نهاية القرن الامريكي والفوضى الكونيه/1


عبدالامير الركابي
2021 / 8 / 21 - 16:30     

كان القرن العشرين قرنا أمريكيا بامتياز، انتهى مع القرن الحالي، بعد متغيرات شملت الظاهرة الغربية في اكبر تجلياتها الآلية المجتمعية التي تعين ازدواجيتها، تلك الروسية الصينيه .. الخ منها بالذات، وماعرف وقتها بالمعسكر الاشتراكي الذي انهار في التسعينات من القرن الماضي، لتتبعه مباشرة حالة افول الانتشار الأمريكي، دلالة على التلازم بين المعسكرين،بعد لحظة عابرة من تحول أمريكا الى القوى الكونيه العظمى الوحيده، كما كانت التصورات الأحادية تعتقد، الامر الذي لم يلبث ان انتهى بشمول الظاهرة الافولية نفسها للقوة التي اعلن على حواف انفرادها الدولي، توهمية بمنتهى السذاجة من نوع"نهاية التاريخ"(1).
والملفت الذي سيكون له اثر فاصل لاحقا على صعيد الرؤى ومنظومة التقييم والقياس، تهاوي المفاهيم المستعمله في فحص الظاهرة الامريكيه، ومنها مفهوم "الإمبراطورية " وافولها، الذي يتحول الى معزوفة تكرر ببغاويا(1)، ملحقة بالأمثلة المستمدة من التاريخ، مثل تلك الروماينه بالذات، الامر الذي لااساس له، فظاهرة الانتشار الأمريكي خارج القارة، لاعلاقة له، ولاصلة تصله من حيث الجوهر والمحركات، اطلاقا، باي من النماذج المتعارف عليها امبراطوريا احاديا في التاريخ، هذا الا اذا اعتمدنا ملمح القوة والانتشار المتعدي للكيانيه الثانوي، واعتبرناه قاعدة تقاس عليها اشكال الدول الفائضة عن الحدود الوطنيه على كثرتها.
واغرب مافي الامر لهذه الجهه أصلا، القول بان المجتمع الأمريكي الذي نعرفه، هو مجتمع يشبه، او له اية صله بالمجتمعات التاريخيه، ومنها الاوربية التي عرفت الامبراطوريات، علما بان "المجتمع المفقس خارج رحم التاريخ"، والمتشكل من مهاجرين احتلو قارة كانت مسكونه، من هجرات موغله في القدم، سبق ان تسنت لها الظروف والأسباب التفاعلية الضرورية لتتمتع بنمطيتها المجتمعية، ونوع ونموذج "حضارتها" المطابق لكينونتها، باعتبارها ووفقا للأسباب والعوامل الرئيسية الفاعله في الظاهرة المجتمعية عموما، مجتمعية "لادولة " أحادية، معروفة بنمط حياتيه الهندي الأحمر الذي جرت ابادته.
واما مشروع المجتمعية الجديد الحال في القارة "المكتشفة" حديثا، فقد بدا ومايزال تغلب على تكوينه الفكرة المسبقة التي تصنعه من خارجه، بما هي رغبة حلميه سابقه على الواقع، بدات على يد البيووريتانيين على ضفاف القارة الجاري غزوها بشعار "سنبني مدينه على جبل"(2)، الذي هو تكرار متأخر خارج شروطه، لشعار الابراهيميه الرافديني السماوي اللاارضوي الاول"الوعد خارج الأرض"، مع الاستعادة التشبهية بالحالة الهجروية الأصل، ومحاولة تمثلها، برغم الفارق الأساس المفضي للاستحالة، بين رؤية سماوية مجتمعية لاارضوية لها أساس واقعي معاش متجليه خارج ارضها، ونمط مجتمعية لاتتحقق كيانيا في ارضها لاسباب مصدرها ازدواجية مجتمعية، هي حالة ونمطية ارض مابين النهرين كما وجدت ابتداء، منتجه اشتراطات ونمط تحقق لاكياني، بمعنى متعد للكيانيه، لايتحقق محليا، بل يتجلى حكما بحسب ازدواجه المجتمعي الارضوي/ اللاارضوي امبراطوريا، ( هنا قامت اول امبراطورية في التاريخ البشري من اضيق نقطة ومساحة، بصفتها كينونة تمثلت بالامبراطورية الاكدية، لتتكرر وصولا لبابل، وبحسب الدورات التاريخة، وفي الدورة الثانيه منها واخيرا، بالإمبراطورية العظمى العباسية القرمطية الانتظارية) وبما ان الغرب الحديث قد قصراحاطة، وتوقف دون اماطة اللثام عن الظاهرة المجتمعية، وانماطها التي تولدها العلاقة المجتمعية البيئية، بينما ظل معتمدا المنظور الأحادي التماثلي الواحدي، للظاهرة المجتمعية، ليكون هذا الجانب بالذات، مسربا وعامل تكريس لنوع من الاسقاطيه القسرية، الفجة والجاهلة، ولدت اكبر الحالات الانتكاسية النكوصية الغربية الحديثة، من بين جملة من مظاهر العجز عن التعرف على الذات والعالم، على عكس الشائع والمتداول.
ليست أمريكا "مجتمعا"، بل تجمع مهاجرين، لم يسر عليهم فعل التاريخ الضروري اللازم لتحولهم لظاهرة مجتمعية، ماقد هيأ الأسباب، وبمقدمها الاشتراطات الراسمالية الاوربية الالية، لفبركة مجتمعية، بالاسقاط وارتكازا لمفعول الالة، وفرض نمط النموذجيه الغربيه على واقع متخيل لايمت لها باية صله، فلا برجوازية ولا راسمالية يمكن ان تكون بنت المجتمع الأمريكي، أونتاج سيرورته التاريخيه المراحليه التي لاوجود لها، بل حالة افتراض براني، يرتكز لهيمنته النموذجية والافتكارية الغالبة، لاسباغ صفة وتسميات، على واقع مستجد، مايزال لم يتشكل بعد، ولم ينتقل الى حيث يمكن تسميته ب"المجتمع"اصلا.
وقد يكون من اغرب الغرابات الداله على القصور الاعقالي الغربي الحداثي، مع قوة النزوع الى الفبركه، كون الظاهرة الامريكيه لم تثر لدى الغرب ومفكرية المعدودين، اية تساؤلات من نوع، كيف يمكن لجماعة مهاجرة لم يسر عليها قانون التفاعليه البيئية والتاريخيه، ولا الزمن الضروري اللازم، ان تتحول فجاة وبين ليلة وضحاها، الى راسمالية، تتمتع بافضال النظام الديمقراطي، الممتزج بالحلم الرسالي، علما بان المكان الجارية الهجرة اليه، سبق ان كانت له مجتمعيته ونمطه الدال على نوع ومنتج تفاعليته الطبيعيه البيئة، التي وفقها تتعين المجتمعات وانماطها، هذا علما بان الغرب يتفاخر بكونه قد افتتح الباب الى ماعرف ب"اخر العلوم"، مقترحا علينا ومعمما، ظاهرة الطبقات ومراحلها، ومعتبرا ماقد قاربه من العلم المذكور، بمثابه منجز اقرب للكمال، مع ان ماقد تحقق لهذه الجهه، لايعدو كونه مجرد ملامسه ابتدائية لمعطى أساس، كان ومايزال ابعد مايكون عن ان تكشف جوانبه الحيوية الأساسية حتى اليوم.
فالغرب الحديث عجز كليا، ولم يفلح، لا في اماطة اللثام عن منطويات الظاهرة المجتمعية، ولا مالاتها، وماهي سائرة اليه، وذاهبه باتجاهه، ماقد ابقى المنظور البشري لهذه الجهة، قاصرا عن تجاوز النقص الاعقالي الأصل، المرافق لعلاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، وقصوره الموضوعي عنها، وعن التعرف على منطوياتها الفعليه، وفاعليتها، واليات تصيرها التاريخي، وصولا لماهي مهيئة وميسره لبلوغه، بما يتجاوزها كظاهر، ليست ابدية وبلا نهاية، بل خاضعه لقانون التحول وانتهاء الصلاحية الشامل لظواهر الكون.
والذي لاشك فيه، ان الظاهرة الامريكيه بحد ذاتها، من بين مانشير اليه، تصلح كدالة على نقص فادح على مستوى الرؤية المجتمعية التي تأخر ت مقاربتها لالاف السنين، فلم يتم الخوض فيهابتدائياواوليا على يد الغرب الحديث، وضمن منجزه الشامل، الا مع منتصف القرن التاسع عشر، لتشخص من بين التحديات الكبرى الأساسية بوجه المتحقق الابتدائي، ومن بين موضوعات كبرى مغفله أخرى، ظاهرة "المجتمع المفقس خارج رحم التاريخ" كتحد قاهر، اتخذت طابع محطة الحداثة المفبركة الكبرى الثانيه، الغربيه التوهمية والاسقاطية.
وتبدو الإمبراطورية كقاعدة قياس ومشابهه هنا، مكمله لمجمل المنظومه الايهامية، والاسقاط الممارس لهذه الجهه، من حيث تتم ممارسة مايمكن ان نطلق عليه غياب الانموذج المقارب، فالغرب لايعرف الا النموج "الوطني"، و "الكيانيه المحليه" كشكل تجل مجتمعي، يعتبره الأعلى والامثل، والاهم "الوحيد"، عاجزا عن مقاربة نموذج تاريخي أساس اخر، هو النموذج الازدواجي اللاكياني، المتعدي للكيانيه، والذي لايتحقق محليا، على العكس يكون تحققه المحلي انهياره واختفاءه كنموذج، والمقصود هنا نموذج الازدواج المجتمعي الرافيديني التاريخي، وتجلياته الازدواجية المتقابله، الإمبراطورية من ناحية، والسماوية الدالة على، والمعبره عن اللاارضوية المجتممعية، الحال الذي تكرر اليوم وخارج المجتمعيه، شكل من اشكاله على مستوى الديناميات الصرفة، برغم ازدواجيته الاسقاطية البرانيه، ولامجتمعيتها.
فالنزوع الأمريكي للخارج، المقرون بالرسالية، والمهمه العالمية، يوجد كسلوك وظيفي لاتتحقق أسباب الكيانيه من دونه، وتصير عرضة للتفجر، فلا أمريكا بذاتها وداخل ارضها لانتفاء الأسباب والمبررات الواقعية التي تجعل الظواهر المسقطة عليها من خارجهاـ لتعريفها افتراضا،ممكنه نموذجا، فالراسمالية المقحمه من خارج المجتمع الأمريكي آليا بالدرجة الأساس، وبلا طبقية تاريخية، تحتاج لتبرير وجودها الى مايتحول على يدها الى "الحلم الأمريكي"، مع الرسالية التي هي مصادرة ممارسه على ذلك النداء، او الشعار الأول، القائل ب"المدينه على جبل" محورا لضمان استمرارية وغلبة الراسمالية، بلا أساس تاريخي، وصولا لتحويل الخيار الراسمالي نفسه، الى ممارسة رسالية محكومة لصراعية، الحلم الأول فيها في حال تشظ مطرد، وحضور مازوم، بفعل وطاة الراسمال وممارسته، مصادرة الحلم الأول، الذي يظل قائما بالتوازي، في واحد من اكثر المجموعات البشرية تدينيا(3).
نحن اليوم امام احتمالية الانفجار الأمريكي، بالاخص بسبب مامتوقع من انكفاء على الذات، وليست ظاهرة الترامبيه عارضة، فقد استنفدت الراسماليىة الامريكية المفبركة التي كان القرن العشرين مجالها التحققي، وزمن اختبارها المنتهي الى فشل مطلق، والى تراجع ضمن موازين القوى الاقتصادية، وحتى العسكرية والتكنولوجيه، في الوقت الذي كانت الراسمالية المفبركة الامريكية، مدعية الرسالية فيه، قد ذهبت الى عولمه الاقتصاد، هربا من استمرار مواجهة انتمائها الزائف لماتدعي انه طبقتها، فادى بها مااعتقدته مخرجا الى عكس ماكانت تامل، و بالاخص الى هز اركان ومرتكزات ظاهرة "الدولة" كموسسه محلية وطنيه شائعه، ومناسبة لتامين الضبط العام، لصالح الشركات متعددة الجنسية، وماافضى اليه التدبير المذكور من اختلال شامل، بالاخص في البلدان خارج اوربا، عدا عن اوربا نفسها، ليدخل العالم طورا جديدا من اللااستقرار المدعم بقوة الحضور المتعاظم ل "الببيئية الثانيه"، المتولدة عن اقصاء البيئة ماقبل الالية، أي بيئة الطور اليدوي، والعمل على تحويرها، وإلغاء مفاعيل دورها الطويل التاريخي في العملية المجتمعية، ماتسبب في الانقلابيه المناخية الكوارثية، وصولا الى انتفاء توافقية الوجود البشري، وممكنات استمراره البيئي، كصلاحية سكنية.
ـ يتبع ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وضع بريجنسكي كتابا يصف الفشل الأمريكي في استغلال الفرصة التاريخيه المؤاتيه عنوانه "الفرصة الضائعه: ثلاثة رؤساء وأزمة القوة العظمى الامريكيه"/ دار الكتاب العربي ـ بيروت/ ترجمة عمر الايوبي/
(2)تشيع منذ اكثر من عقدين نغمة افول الإمبراطورية وتصدر في هذا المجال مؤلفات ومقالات منها " مابعد الإمبراطورية: دراسة في تفكك النظام الأمريكي/ عامانويل تود / دار الساقي ترجمة محمد زكريا إسماعيل/ و " الإمبراطورية الامريكيه/ كلود جوليان/ دار الحقيقة ـ بيروت/ ط اولى 1970/ ترجمة ناجي أبو خليل و الدكتور فؤاد شاهين/ و غيرها.. وكلها لاتقارب الأسباب الفعليه المؤدية، او التي يمكن ان تؤدي للانحدار وربما التفجر الداخلي الامريكي.
(3) راجع" مدينه على جبل: الدين والسياسة في اميركا"/ طارق متري/ دار النهار للنشر / بيروت ط1 2004 .
(4)احصى "معهد دراسات الدين الأمريكي" في تقرير له عام 1988، في موسوعة الاديات الامريكيه 1586 دينا منها 700 سماها غير تقليدية أي يتعذر تصنيفها داخل الأديان السماوية دلالة من جهه على عمق الظاهرة الدينيه غير العادي كما على تازمها المطرد. راجع المصدر المذكور أعلاه ص 32.