على خطى ابن رشد


حسن مدن
2021 / 8 / 17 - 00:45     

في مرحلة من حياته، نال الفيلسوف الأندلسي ابن رشد ( 1126 – 1198م)، رضا خليفة الموحدين أبي يعقوب يوسف، الذي عيّنه طبيباً له ثم قاضياً على قرطبة. وكان ابن رشد، شأن فلاسفة وعلماء العرب الأقدمين، يجمع بين الطب والفقه والقضاء وعلمي الفلك والفيزياء ومعارف أخرى، ولعله في هذه الفترة بالذات أقبل على تفسير آثار أرسطو، وبتوجيه من الخليفة نفسه.

لكن الخليفة سرعان ما غضب عليه، ونفاه إلى مراكش بالمغرب؛ حيث توفي فيها، في مظهر مبكر من مظاهر القطيعة بين الفلسفة والسلطة؛ حيث وجد الرجل نفسه مغضوباً عليه، وهو الذي دافع عن الفلسفة، وأرسى أسس العقلانية في تاريخنا، وكان خير من تمثل الفلسفة الإغريقية القديمة، حتى إنه صحح لعلماء وفلاسفة سابقين له كابن سينا والفارابي فهم بعض نظريات أفلاطون وأرسطو.

استفادت أوروبا أيما استفادة من الإرث الرشدي، في سعيها للتغلب على ظلام قرونها الوسطى، وولوج فضاءات التنوير والحداثة، فيما فرطنا، نحن العرب والمسلمين ، بتراث أحد أهم أدمغتنا تميزاً؛ بل لعله أهمها على الإطلاق. ومن يومها والأمور تدور في الحلقة المفرغة نفسها: الآخرون يستفيدون من أدمغة المتميزين من بني جلدتنا، فيما يكون مصيرها التهميش والمحاربة والإقصاء في أوطانها الأصلية.

في أحد أعداد مجلة «الهلال» تناول الدكتور مراد وهبة سيرة بعض الأسماء المميزة في عصرنا الذين يمكن أن نعدّهم ورثة لابن رشد بامتياز، الذين ربما لم يبلغوا ما كان عليه ذهن ابن رشد من اتقاد، لكن حملوا الراية نفسها التي رفعها، وتحلوا بالشجاعة نفسها التي كانت له.

لم يسلم هؤلاء "الورثة" من المحن التي نالت من ابن رشد، ومن بين من أتى عليهم مراد وهبة في مقاله ثلاثة، أولهم فرح أنطون الذي اتخذ من "الفلسفة الرشدية" منطلقاً لدعوته في الانتصار للعقل، ونبذ الخرافة، كما أوضح ذلك في كتابه "ابن رشد وفلسفته" الذي أهداه إلى «عقلاء الشرقيين في الإسلام والمسيحية وغيرهما»، فكان أن ردّ عليه صاحب مجلة "المنار" الشيخ رشيد رضا، وأثار ذلك يومها سجالاً انتصر فيه مثقفو ذاك الزمن ورجال الدين فيه لرشيد رضا ضد فرح أنطون وأغلقت، في نتيجته، مجلة "الجامعة" التي كان أنطون صاحبها، فيما استمرت مجلة «المنار» التي من عباءتها خرج تنظيم "الإخوان المسلمين".

لم يكن حظ وريثي ابن رشد الآخرين: الشيخ علي عبدالرازق وطه حسين، بأفضل من حظ فرح أنطون، ومن ذلك العسف الذي جوبه به الشيخ علي عبد الرازق (1888- 1966)، حين أصدر كتابه «الإسلام وأصول الحكم». وفي سيرة عبد الرازق ما يذكرنا بسيرة طه حسين، فهو مثله خريج الأزهر، لكنه درس، بعد ذلك، في جامعة أوكسفورد البريطانية، وحين عاد إلى مصر عيّن قاضياً شرعياً.

متأثراً بما اطلع عليه من المدارس الفلسفية والفكرية الغربية، خاصة نظرية "العقد الاجتماعي" للفيلسوف الإنجليزي جون لوك، دعا عبدالرازق في الكتاب المذكور إلى فصل الدين عن السياسة؛ حيث سعى مستعيناً بالنصوص الشرعية وصحيح الدين لإثبات أن الله ترك للمسلمين حرية إقامة هيكل الدولة، على أن تلتزم بتحقيق المقاصد الكلية للشريعة، وصدر الكتاب في الوقت الذي كانت فيه الخلافة العثمانية تترنح، وكان بين العرب من يتطلعون لأن تعود إليهم صفة الخلافة، فوجدوا في الكتاب تأصيلاً شرعياً وفكرياً نافياً لما يطمحون إليه.
جوبه علي عبد الرازق بحملة ظالمة، أدت، فيما أدت، إلى اتخاذ قرار بإخراجه من خانة علماء الأزهر، وطرده من وظيفته، والحكم بعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية، دينية كانت أو غير دينية، على نحو ما ذكره الدكتور مراد وهبة الذي سبقت الإشارة إليه في مقالنا السابق حول الموضوع، وقيل يومها إن الملك فؤاد الأول كان هو من أوعز بمعاقبة عبد الرازق.

وكان صاحب "المنار" رشيد رضا الذي سبق له أن حرّض على أطروحات فرح أنطون، في مقدمة من تصدى لعلي عبدالرازق أيضاً، وبلغ به الأمر حد اتهامه بالزندقة.

مثل كتاب علي عبد الرازق سيثير كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" ضجة مماثلة؛ حيث فسر تبنيه لمنهج الفيلسوف الفرنسي ديكارت النابذ لليقين المطلق والداعي إلى وضع الأحكام المختلفة موضع المساءلة والشك، على أنها نيل من المقدسات، مع أن طه حسين كان واضحاً في أن دعوته تتصل بالأمور الدنيوية وحدها، وليست دعوة إلى نزع القداسة عن الأمور الدينية، لكن ذلك لم يشفع له، فاتخذ قرار بنقله من الجامعة إلى وزارة المعارف، وبتقديمه للمحاكمة، لكن قرار المحاكمة حفظ بعد إلزام طه حسين بإعادة صياغة الكتاب بعد حذف ما أثار الاعتراض عليه، وهذا ما حدث بإصداره نسخة باسم "في الأدب الجاهلي".

إن أراد العرب النهضة الفكرية الحقيقية فعلاً، فعليهم أن يفتحوا المدارس والجامعات لأفكار ابن رشد وورثته، وإلا فلن نبارح المكان نفسه.