية والطبيعية، فيتفاوت متوسط الأطباء كثيرا بين مختلف الدول.
ففي الدول عالية الدخل يصل عدد الأطباء لكل 1000 من السكان إلى 3.1 طبيبا وفى الدول منخفضة الدخل إلى 0.3 طبيبا لكل ألف مواطن، أي أن نصيب السكان من الأطباء يبلغ في الدول الغنية عشرة أضعاف الدول الفقيرة! أما الدول متوسطة الدخل فيبلغ عدد الأطباء بها 1.4 طبيبا، أي أكثر من أربعة أضعاف الدول الفقيرة. بل إنه داخل الدول متوسطة الدخل نفسها نجد الفرق بين الدول المتوسطة عالية الدخل (2.2 طبيبا لكل ألف من السكان) بينما لا يختلف الرقم في الدول المتوسطة ذات الدخل المنخفض عن الدول منخفضة الدخل وهو 0.3 طبيب لكل ألف من السكان. ويبرز الفارق حتى بين آسيا (0.8 سرير) وأفريقيا (0.2 سرير)!
وترتدي المقارنة بين القارات نفس الزي، فيما يخص عدد أسرة المستشفيات لكل 1000 من السكان . ويتراوح عدد الأسرة في الدول الغنية عموما بين 6 و7 سرير لكل 1000 من السكان، بينما يصل في أفقر المناطق إلى 0.2 سريرا لكل 1000 من السكان. أي تبلغ النسبة أكثر من ثلاثين ضعفا بين الأغنياء والفقراء! ويقدم لنا هذا الموقع أساسا للمقارنة بين المناطق المختلفة على أساس أكثر تفصيلا، فنجد مثلا أن أكثر مناطق العالم من حيث وفرة الأسرة هي دول الاتحاد السوفيتي السابق التي تمتلك 7.3 سريرا لكل ألف مواطن، تليها دول أوروبا الشرقية (7.1). بل إن تلك الأرقام تزيد حتى عن متوسط الأسرة في الدول السبع الكبرى (6.7 سريرا لكل ألف مواطن). ومتوسط الأسرة في دول الاتحاد الأوروبي يبلغ 6.4 سريرا لكل ألف مواطن. هل يعود هذا إلي قيام النظام الاشتراكي السابق بإنشاء نسبة أعلي من الخدمات الصحية للمواطنين حتى أكثر من الدول المتقدمة في الغرب؟ أما في دول حلف الناتو، وتضم أمريكا وكندا، فيبلغ متوسط الأسرة 6.18 سريرا لكل ألف مواطن.
أما في المناطق الأخرى من العالم فينخفض عدد الأسرة لكل 1000 من السكان إلى 3.1 في أوسيانيا، ثم إلى 2.9 في أمريكا الجنوبية. يبلغ المتوسط في دول جنوب آسيا 0.5 سريرا لكل ألف مواطن، وكل ما سبق يتسق مع الصورة التي رأيناها فيما سبق. ولكننا نرى الرقم شاذا فيما يتعلق بأفريقيا جنوب الصحراء في نفس المصدر الذي أخذنا منه كل الأرقام السابقة، فرغم أن هذه المنطقة هي أفقر مناطق العالم إلا أن نسبة الأسرة فيها حسب نفس الموقع 2.9. لهذا بحثنا عن نفس ا لرقم في مصدر آخر، فوجدنا أن الرقم في موضع آخر هو 1.2 سريرا لكل 1000 مواطن. بل إن نفس الموقع يبين تطور أو تدهور نسبة الأسرة للسكان في أفريقيا جنوب الصحراء من 1.4 سريرا عام 1960 إلى 1.2 سريرا عام 1990. لا توجد إحصاءات عن سنين أحدث، ونحن نرى ذلك الرقم أقرب للتوقع من الرقم الوارد في المرجع الأول.
واضح بالطبع علاقة كفاءة النظام الصحي بالقدرة على مواجهة وباء كوفيد 19، ويمكن بالطبع تصور مؤشرات أخرى لكفاءة النظام الصحي مثل نسبة أسرة الرعاية المركزة والقدرة علي تصنيع الأدوية ... ألخ، ولكن تبدو تلك المؤشرات متوافقة مع كفاءة النظام الصحي كما بدا من المؤشرات التي اخترناها.
والتخوف الرئيسي بالنسبة للوباء هو الضغط على أسرة المستشفيات وأسرة الرعاية المركزة. ويعرف انهيار النظام الصحي بأنه امتلاء أسرة المستشفيات و/أو أسرة الرعاية المركزة بالكامل مع العجز عن استقبال كل المرضى الموجودين. لقد وصلت دول متقدمة إلى هذا المستوى مثل إيطاليا في فترة ذروة انتشار الوباء بها، ولهذا فإن الدول عندما تجد ارتفاع إشغال الأسرة في المستشفيات والرعايات المركزة بحيث تقترب من درجة التشبع تبادر بتشديد إجراءات العزل والتباعد الاجتماعي وكافة إجراءات الوقاية حتى لا تبلغ نقطة الانهيار. وفي الدول غير المتقدمة لا يتم الإعلان حقيقة عن نسب إشغال الأسرة، ولا يعلن بالتالي عن انهيار النظام الصحي في إطار سياسات التعتيم سواء لدوافع اقتصادية أو لخشية الحكومات من سخط المواطنين. يتم هذا فقط على سبيل الاستثناء مثلما حدث في تونس.
التطعيمات
منذ إعلان بداية وباء كوفيد 19 ثم اكتشاف التسلسل الجيني للفيروس من قبل الصين أوائل يناير 2020 بدأ سباق عالمي للتوصل إلى اختراع لقاحات لمواجهة الوباء. كان أول لقاح أُعلن عن تجاوزه لمراحل الاختبار الثلاث هو سبوتنيك في الروسي في أكتوبر 2020 وبدأ استخدامه في روسيا منذ أول ديسمبر 2020 .
ثم توالى بعدها اكتشاف اللقاحات مع الموافقة السريعة لمنظمة الصحة العالمية عليها: أصدرت المنظمة إذناً باستخدام لقاح فايزر في 31 ديسمبر 2020. وفي 15 فبراير 2021، أصدرت المنظمة إذناً باستخدام نسختين من لقاح أسترازينيكا/أكسفورد، والمُصنّع من قِبل معهد الأمصال في الهند وشركة "إس كي بايو"،. وفي 12 آذار/مارس 2021، أصدرت المنظمة إذناً باستخدام لقاح جونسون و جونسون. تلا ذلك اعتراف منظمة الصحة العالمية بلقاح سينوفارم من إنتاج الصين في يونيو 2021.
أما اللقاح الذي لم تعترف منظمة الصحة العالمية به حتى الآن (يوليو 2021) فهو لقاح سبوتنيك في الروسي، رغم أن اللقاح لقي ترحيبا جيدا من مجلات علمية عالمية مرموقة مثل مجلة لانست ونيتشر. واللقاح الآن رغم ذلك يستعمل في 69 دولة في العالم، ورغم عدم اعتراف الاتحاد الأوروبي به فقد بدأت المجر باستخدامه، كما عرضت انجيلا ميركل مستشارة ألمانيا بالمساعدة في تحقيق اعتراف الاتحاد الأوروبي به. اعتبرت روسيا أن رفض الترخيص هذا تسييس للقاح، ورفض للترخيص على أسس تجارية لتسويق لقاحات الدول المتقدمة الأعلى سعرا بكثير.
تم بعد ذلك الإعلان عن توصل كل من كوبا وإيران إلى تصنيع لقاحات خاصة بها، ولكن لم يتم استعمالها بعد، رغم أن هذا الخبر في حالة إثبات صحته وفعالية اللقاح سوف يعد انتصارا علميا لا شك فيه لدولتين ناميتين.
ولكن هناك نقطة أخرى يجدر إثارتها، ألا وهي محاولة البعض تحقيق أعلي ربح ممكن من اللقاح. بينما عرضت كل من روسيا والصين إتاحة اللقاح لإنتاجه للدول الأخرى مع عدم مطالبتها بحقوق الملكية الفكرية، فإن الشركات الغربية الكبرى رفضت ذلك.
قدر أحد المصادر أن أرباح شركة فايزر المتحققة خلال الشهور الثلاثة الأول من عام 2021 من بيع اللقاح 3.5 مليار دولار، بينما قدرت مقالة معنونة "إن لقاح كوفيد 19 الذي تنتجه شركة فايزر سوف يعد أحد أكثر الأدوية تحقيقا للربح في العالم"، قدر أن إجمالي الأرباح المتحققة من بيع اللقاح كلها سوف تصل إلى 15 مليار دولار!
وبالطبع يثير هذا نقطة عدالة إقرار حقوق شركات الدواء في تحقيق عشرات المليارات من الدولارات من الأرباح في الوقت الذي يموت فيه ملايين البشر، أي أن هذا تربح من المتاجرة بأمراض البشر. دافعت الشركات، وحتى بعض الحكومات، عن حق الشركات في الربح ورفضت تحديد نسبته أو تقليل سعر اللقاح. إلا أن هذا لم يكن سلوك الدول في العالم في مثال عالمي سابق شديد الأهمية، يخص تصنيع البنسلين خلال الحرب العالمية الثانية.
ومن المعروف أن أغلبية وفيات الحرب العالمية الأولى كانت في المستشفيات نتيجة لنسب الوفيات العالية جدا للجرحى من تلوث الجروح في ظل انعدام وجود مضادات حيوية وقتها، بينما في الحرب العالمية الثانية كانت أغلبية الوفيات في ميادين القتال، حيث انخفضت نسب الوفيات بين الجرحى الذين يصلون إلى المستشفيات أحياءً بفضل البنسلين.
تحقق هذا بفضل تدخل الحكومات في تصنيع البنسلين وتحديد هامش الربح به، فاجتمعت بالشركات وكسرت حق براءة الاختراع للبنسلين ووزعت إنتاج البنسلين على شركات متعددة وحددت لها هامشا معقولا للربح بعيدا عن الأرباح الاحتكارية التي تحقق المكاسب الضخمة مثل التي رأيناها الآن مع لقاحات كوفيد 19. ربما يمثل انتشار فلسفات الليبرالية الجديدة مناخا يرفض تدخل الدولة حتى في ظرف مثل الذي نعيشه!
على كل، بادرت حكومات ومنظمات دولية بإنشاء آلية كوفاكس لمقاومة الوباء ونشر استخدام التطعيمات في العالم. تهدف آلية كوفاكس إلى التعاون الدولي في تطوير وإنتاج والتوزيع العادل لاختبارات كوفيد 19 وتطعيماته. وهي تستهدف توفير جرعات على الأقل لعشرين في المائة من سكان البلدان المختلفة. كما تهدف خصيصا إلى تنويع والإدارة النشطة لمحفظة التطعيم. وتهدف إلى توصيل اللقاحات بمجرد توافرها، مستهدفة إنهاء فترة الجائحة وإعادة بناء الاقتصاد. تعمل تلك الآلية بقيادة والتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة اليونيسيف، وتتلقى التبرعات من الحكومات وعدد هام من أكبر المنظمات الأهلية في العالم. رغم هذا لم تنجح تلك الآلية سوى في توفير 152.8 مليون جرعة (تكفي لتطعيم نصف هذا العدد من البشر باعتبار جرعتين لكل فرد). وهذا يوضح إلى أي حد تتخلف النسبة الحقيقية التي تم تطعيمها عن المستهدف، وهو 20% من الشعوب، إذ لم تتجاوز نسبة من تلقوا تطعيمهم في أفريقيا عن 3% كما سنرى. والدول الكبرى التي تتبرع لشراء اللقاحات في آلية كوفاكس تدعم شركاتها في الواقع، فهم لا يشترون اللقاحات الرخيصة الصينية والروسية.
ننتقل الآن إلى مراجعة خريطة توزيع اللقاحات على مستوى العالم. يبلغ نسبة من تلقوا اللقاح 26.3% من سكان العالم. ويتبع توزيع اللقاحات نفس النمط الذي رأيناه في توزيع فحوص اختبار المرض، أي محاباة الدول الغنية. أعلى مناطق العالم في نسب تلقي اللقاحات هي دول الاتحاد الأوروبي، حيث تبلغ النسبة 55.7% من السكان. تلي ذلك أوروبا كلها حيث تبلغ النسبة 45.7%، ثم أمريكا الشمالية بنسبة 45.1%، ثم أمريكا الجنوبية بنسبة 38.2%، يتلوها قارة آسيا بنسبة 26.2%، ثم قارة أوسيانيا بنسبة 20.6%، وأخيرا تأتي أفريقيا بنسبة لا تزيد عن 3%!
ملاحظات سريعة على بعض الفوارق بين الدول الغنية
إن المتابع لمستويات انتشار الوباء ومعدلات الوفيات في الدول المتقدمة ليخرج بانطباع أنه بين مجموعة الدول الغنية، توجد تفاوتات جديرة بالتأمل. والانطباع الذي خرجنا به هو أن مستويات الانتشار داخل الدول الغنية تختلف كثيرا فيما بينها، بل ويمكننا بشكل عام تقسيمها إلى ثلاث مجموعات من الدول. النوع الأول ويضم أعلى مجموعة من الدول في نسب الإصابات والوفيات لكل مليون من السكان، ويمثل هذه الدول الولايات المتحدة والبرازيل والمملكة المتحدة. نرى أن المشترك فيما بينها هو السياسة التقشفية بما فيها تقليص الإنفاق الصحي، والتأخر في اتخاذ إجراءات حاسمة للإغلاق والتباعد الاجتماعي لتفادي الانتشار. إنها سياسات الليبرالية الجديدة.
وكأمثلة على ذلك النوع من البلدان نرى أن معدلات انتشار المرض لكل مليون في الولايات المتحدة هو 112111، أي أكثر من 11.2% من السكان أصيبوا بكوفيد 19. وقد كانت نسبة الوفيات هي 1287 في المليون، أي حوالي 1.3 في الألف. ونرى في البرازيل نمطا مشابها إذ تبلغ نسبة الإصابات 88959 لكل مليون، بينما تبلغ الوفيات 2517، (أي حوالي 8.9% من السكان إصابات، وحوالي 2.5 في الألف وفيات). أما المملكة المتحدة فتبلغ نسبة الإصابات بها 77372 لكل مليون مواطن، بينما تبلغ الوفيات 1884 أيضا لكل مليون مواطن (وهذا يمثل حوالي 7.7% من الشعب إصابات و1.9 في الألف وفيات).
والمجموعة الثانية هي مجموعة الدول التي تتبنى سياسات اجتماعية أو سياسات كينزية أو سياسات اشتراكية ديمقراطية، ونتخذ أمثلة لها ألمانيا والنرويج وبلجيكا. نسب الانتشار والوفيات في كل منها على التعاقب هي: ألمانيا 44591 إصابة و1093 وفاة لكل مليون من السكان، (4.5% من الشعب إصابات، و1.1 في الألف وفيات)، والنرويج بمعدل 24591 إصابة و146 وفاه (2.5% من الشعب إصابات و0.15 في الألف وفيات). وفي بلجيكا هناك انتشار 52202 إصابة لكل مليون من السكان، بينما هناك وفيات 427 (أي 5.2% مستوى انتشار و0.4 في الألف وفيات). ونلاحظ هنا انخفاض النسب بشكل حاد عن المجموعة السابقة.
ولكن داخل بعض الدول ذات التوجه الاجتماعي والسياسات الكينزية نجد دولا مثل إيطاليا وأسبانيا وفرنسا تقع في مرتبة وسطى بين المجموعتين السابقتين: ففي إيطاليا تبلغ أعداد الإصابات 70869 لكل مليون في حين تبلغ نسبة الوفيات 2118 لكل مليون (بنسبة وفيات 7.1% من الشعب، ووفيات 2.1 في الألف). وفي أسبانيا يبلغ معدل الإصابات 86997 لكل مليون، والوفيات 1734 لكل مليون أيضا (بنسبة انتشار 8.7% من الشعب، ووفيات 1.7 في الألف). وفي فرنسا تبلغ نسبة الانتشار 89193 لكل مليون، والوفيات 1703 (أي نسبة 8.9% نسبة انتشار، و1.7 في الألف نسبة وفيات. وتقع تلك المجموعة بين المجموعتين السابقتين.
وبنظرة سريعة على المجموعات نجد أن متوسط نسبة انتشار المرض هو 9.3% من الشعب في المجموعة الأولى، بينما متوسط الوفيات لنفس المجموعة 5.3 في الألف. وفي المجموعة الثانية يبلغ متوسط الإصابات 4.1% من الشعب بينما يبلغ 2.3 في الألف، بفارق واضح جدا (أقل من النصف). أما في المجموعة الثالثة فالفوارق أقل وضوحا فهي 8.3% نسبة انتشار و1.8 في الألف نسبة وفيات. وربما كان ما يميز المجموعة الأخيرة رغم انتمائها للدول التي تتبنى السياسات الاجتماعية هو عدم الانضباط بين السكان بالذات في الفترة الأولى بالقياس إلى المجموعة الثانية.
وما سبق هو مجرد انطباع، والتحليل بعيد عن الكمال وعن التحليل الإحصائي الرصين الشامل، وربما يصلح لأن يكون فرضية لمزيد من البحث التفصيلي في تلك النقطة.
خلاصة واستنتاجات
أدى انتشار وباء كوفيد 19 إلى تغير كبير في الواقع وفى المفاهيم. إن انتشار وباء ليشمل نحو 190 مليون مصاب ويقضي على أربعة ملايين من سكان الأرض حتى الآن لابد وأن يلفت انتباه العالم بشدة إلى الدرس والتحليل وتحديد أساليب المواجهة، والمنع والوقاية والعلاج.
وكشف انتشار الوباء عن عناصر الضعف الموجودة في نظامنا الاجتماعي والصحي. ونذكر كيف انتقد البريطانيون منذ بداية الوباء سياسات جونسون وحزب المحافظين خلال العقد الأخير (2010- 2020) بتقييد الإنفاق الصحي وتقليص الإنفاق على الخدمات وفقا لسياسات الليبرالية الجديدة. أصبحت هناك معايير مختلفة لكفاءة الهيكل الصحي في الدول المتقدمة من زاوية نسبة أسرة المستشفيات وأسرة الرعاية المركزة ومستشفيات العزل وغيرها، مع تطوير هيكل البحث العلمي.
أما في الدول المتخلفة فالوضع كان أفدح بكثير، وظهر صدق منظمة الصحة العالمية عندما حذرت منذ بداية الوباء من انهيار الأنظمة الصحية الهشة في مواجهة وباء كوفيد 19. وهكذا فرض على البشرية مواجهة ذلك الخطر الجديد.
كما ظهر التمايز بين الدول الغنية والفقيرة واضحا في مجالي عدد الفحوص التي تجري بها منسوبة لكل مليون من السكان، وفي عدد اللقاحات التي تم توزيعها لكل مليون من السكان أيضا. وظهر خطورة سعي الشركات لتحقيق أعلى الأرباح الاحتكارية من المتاجرة بآلام البشر، مع عجز أو عدم رغبة الحكومات في الضغط عليهم.
وانتهينا بوضع فرضية لتفسير الاختلافات في النتائج بين مختلف الدول المتقدمة، وندعو لبحث تلك الفرضية وللالتفات إلى المادة الغنية المتوفرة منذ بداية الجائحة لإعادة تقدير موقف اجتماعي اقتصادي صحي لمواجهة المخاطر.
المصادر
أنظر الموقع التالي الذي يتيح أعداد الإصابات والوفيات لكل دول العالم، ولكننا أجرينا عمليات تحليلية عليها. رجعنا إليه بتاريخ 17 يوليو 2021 https://www.worldometers.info/coronavirus/?utm_campaign=homeAdvegas1?%20
IBID

IBID

https://data.worldbank.org/indicator/SH.MED.PHYS.ZS?end=2018&start=2018&view=bar

https://www.nationmaster.com/country-info/stats/Health/Hospital-beds/Per-1,000-people

IBID

https://knoema.com/WBHNPS2018DEC/health-nutrition-and-population-statistics?tsId=1047090

https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AD_%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%86%D9%8A%D9%83_%D9%81%D9%8Ahttps://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AD_%D8%B3%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%86%D9%8A%D9%83_%D9%81%D9%8A
https://www.who.int/ar/news-room/q-a-detail/coronavirus-disease-(covid-19)-vaccines?adgroupsurvey=%7badgroupsurvey%7d&gclid=CjwKCAjwo4mIBhBsEiwAKgzXOP39soM2e-18-wv62CTYsatmw-EPRoiOzOGRCy2OnGQjOXAB9aUtpxoCvTYQAvD_BwE
https://www.who.int/ar/news-room/feature-stories/detail/the-sinovac-covid-19-vaccine-what-you-need-to-know

https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(21)00191-4/fulltext

https://www.nature.com/articles/d41586-021-01813-2
https://www.nytimes.com/2021/05/04/business/pfizer-covid-vaccine-profits.html

https://qz.com/1967638/pfizer-will-make-15-billion-from-covid-19-vaccine-sales

https://www.gavi.org/covax-facility?gclid=Cj0KCQjw6ZOIBhDdARIsAMf8YyGlPrOmh87bzxlyQu93bcv_NgeMqtpoXIertbqkxYtKF1LW3uiQOukaAv4SEALw_wcB

https://ourworldindata.org/covid-vaccinations

https://www.worldometers.info/coronavirus/?utm_campaign=homeAdvegas1?%20
مصدر سبق ذكره
IBID
IBID

IBID