من المقبور في «مقبرة الإمبراطوريات»؟


جلبير الأشقر
2021 / 8 / 18 - 10:59     


تحجّج الرئيس الأمريكي جو بايدن بلقب أفغانستان التاريخي بوصفها «مقبرة الإمبراطوريات» ليبرّر قرار تسريع سحب قوات بلاده من ذلك البلد المنكوب، مُشيراً إلى أن محاولات السيطرة عليه محكومة بالفشل ومُلقياً اللوم على الحكومة الأفغانية، تلك التي أنشأها الاحتلال الأمريكي هو ذاته. وقد جاءت ردود الأفعال على الصور المأساوية التي رافقت انهيار الحكومة المذكورة ودولتها، والذعر الشديد الذي دبّ بقسم كبير من المجتمع الأفغاني، لاسيما المجتمع المديني وبالأخص في العاصمة كابل، جاءت ردود الأفعال تتراوح بين قطبين هما لوم بايدن على أنه أخطأ التقدير ولم يفعل ما كان واجباً عليه كي يضمن استمرار الحكومة الأفغانية الموالية للغرب، من جهة، ومن الجهة الأخرى، الغبطة والتهليل لحجم الهزيمة التي مُني بها المشروع الأمريكي مع المقارنة بين ما جرى في كابل في الأيام الأخيرة وما جرى في سايغون، عاصمة فيتنام الجنوبية، لما اجتاحتها القوات الشيوعية في عام 1975 بعد عامين من الانسحاب الأمريكي. والحقيقة أنه من الصعب الحكم على أي من الموقفين أقصر نظراً من الآخر إذ أنهما يغيّبان حقائق أساسية.
فلنبدأ بالموقف الأول، الذي يأخذ على بايدن سوء تقديره (أي سوء تقدير مخابراته) لطاقة الحكومة الأفغانية على الصمود في وجه اجتياح الطالبان للبلاد. فإنه لموقف خارق تماماً ذلك الذي يظنّ أن إخفاق عشرين سنة من الاحتلال في بناء مقوّمات دولة حائزة على قسط كاف من المصداقية والقاعدة الشعبية كي تصمد بدون حماية قوات أجنبية، ذلك الإخفاق كان بالإمكان التعويض عنه بتمديد تواجد قوات الحلف الأطلسي بضعة أشهر! وكم بالأحرى عندما يعجز أي من الناقدين على تفسير ما كان بإمكان الاحتلال الأمريكي أن يفعله خلال بضعة أشهر، ولم يفعله خلال عقدين من الزمن.
فالحقيقة أن مصير الحكومة الأفغانية ليس سوى مثال جديد ينضاف إلى قائمة طويلة جداً من حالات الكيانات العميلة التي خلقها احتلال أجنبي وانهارت بعد أن انتهى الاحتلال. وقد سبق أشرف غاني على هذه الدرب محمد نجيب الله الذي نصّبه حكّام الاتحاد السوفييتي رئيساً لأفغانستان محلّ بابراك كرمال الذي أتوا به إلى الحكم عند اجتياح قواتهم للبلاد، مثلما نصّبت واشنطن أشرف غاني محلّ حميد كرزاي الذي أتت به إلى الحكم عند اجتياح قواتها للبلاد. وهذا يحيلنا إلى حقيقة جليّة منذ البدء هي أن الاحتلال الأمريكي لأفغانستان إثر اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 لم يكن «تحريراً» للبلاد، شأنه في ذلك شأن الاحتلال الأمريكي للعراق الذي تلاه بأقل من سنتين، بل كان سطواً عليها لأغراض تتعلق باستراتيجية الإمبراطورية الأمريكية في آسيا الوسطى وإزاء روسيا والصين، مغلّفة بذريعة تحرير الأفغان، والأفغانيات على وجه الخصوص، من نير حكم الطالبان الظلامي، ذلك الذي كان لواشنطن وحلفائها الإقليميين دورٌ أساسي في مساعدته على الاستيلاء على البلاد.


فلنذكّر من يهلّل للطالبان من منطلق يدّعي اليسار أو «الممانعة» أو الإثنين معاً، أن أربع حكومات فقط اعترفت ديبلوماسياً بنظام الطالبان بعد سيطرته على أفغانستان في عام 1996، ولم تكن كوبا أو فيتنام أو الصين أو حتى إيران، بل باكستان وتركمانستان والمملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة! والكل يعلم أن وراء طالبان وقفت وما زالت تقف المخابرات العسكرية الباكستانية، بما يثير قلق سائر الدول الإقليمية ولاسيما إيران.
والحقيقة أن واشنطن لم تكن لديها منذ البدء أوهام كبيرة بالنسبة لمصير أفغانستان، بل أدركت من الهزيمة التي مني بها الاتحاد السوفييتي في ذلك البلد ومن تجربتها الفيتنامية الخاصة بها، أن السيطرة عليه مستعصية، وهذا لأسباب شتى منها جغرافيا البلاد ومنها قيام المجتمع الأفغاني على أواصر قبلية وإثنية لا تزال على ما كانت عليه في أزمنة غابرة. لذا كانت استراتيجية واشنطن في أفغانستان منذ البدء مختلفة نوعياً عن استراتيجيتها في العراق: فحيث سعت وراء السيطرة الكاملة على العراق ونشرت فيه قسطاً من القوة وأعداداً من الجنود مناسبة لهذه الغاية (في ظنّ وزير الدفاع دونالد رامسفلد، علماً بأن القادة العسكريين الأمريكيين حذّروه من أن تقديراته لتعداد القوات المطلوب للإيفاء بالغاية كانت شديدة التفاؤل) فإن واشنطن لم تنشر سوى أعداد محدودة من الجنود في أفغانستان واعتمدت على قوات «الحلف الشمالي» الأفغانية المناوئة للطالبان كي تسيطر على البلاد بدعم منها، ثم ضغطت على حلفائها في الحلف الأطلسي كي يرسلوا جنودهم إلى أفغانستان بما يوفّر على واشنطن نشر المزيد.
فإن الغايات الاستراتيجية للاحتلال الأمريكي لأفغانستان، أو بالأحرى لانتشار القوات الأمريكية على قسم من الأراضي الأفغانية، كانت بالدرجة الأولى إنشاء قواعد جوّية أمريكية في ذلك البلد الحائز على موقع استراتيجي خطير، ومدّ النفوذ الأمريكي في جمهوريات آسيا الوسطى التي كانت سابقاً من جمهوريات الاتحاد السوفييتي. وقد وصلت واشنطن مع الزمن إلى استنتاج أن كلفة بقائها في أفغانستان لم تعد متناسبة مع تلك الفوائد الاستراتيجية التي تقلّصت مع الزمن، لاسيما أن معاودة طالبان الهجوم وتمكّنهم من السيطرة على مساحات متعاظمة من أفغانستان أنذرت بأنها سائرة نحو وضع شبيه بحالة فيتنام عندما اضطرت واشنطن إلى الخيار بين تصعيد لا حدود له وبين الانسحاب.
أما النموذج الأقرب في الحقيقة إلى ما حلّ بأفغانستان، فليس فيتنام، إذ إن قوات فيتنام الجنوبية كانت أكثر صلابة بكثير من قوات الحكومة الأفغانية، وقد صمدت مدة سنتين في وجه قوات شيوعية لم تتمكن القوات الأمريكية نفسها من إلحاق الهزيمة بها، وقد حازت على دعم دولي وإقليمي أعظم بكثير مما حاز عليه الطالبان. بل إن النموذج الأقرب لأفغانستان إنما هو ما حلّ بقوات الجيش العراقي الذي بناه الأمريكان وانهار انهياراً مشيناً أمام زحف قوات داعش في صيف عام 2014، على غرار انهيار قوات حكومة كابل أمام زحف الطالبان. وبالطبع فإن القواسم المشتركة بين داعش والطالبان لا يضاهيها سوى الفارق العظيم القائم بين الجماعتين الجهاديتين من جهة، والقوات الشيوعية الفيتنامية من الجهة الأخرى.