رأس المال: الفصل الرابع والعشرون (96) 4) منشأ المزارع الرأسمالي


كارل ماركس
2021 / 8 / 20 - 23:18     



ما يسمى بالتراكم الأولي
4) منشأ المزارع الرأسمالي
بعد أن درسنا ضروب العنف التي أدت إلى خلق بروليتاريين شریدین مجردين من الحماية، ودرسنا ذلك الانضباط الدموي الذي حولهم إلى عمال مأجورين، وتلك التدابير المزرية التي اتخذتها الدولة والتي زادت تراكم رأس المال بأساليب بوليسية عن طريق تشدیدها لاستغلال العمل، يتوجب الآن أن نطرح السؤال التالي: من أين جاء الرأسماليون أصلا؟ ذلك لأن انتزاع ممتلكات سكان الريف لا يولد، مباشرة، سوى كبار الملاك العقاريين. وبقدر ما يتعلق الأمر بنشوء المزارعين يمكننا، إن جاز القول، أن نلمسه لمس اليد، لأنه عملية بطيئة استغرقت قرون عديدة. فقد كان الأقنان بالذات، ومعهم صغار مالكي الأرض الأحرار، في أوضاع مختلفة كثيرة من حيث الملكية، ولهذا فقد تحرروا في ظروف اقتصادية مختلفة تماما.

ففي إنكلترا كان وكيل مزرعة السيد (bailiff) الشكل الأول للمزارع، وقد بقي هو نفسه قنّاً. وهو يشبه بوضعه هذا وضع الناظر (Villicus) في روما القديمة، ولكن مجال نشاطه كان أضيق. وخلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر حل محله مزارع يزوده المالك الكبير للأرض بالبذور والمواشي والأدوات الزراعية. ولا يختلف وضع هذا المزارع كثيراً عن وضع الفلاح. إلا أنه كان يستغل مقداراً أكبر من العمل المأجور. وسرعان ما غدا محاصصة (metayer)، أي مزارعاً بالمناصفة. فهو يقدم جزءا من رأس المال الضروري للزراعة، ويقدم المالك العقاري النصف الآخر. ويقتسم الاثنان المنتوج الإجمالي بنسبة محددة بموجب عقد. بيد أنه سرعان ما زال هذا الشكل في إنكلترا، ليخلي المكان للمزارع، بالمعنى الدقيق للكلمة، الذي يستمر رأسماله الخاص باستخدام العمال المأجورين، ويدفع جزءا من المنتوج الفائض، نقدا أو عيناً، إلى المالك العقاري بمثابة ريع عقاري.

خلال القرن الخامس عشر، كان الفلاح المستقل، والشغيل الزراعي الذي يعمل لأجل نفسه مثلما يعمل لقاء أجور، يغتنيان من عملهما الشخصي؛ وطالما بقي الحال هكذا فقد كان وضع المزارع وميدان إنتاجه هزیلین بالمثل. غير أن الثورة الزراعية التي انطلقت في الثلث الأخير من القرن الخامس عشر واستمرت خلال القرن السادس عشر كله تقريبا (باستثناء العقود الأخيرة منه) عجلت في إغناء المزارع بمثل ما عجلت في إفقار السكان الزراعيين (1). إن اغتصاب المراعي المشاعة وإلخ، أتاح للمزارع زيادة عدد قطعان مواشيه زيادة كبيرة من دون أي تكلفة تقريبا، بينما عادت عليه المواشي بسماد وفير لزراعة الأرض.

وقد أضيف إلى ذلك، في القرن السادس عشر، عنصر آخر بالغ الأهمية. فقد كانت عقود تأجير المزارع، وقتذاك، تُبرم لآماد طويلة، وكثيرا ما تمتد إلى 99 عاما. وكان الانخفاض المتواصل في قيمة المعادن الثمينة، وبالتالي هبوط قيمة النقد، قد جلب للمزارعين ثماراً من ذهب، مما أدى إلى خفض الأجور، عدا عن الظروف المبحوثة آنفاً. وأصبح قسم من هذه الأجور يتحول الآن إلى أرباح للمزارع. وكان الارتفاع المستمر في أسعار الحبوب، والأصواف واللحوم، وبكلمة، أسعار المنتوجات الزراعية كلها، ينمي رأس المال النقدي عند المزارع من دون أن يبذل جهدا من ناحيته، في حين أنه كان يدفع الريع العقاري بموجب العقود المبرمة في ظل القيمة القديمة للنقود(2).
وهكذا اغتنى المزارعون على حساب عمالهم المأجورين وعلى حساب الملاكين العقاريين. فلا عجب إذن أن تكون لإنكلترا في نهاية القرن السادس عشر، طبقة من المزارعين الرأسماليين، الأغنياء، بمعايير ذلك الزمن (3).
_______________

(1) يقول هاریسون في مؤلفه، وصف إنكلترا Description of England: «إن المزارعين الذين كان يصعب عليهم في الماضي أن يدفعوا أربعة جنيهات بمثابة ريع، يدفعون الآن 40 أو 50 أو 100 جنيه، ويعتبرون أعمالهم غير مربحة، إذا لم يبق لديهم، بعد انتهاء مدة الإيجار، ما يعادل ريع 6 إلى 7 سنوات».
(2) للاطلاع على تأثير انخفاض قيمة النقد في القرن السادس عشر في مختلف طبقات المجتمع، راجع کتاب : معاينة ممكنة أو موجزة لبعض الشكاوى الاعتيادية من أبناء جلدتنا هذه الأيام. بقلم الجنتلمان [وليم ستافورد].

إن الأسلوب الحواري لهذا الكتاب قد حمل الناس ردحا طويلا من الزمن، إلى أن ينسبوه إلى شكسبير، بل إنه نشر في العام 1751 وهو يحمل اسم شكسبير. أما مؤلفه فهو وليم ستافورد. ونقرا في أحد المقاطع الفارس (Knight) وهو يُحاجج على النحو التالي: الفارس: «أنت يا جاري، الزارع، وأنت يا سيدي البزاز، ويا صانع البراميل الطيب، بوسعكم، مثل سواكم من الحرفيين، أن تعيلوا أنفسكم بيسر نوعا ما، لأنه إذا كانت أسعار السلع تغدو أعلى مما كانت عليه من قبل، فإنكم ترفعون اسعار سلعكم وأشغالكم بقدر مماثل عندما تبيعونها.

أما نحن فلا نملك ما نبيع بأسعار مرتفعة، ونعوض عما نخسره عندما يجب أن نشتري تلك الأشياء. وفي موضع آخر يوجه الفارس سؤالا إلى الدكتور: «أستميحك العذر، قل لي من هم أولئك الذين تقصدهم، وقبل كل شيء أولئك الذين تعتقد أنهم لا يخسرون هنا؟» الدكتور:

«أقصد جميع أولئك الذين يعيشون على الشراء والبيع، فإن اشتروا غالياً، باعوا بمثله». الفارس: «وأي ضرب من الناس تراه يكسب من وراء ذلك؟» الدكتور: «بالطبع، كل أولئك الذين يستأجرون المزارع ويزرعونها بموجب الريع القديم، فهم إذ يدفعون بموجب المعدل القديم، يبيعون حسب المعدل الجديد – أعني أنهم يدفعون بدل الأرض مالا بخساً، ويبيعون غلالها بثمن غال». الفارس: «من هم أولئك الذين يخسرون بهذا أكثر مما يكسب هؤلاء؟» الدكتور: «وجميع النبلاء والاشراف، وكل من يعيش من ريع أو راتب معين بدقة ولا يفلح أرضه بنفسه، ولا يتعاطى البيع والشراء».
(3) إن الوكيل (regisseur) في فرنسا، الذي كان أوائل القرون الوسطى، مديراً ومحصلا للأتاوات للسيد الاقطاعي، سرعان ما أصبح رجل أعمال يتحول عن طريق الابتزاز والاحتيال، وما شاكل ذلك، إلى رأسمالي. وكان بعض هؤلاء الوكلاء (regisseurs) من الأعيان أيضا. فمثلا: هذا الحساب يقدمه السيد جاك دي توريز، الفارس الوكيل في بيزانسون، إلى سیده في ديجون المسؤول عن بدلات الريع المستحقة عن الوكالة المذكورة للسيد دوق وكونت بورغونيا، من 25 كانون الأول/ ديسمبر 1359 وحتى 28 كانون الأول/ ديسمبر 1360. (أليكسس مونتي، أطروحة في المخطوطات، إلخ، ص234-235).
ويتجلى هنا كيف أن حصة الأسد تقع في جميع الميادین الاجتماعية بين يدي الوسيط. ففي الميدان الاقتصادي، مثلا، نجد أن رجال المال، والمضاربين في البورصة، والتجار، وأصحاب الدكاكين ينالون زبدة الأعمال، وفي مجال القانون المدني يسلخ المحامي جلود موكليه، وفي ميدان السياسية يتمتع النائب بأهمية أكبر من ناخبيه، والوزير أكبر من العاهل الحاكم، وفي الدين يُقصى الرب إلى المؤخرة على يد الشفيع، وهذا الشفيع يُقصى على يد القساوسة؛ وهؤلاء هم الوسطاء المحتومون بين الراعي الطيب ورعيته. وفي فرنسا كما في إنكلترا، كانت الأراضي الاقطاعية الكبيرة مقسمة إلى استثمارات صغيرة لا عد لها، ولكن في ظل شروط اقل ملاءمة لسكان الريف بما لا يقاس. وخلال القرن الرابع عشر، ظهرت المزارع المؤجرة وتسمى بالفرنسية (fermes) او (terriers). ونما عددها باستمرار، حتى تجاوزت المائة ألف بكثير. وكانت تدفع ريعاً يتراوح بين 1 إلى 5 من الغلة، نقدا أو عيناً. وكانت هذه المزارع المؤجرة (terriers) إقطاعات، واقطاعات ثانوية، إلخ، حسب قيمة ومساحة الأرض التي لا تبلغ مساحة الكثير منها أحيانا سوى بضعة (arpents) إيكرات. وكان لأصحاب هذه المزارع المؤجرة حقوق سلطة قضائية، بدرجة معينة، حيال رعايا أرضهم. وكانت هناك أربع درجات لهذه السلطة. ومن السهل على المرء أن يفهم القمع الذي يلاقيه السكان الزراعيون في ظل سلطة جميع هؤلاء الطغاة الصغار. ويقول مونتي إنه كان في فرنسا، آنذاك، 160 الف محكمة، حيث لا يوجد اليوم سوى 4 آلاف (بما في ذلك محاكم الصلح).