رأس المال: الفصل الرابع والعشرون (95) 3) التشريع الدموي ضد منزوعي الملكية ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر. القوانين الهادفة إلى تخفيض الأجور


كارل ماركس
2021 / 8 / 16 - 10:17     


ما يسمى بالتراكم الأولي
3) التشريع الدموي ضد منزوعي الملكية ابتداء من نهاية القرن الخامس عشر. القوانين الهادفة إلى تخفيض الأجور

إن أولئك المطرودين من جراء تفكيك الزمر الاقطاعية وانتزاع الأرض والعقار انتزاعاً قسرياً متكرراً، أي أولئك البروليتاريين الشريدين المجردين من الحماية، قد استوعبتهم المانيفاکتورة الناشئة بسرعة أقل بكثير من تلك السرعة التي كانوا يأتون بها إلى العالم. من جهة ثانية، لم يكن بوسع هؤلاء الذين أخرجوا من نمط حياتهم المألوفة على حين غرة، أن يعتادوا بغتة أيضا على الانضباط الساري في الوضع الجديد. فتحولوا، بالجملة، إلى شحاذين، ولصوص، ورعاع مشردين، بدافع الميول، في بعض الحالات، وتحت ضغط الظروف، في معظم الحالات. لهذا السبب صدرت تشريعات دموية ضد التشرد في نهاية القرن الخامس عشر، وخلال القرن السادس عشر كله، في أوروبا الغربية بأسرها. إن آباء الطبقة العاملة الحالية قد عوقبوا بادئ الأمر لأنهم تحولوا، مرغمين، إلى مشردين ومعوزين. وقد اعتبرهم القانون مجرمین «بإرادتهم الطوعية» انطلاقا من الافتراض بان الأمر كان رهن مشيئتهم فيما لو أرادوا الاستمرار بالعمل، في ظل الظروف القديمة التي لم يعد لها وجود.

بدأ هذا التشريع في إنكلترا، في عهد هنري السابع.

ووفقا لقانون هنري الثامن الصادر في عام 1530، يستحصل الشحاذون المسنون والعجزة على رخصة للتسول. أما المشردون القادرون على العمل فنصيبهم الجلد والسجن. وكان من الواجب تقييدهم إلى عربة يدوية، وجلدهم حتى يسيل الدم مدراراً من أجسادهم، ثم كان عليهم أن يقسموا اليمين على الرجوع إلى مسقط رأسهم، أو إلى حيث عاشوا في السنوات الثلاث الأخيرة وأن ينصاعوا إلى العمل. يا للمفارقة المريرة! وفي العام السابع والعشرين من عهد هنري الثامن صدر هذا القانون ثانية، مجدداً هذه الأحكام لكن مع تشديدها بمواد جديدة. فعقوبة العودة إلى التشرد ثانية تنص على تكرار الجلد بالسياط، وجدع نصف الأذن، أما إذا ضبط الجاني ثالثة، فكان نصيبه الاعدام بوصفه مجرماً من العتاة وعدواً للمجتمع.

إدوارد السادس: أصدر قانون في العام الأول من عهده، سنة 1547، يقضي على كل من يرفض العمل بأن يكون عبداً رقيقاً للشخص الذي يبلغ عن تسكعه بلا عمل. ويتوجب على السيد أن يطعم عبده الخبز والماء والحساء ونفايات اللحم حسبما يراه مناسبا. ويحق له ارغام العبد بالسياط والأصفاد، على أداء أي عمل، مهما كان مقرفاً. وإذا غاب العبد مدة أسبوعين، حكم عليه بالعبودية مدى الحياة، ويدمغ على جبهته أو خده بحرف (S)، وإذا هرب ثالثة يعدم كخائن للدولة. وبوسع السيد أن يبيعه، ويورثه، ويؤجره كعبد، مثلما يؤجر ممتلكاته الشخصية سواء كانت أشياء منقولة أم دواب. وإذا عزم العبيد على ارتكاب عمل ما ضد أسيادهم حكم عليهم بالإعدام أيضا. وقضاة الصلح ملزمون بملاحقة العبيد الفارين، عند تلقيهم تبليغاً بذلك من الأسياد. وإذا اتضح أن المشرد يتسكع بلا عمل منذ ثلاثة أيام، فإنه يساق إلى مسقط رأسه ودمغ على صدره بالحديد الساخن علامة (V)، ويقيد بالسلاسل، ويدفع للعمل في شق الطرق أو في خدمات أخرى. وإذا قدم المشرد عنوانا كاذباً عن مسقط رأسه، حكم عليه بأن يكون عبداً مدى الحياة لهذا المكان الذي قدمه، أو لسكانه، أو لتعاونيته الحرفية، ويدمغ بعلامة (S). ويحق لكل امرئ أن يأخذ أولاد المشردين ويحتفظ بهم کمتدربين حتى سن الرابعة والعشرين للفتيان، وسن العشرين للفتيات. أما إذا فروا، فيصبحون عبيداً لسيدهم المربي حتى تلك السن المقررة، ويحق له أن يقيدهم بالأصفاد، وأن يجلدهم بالسياط، إلخ، حسبما يشاء. ويحق لكل سيد أن يحبط عنق أو ذراع أو قدم عبده بطوق من حديد بغية تمييزه والتيقن منه (1). وينص القسم الأخير من هذا القانون على استخدام بعض الفقراء من جانب مناطق أو أشخاص يتعهدون بتأمين الطعام والشراب والعمل لهم. إن هذا النوع من عبيد الأبرشيات بقي قائمة في إنكلترا حتى القرن التاسع عشر تحت اسم «الجوالين» (roundsmen). وينص قانون إليزابيث عام 1572 على أن الشحاذين الذين تجاوزوا سن الرابعة عشرة ويتسولون من دون ترخيص، يعاقبون جلدا مبرحا بالسياط ويدمغ على شحمة أذنهم اليسرى بالحديد المحمى ما لم يبد أحد رغبته في استخدامهم مدة عامين؛ وفي حال تكرار المخالفة، ينبغي اعدام المتسولين إذا كان عمرهم يزيد عن 18 عاما، ما لم يبد أحد رغبته في استخدامهم مدة عامين، أما إذا قُبض عليهم للمرة الثالثة فيعدمون بلا رحمة بوصفهم خونة للدولة. وهناك أحكام مماثلة في القانون الصادر في العام الثامن عشر من عهد إليزابيث، الفصل 13، والقانون الصادر عام 1597(2).
وفي عهد جيمس الأول: كل من يتسكع مستجدياً، يعتبر محتالاً مشرداً. وكان قضاة الصلح في الجلسات الصغيرة (Petty Sessions)(*) مخولين بمعاقبتهم بالجلد علنا أمام الجمهور، وبالسجن ستة أشهر عند القبض عليهم أول مرة، وعامين عند الثانية، وفي أثناء الحبس، يمكن لقضاة الصلح أن يوعزوا بجلدهم عددا من الجلدات لكذا مرة، حسبما يرتأون… أما المشردون الخطرون، الذين لا سبيل لإصلاحهم، فيدمغ عليهم حرف (R) بالحديد المحمي على الكتف الأيسر، ويرسلون إلى الأشغال القسرية، وإذا قبض عليهم يتسولون ثانية، فيعدمون بلا رحمة. وقد ظلت هذه الأحكام القانونية سارية المفعول حتى مطلع القرن الثامن عشر، ولم يجر إلغاؤها إلا بالمرسوم الثالث والعشرين من العام الثاني عشر من عهد الملكة آنا.

ونجد قوانین مماثلة في فرنسا، حيث أسس المشردون بباريس، في منتصف القرن السابع عشر، ما يسمى بـ «مملكة المشردين» (royaume des truands). وحتى في بداية عهد لويس السادس عشر، صدر مرسوم (في 13 تموز/ يوليو 1777) يقضي بإرسال كل رجل سلیم الصحة ويتراوح عمره بين السادسة عشرة والستين إلى الأشغال الشاقة ما لم تكن لديه وسائل العيش ولا يمارس مهنة معينة. وعلى الغرار نفسه جاء القانون الذي أصدره کارل الخامس لهولندا (تشرين الأول/ أكتوبر 1537) وكذلك المرسوم الأول لولايات ومدن هولندا المؤرخ في 19 آذار/ مارس 1614، ولائحة الأقاليم المتحدة في 25 حزيران/ يونيو 1649، وما شابه ذلك.

على هذا النحو جرى انتزاع الأرض والعقار قسراً من السكان الريفيين، وطردهم من ديارهم، وتحويلهم إلى مشردين، لتتولى قوانين إرهابية بشعة إرغامهم بالسياط والختم بالحديد المحمى والتعذيب، على الخضوع إلى الانضباط اللازم لنظام العمل المأجور.

وليس كافيا أن تبرز شروط العمل في شكل رأسمال، في هذا القطب، ويبرز في القطب الآخر أناس ليس لهم ما يبيعون غير قوة عملهم. بل لا يكفي أن يرغم هؤلاء على بيع أنفسهم طوعا. فإلى جانب مضي الإنتاج الرأسمالي قدما تتطور طبقة عاملة تعتبر، بحكم تربيتها وتقاليدها وعاداتها، متطلبات نمط الإنتاج هذا بمثابة قوانین طبيعية بديهية. إن تنظيم عملية الإنتاج الرأسمالية الناضجة يحطم كل مقاومة؛ وإن التوليد المستمر لفيض السكان النسبي يبقي قانون الطلب على العمل وعرضه، وبالتالي الأجور، في حدود تتناسب مع حاجات رأس المال إلى إنماء القيمة؛ فقوة العنف العمياء للعلاقات الاقتصادية إنما ترسخ سيطرة الرأسماليين على العمال. والحقيقة أن العنف المباشر، فوق الاقتصادي، يظل قيد الاستخدام، ولكن على نحو استثنائي فقط. ففي المجرى العادي للأشياء، يمكن ترك العامل تحت رحمة قوانين الإنتاج الطبيعية، أي تبعيته إلى رأس المال، وهي تبعية تقوم شروط الإنتاج نفسها بتوليدها وضمانها، وتخليدها. غير أن الأمر كان خلاف ذلك، خلال تلك المرحلة التاريخية التي كان فيها الإنتاج الرأسمالي في طور التكوين وحسب. فالبورجوازية الناهضة، تحتاج إلى عنف الدولة بل تستخدمه فعلا ابتغاء ضبطه الأجور، أي إيفائها قسراً في حدود تلائم الحصول على المغانم، وإطالة يوم العمل، وإبقاء العامل ذاته في درجة عادية من التبعية لرأس المال. وهذا عنصر هام لما يسمى بالتراكم الأولي.

إن طبقة العمال المأجورين التي انبثقت في النصف الثاني من القرن الرابع عشر، لم تكن تشکل، آنذاك، وفي القرن التالي، سوى جزء ضئيل جدا من السكان؛ ووجد وضعها، سنداً قوياً له في الاستثمارة الفلاحية المستقلة في الريف، وتنظيم الطوائف الحرفية المغلقة في المدن. وكان رب العمل والعامل، في الريف والمدينة على السواء، متقاربين على صعيد الوضع الاجتماعي. ولم يكن خضوع العمل لرأس المال غير خضوع شكلي – أي أن نمط الإنتاج نفسه لم يكن قد اكتسب طابعاً رأسمالياً مميزاً، وكان العنصر المتغير من رأس المال يفوق عنصره الثابت بدرجة كبيرة. لهذا كان الطلب على العمل المأجور ينمو سريعاً مع تراكم رأس المال، بينما لم يكن عرض العمل المأجور يلحقه إلا ببطء. وكان قسم كبير من الناتج الوطني، الذي تحول فيما بعد إلى رصيد للتراكم الرأسمالي، لا يزال يدخل آنذاك في رصيد استهلاك العامل.

إن التشريع الخاص بالعمل المأجور -، الذي كان يستهدف منذ البداية استغلال العامل، وظل، في مجرى تطوره، معادياً للعامل دوما (3)، – كان قد ابتدأ في إنكلترا بإصدار «قانون العمال» (Statute of Labourers) في عهد إدوارد الثالث عام 1349. وكان لهذا القانون نظيره في فرنسا، وهو القانون الذي صدر عام 1350 باسم الملك جان. وقد سار التشريعان الفرنسي والإنكليزي بصورة متوازية، وكانا متطابقين في المضمون. ولن أتناول قوانين العمال بوصفها وسيلة لتمديد يوم العمل، فقد سبق أن عالجناها من وجهة النظر هذه (الفصل الثامن، البند الخامس). صدر قانون العمال بناء على مطالبات ملحة من مجلس العموم.

يقول أحد أعضاء حزب المحافظين (التوري) بسذاجة: «في السابق، كان الفقراء يطالبون بأجور عالية بحيث أنها تشكل خطرا على الصناعة والثروة. أما اليوم فأجورهم منخفضة جدا بحيث أنها تشكل خطرا مماثلا على الصناعة والثروة؛ ولربما خطراً أكبر، وإن يكن بطريقة مختلفة» (4).

وضع القانون تعريفه للأجور بالنسبة إلى المدينة والريف، وإلى العمل بالقطعة والعمل المياوم. وكان على العمال الريفيين أن يؤجروا أنفسهم سنوياً، أما عمال المدن ففي «السوق الحرة». وقد حُظر تحت طائلة العقاب بالسجن، دفع أجور أعلى مما هو مقرر في القانون، مع العلم أن عقوبة الذي يأخذ هذه الأجور غير القانونية كانت أشد من عقوبة ذاك الذي يدفعها. فمثلا كانت المادتان 18 و19 من قانون المتدربين الذي أصدرته إليزابيث تقضيان بالحبس عشرة أيام على من يدفع أجوراً أعلى من المقرر، وبحبس الذي يتلقى هذه الأجور واحدا وعشرين يوما. وجاء قانون عام 1360 ليفرض عقوبات أشد، بل إنه منح أرباب العمل الحق في انتزاع العمل بشروط التعرفة القانونية، عن طريق القسر الجسدي. وقد أعلنت جميع الاتحادات، والمواثيق، والايمان، وسواها، التي كان البناؤون والنجارون يلتزمون بها على نحو متبادل، باطلة، ليس لها مفعول شرعي. وكان تحالف العمال يعتبر جريمة خطرة، ابتداء من القرن الرابع عشر وحتى عام 1825، وهو العام الذي ألغي فيه القانونان ضد التحالفات(**). إن روح قانون العمال لعام 1349، وجميع القوانين التي تلته، تتجلى بسطوع في أن الدولة تفرض حدة أعلى للأجور فقط، من دون أن تفرض لها حداً أدنى.

لكن وضع العمال تردی كثيراً في القرن السادس عشر، كما هو معروف. فقد ارتفع الأجر النقدي، ولكن ليس أبدأ بنسبة اندثار قيمة النقود وما قابله من ارتفاع في أسعار السلع. وهكذا انخفضت الأجور في الواقع. ولكن رغم ذلك فإن القوانين الرامية إلى تخفيض الأجور ظلت سارية المفعول، إلى جانب قطع آذان أولئك الذين «لا يرغب أحد في خدماتهم» ودمغهم بالحديد المحمّى. وكان قانون المتدربين الذي صدر في العام الخامس من عهد إليزابيث يخول قضاة الصلح، في فصله الثالث، تثبیت حد معین للأجور، وتعديله حسب مواسم السنة وأسعار السلع. ووسع جیمس الأول مفعول ضبط العمل هذا ليشمل الناجين والغزالين، وسائر أصناف العمال الأخرى (5). ووسع جورج الثاني القوانين المضادة لتحالفات العمال فشملت المانيفاکتورات جميعا.
وفي المرحلة المانيفاکتورية الصرف، بلغ نمط الإنتاج الرأسمالي مبلغا من القوة بما يكفي لجعل الضبط القانوني للأجور أمرا لا يمكن تطبيقه بل لا ضرورة له، ولكن كان من المستحسن الحفاظ على هذه الأسلحة من الترسانة القديمة، تحسبا للطوارئ. ففي العام الثامن من عهد جورج الثاني، صدر مرسوم يحظر دفع أجر يومي يزيد عن شلنين و7 بنس للخياطين المتدربين في لندن وضواحيها، باستثناء حالات الحداد العام؛ أما في العام الثالث عشر من عهد جورج الثالث، فقد صدر مرسوم آخر يمنح، في الفصل رقم 68، قضاة الصلح صلاحية ضبط أجور نساجي الحرير ؛ وفي عام 1796 كان يلزم قراران من المحاكم العليا لتقرير ما إذا كانت أحكام قضاة الصلح في قضايا الأجور تنطبق أيضا على العمال غير الزراعيين؛ وفي عام 1799 قضى قرار برلماني بأن تبقى أجور عمال المناجم الإسكتلنديين خاضعة لأحكام قانون إليزابيث، وأحكام قانونين اسكتلنديين صدرا في 1661 و1671. أما إلى أي مدى تغيرت الأوضاع في ذلك الوقت، فذلك ما تشهد عليه واقعة لا نظير لها في نشاط مجلس العموم الإنكليزي. فهنا حيث كانت القوانين

وضع، على مدى أكثر من 400 عام، لترسم الحد الأقصى الذي لا يجوز للأجور أن تتخطاه على الإطلاق، اقترح وایتبريد في عام 1796 تعيين حد أدنى قانوني لأجور العمال الزراعيين. فوقف بیت معارضاً الاقتراح، إلا أنه أقر بأن «وضع الفقراء قاس (cruel)». وأخيرا ألغيت قوانین ضبط الأجور في عام 1813. فقد بانت هذه شذوذا مضحكة، منذ أن أخذ الرأسمالي يضبط العمل في مصنعه وفقا لقانونه الخاص، ويرفع، بمعونة ضريبة الفقراء، أجور العامل الزراعي إلى الحد الأدنى الضروري. غير أن أحكام قانون العمال(***) المتعلقة بالعقود المبرمة بين رب العمل والعمال، وآجال فسخها، وما إلى ذلك، أي الأحكام التي لا تجيز مقاضاة رب العمل المخالف للعقد إلا بدعوی مدنية، بينما تبيح، على العكس من ذلك، مقاضاة العامل المخالف للعقد بدعوى جزائية، لاتزال سارية المفعول بكاملها حتى الآن.

وقد أبطل القانونان البربريان المضادان للتحالفات العمالية في عام 1825 نظرا لموقف البروليتاريا المنذر بالخطر. مع ذلك فإنهما لم يبطلا إلا جزئياً. ولم تختف بعض المخلفات الجميلة من القوانين القديمة إلا في عام 1859. وأخيراً اتخذ البرلمان في 29 حزيران/ يونيو 1871 قرارا يدعي بإزالة آخر آثار هذا التشريع الطبقي إذ إنه منح النقابات الاعتراف الحقوقي. بيد أنه أصدر قراراً آخر في اليوم نفسه «قرار تعديل قانون العقوبات المتعلق باعمأل العنف، والتهديد، والمضايقات» أعاد في واقع الأمر الوضع القديم بشكل جديد. وبهذه الأحبولة البرلمانية جرى سحب كل الوسائل التي كان باستطاعة العمال استخدامها في أثناء الاضراب أو قيام أرباب العمل فيما بينهم بإغلاق مصانعهم في آن واحد، جرى سحبها من القوانين العامة، لدرج في إطار قانون عقوبات استثنائي، كان تفسيره رهنا كلياً بأرباب العمل أنفسهم بوصفهم قضاة صلح. وقبل ذلك بعامين، كان السيد غلادستون نفسه قد تقدم إلى مجلس العموم، بطرازه المعهود من الاستقامة، بمشروع قانون لإلغاء كل التشريعات الاستثنائية الموجهة ضد الطبقة العاملة، ولكن لم يمض الأمر إلى أبعد من القراءة الثانية، وتأجل المشروع حتى وجد «الحزب الليبرالي العظيم» أخيراً، بالتحالف مع حزب المحافظين، الجرأة للوقوف ضد البروليتاريا نفسها التي حملته إلى السلطة. ولم يكتف الحزب الليبرالي العظيم، بهذه الخيانة، بل تعداها إلى السماح للقضاة الإنكليز، الطيّعين أبدأ في خدمة الطبقات السائدة، بأن ينبشوا القوانين القديمة ضد «الأعمال السرية» (****)، بغية تطبيقها ضد تحالفات العمال. وبذا نرى أن البرلمان الإنكليزي لم يتخل عن القوانين المناهضة للإضرابات والنقابات إلا مكرهاً تحت ضغط الجماهير، بعد أن دأب هذا البرلمان نفسه، طوال 500 عام، وبأنانية مخزية، على القيام بدور النقابة ‘Trades) (Unions الدائمة للرأسماليين ضد العمال.

وخلال النُذُر الأولى من عاصفة الثورة، تجرأت البورجوازية الفرنسية، هي الأخرى، على أن تسلب العمال حق الاتحاد الذي اكتسبوه تواً. وأعلنت في مرسوم صدر في 14 حزيران/ يونيو 1791، أن جميع تحالفات العمال تشكل «جريمة ضد الحرية وإعلان حقوق الإنسان» يعاقب مرتكبها بغرامة قدرها 500 ليرة، وبالحرمان من حقوق المواطن النشيط لمدة عام (6). إن هذا القانون الذي قيد، بالتدابير البوليسية الحكومية، صراع المنافسة بين رأس المال والعمل في حدود ملائمة لرأس المال، عمر أكثر من جميع الثورات والسلالات الحاكمة. وحتى حكومة الارهاب (*5) تركته من دون مساس. ولم يمح من قانون العقوبات (Code Penal) إلا أخيراً. وليس ثمة ما هو أبلغ دلالة من الذريعة التي يمر بها هذا الانقلاب السياسي البورجوازي. ويقول لو شابلييه، مقرر اللجنة: «حقا إن من المرغوب فيه أن تكون الأجور أعلى مما هي عليه حاليا بحيث يتحرر من يتلقاها، من حالة التبعية المطلقة، الشبيهة بالعبودية الناجمة عن نقص وسائل العيش الضرورية»، ومع ذلك ينبغي ألا يسمح للعمال بالتفاهم معا بصدد مصالحهم بالذات، ولا بالقيام بعمل مشترك بغية تخفیف «تبعيتهم المطلقة، الشبيهة بالعبودية»، لأنهم بذلك «ينتهكون حرية أسيادهم السابقين (ci – devant maitres)، أصحاب المشاريع الحاليين» (حريتهم في إبقاء العمال عبيداً!) ولأن التحالف ضد استبداد أرباب التعاونيات الحرفية السابقين هو -احزروا!- بعث للتعاونيات الحرفية التي ألغيت بموجب الدستور الفرنسي(7).

_______________

(1) يقول مؤلف بحث في الصناعة والتجارة، إلخ، ما يلي: «في عهد إدوارد السادس دأب الإنكليز، على ما يبدو، في حمية وجد، على تشجيع المانيفاکتورات وتشغيل الفقراء، وهذا ما نراه في قانون رائع ينص على ما يلي: “ينبغي دمغ جميع المشردين»، إلخ.
(An essay on trade [and commerce, London, 1770, p. 5).
(2) يقول توماس مور في مؤلفه «یوتوبيا» (Utopia) [ص 41-42]: وهكذا يحدث أن نهماً، شرها، لا يشبع، وهو طاعون حقيقي على وطنه، قد يجمع آلاف الإيكرات من الأرض ويسيجها بالأسوار والسياجات، أو أنه يقصي مالكيها بالنصب والاحتيال، أو بالإكراه والعنف، أو يحملهم، بالإساءة والإيذاءات، على بيع كل ما يملكون: وإذن، بهذه الطريقة أو تلك، بالغصب أو الحيلة، يضطر هؤلاء المساكين، البسطاء والتعساء، رجالا ونساء، ازواج وزوجات، أيتاماً ، وأرامل، أمهات منكودات مع رضائعهن، وكل الأسرة، المفتقرة إلى وسائل العيش، والكثيرة في العدد، إلى النزوح، نظرا لأن الزراعة كانت تتطلب كثرة من اليد العاملة. هؤلاء، أقول، يجرّون الخطى نازحين بعيداً عن منازلهم الأليفة، ولا يجدون مأوى للراحة في أي مكان. إن جميع أدواتهم وأثاثهم المنزلي، على قلة قيمته، من شأنه أن يباع ويعود عليهم بشيء من العون في ظروف أخرى، ولكنهم يطردون إلى الشارع بغتة، فيضطرون إلى بيعه بأبخس ثمن. وبعد أن يهيموا على وجوههم وينفقوا آخر ما عندهم، فماذا يسعهم، بحق الرب، أن يفعلوا غير السرقة، ولكنهم سوف يشنقون حسب احكام القانون، أو غير الاستجداء، ولكنهم سوف يزجون في السجن بتهمة التشرد، لأنهم يتسكعون بلا عمل؛ وهم الذين لا يرتضي أحد أن يعطيهم عملا، مهما كانوا يرغبون ويجهدون للحصول عليها، ومن بين هؤلاء النازحين الهائمين الذين أرغموا على السرقة، كما يقول توماس مور، هناك 72,000 لص كبير وصغير أعدموا في عهد هنري الثامن. (هولنشيد، وصف إنكلترا ص. 186) وفي عهد إليزابيث كان المشردون يشنقون صفوفاً كاملة، ولا يمضي عام دون أن تلتهم المشنقة ثلاثمائة أو أربعمائة، في هذا المكان أو ذاك. (سترایب، صحائف اصلاح وتأسيس الدین، وحوادث أخرى في كنيسة إنكلترا خلال عهد إليزابيث السعيد) واستنادا إلى سترایب هذا عينه، جرى في سومرست شایر، خلال عام واحد فقط، اعدام 40 شخصا، ودمغ 35 شخصا بالحديد المحمي، وجلد 37 بالسياط، وتبرئة 183 «مشرداً يتعذر اصلاحه». ومع ذلك يری سترايب ان هذا العدد الكبير من المتهمين لا يتضمن حتى خُمس عدد المجرمين الفعليين، بفضل تغاضي قضاة الصلح والشفقة غير المعقولة التي يبديها الناس. ثم يضيف قائلا إن المقاطعات الأخرى في إنكلترا ليست أحسن حالا من سومرست شایر بل إن الكثير منها أسوا إلى حد كبيرة.
(*) Petty Sessions: الجلسات الصغيرة، هي دورات محاكم الصلح في إنكلترا للنظر في القضايا الصغيرة وفقا لمرافعات قضائية بسيطة. [ن. برلین].
(3) يقول آدم سميث: كلما سعى التشريع إلى تسوية الخلافات بين أرباب العمل وعمالهم، فإنه كان يعمل بمشورة أرباب العمل. [آدم سميث، ثروة الأمم، المجلد الأول، إدنبره، 1814، ص 142. ن. برلين] ويقول لينغيه: «الملكية هي روح الشرائع». ([لينغيه، نظرية القوانين المدنية أو القوانين الأساسية للمجتمع، المجلد الأول، لندن، 1767، ص 236. ن. برلين]).
([S.N.H. Linguet), Theorie des lois civiles, ou principes fondamentaux de la société, Bd.1, London 1767, S.236]).
(4) [ج. ب. بابلز]، مغالطات التجارة الحرة. ويضيف بخبث: «لقد كنا على استعداد دوماً للتدخل في مصلحة أرباب العمل، ولكن أوليس بمقدورنا أن نفعل شيئا في مصلحة العمال؟».
(**) القانون ضد التحالفات: قانونان أقرهما البرلمان الإنكليزي عامي 1799 و1800، بحظر نشاط أية منظمات عمالية. لكن البرلمان ألغى هذين القانونين عام 1824. [ن. برلین].
(5) نرى من أحد بنود القانون الصادر في العام الثاني من عهد جيمس الأول، الفصل السادس، أن بعض صناعيي الأقمشة، الذين كانوا في الوقت ذاته قضاة صلح، سمحوا لأنفهسم بتحديد التعرفة الرسمية للأجور في محلات العمل التي يملكون. وفي ألمانيا، وبخاصة بعد حرب الثلاثين عاما، كانت قوانین خفض الأجور تصدر بكثرة. «كان نقص الخدم والعمال في الأنحاء الخالية من السكان، يرهق الملاكين العقاريين كثيراً.. لقد حظر على جميع سكان القرى تأجير الغرف للعزاب والعازبات، وكان يتوجب الابلاغ عن هؤلاء إلى السلطات، ليزج بهم في السجن فيما لو امتنعوا عن العمل كخدم، حتى لو كانوا يشتغلون في أعمال أخرى مثل بذر الأرض لمصلحة الفلاحين مقابل أجر يومي، أو حتى المتاجرة بشراء وبيع الحبوب، الامتيازات والعقوبات القيصرية في سیلیزیا.
وعلى مدى قرن كامل تضج مراسيم الأمراء بشکاوی مریرة، المرة تلو الأخرى، من الرعاع الفاسدين، الوقحين، الذين لا يمتثلون للشروط الصارمة المفروضة، ولا يقنعون بمستوى الأجور القانوني. وقد حظر على الملاكين العقاريين، أن يدفعوا، بصورة افرادية، أجوراً تتجاوز التعرفة المقررة للمقاطعة كلها. ورغم ذلك كانت شروط الخدمة بعد الحرب، في بعض الأحيان، خيراً مما أصبحت عليه بعد مائة عام: فقد كان الخدم في سيليزيا يتناولون اللحم عام 1652، مرتين في الأسبوع، بينما توجد في قرننا في سيليزيا ذاتها أماكن لا يذوق الخدم فيها اللحم إلا 3 مرات في العام. زد على ذلك، أن الأجور بعد الحرب كانت أعلى من الأجور في القرون التالية». (غ. فرایتاغ، [صورة جديدة عن حياة الشعب الألماني، لايبزيغ، 1862، ص 35-36]).
(***) ورد في الطبعتين الثالثة والرابعة: قانون العمل. [ن. برلین].

(****) قانون حظر «الأعمال السرية»: قانون يسري في إنكلترا منذ القرون الوسطى، ويحظر أية أعمال سرية حتى لو كانت مسوغة قانونا، وقد استخدم هذا القانون ضد المنظمات والحركات العمالية. [ن. برلين].
(6) ننص المادة الأولى من هذا القانون على ما يلي: «بما أن إزالة كل نوع من اتحاد الأشخاص من حرفة واحدة أو مهنة واحدة تؤلف إحدى الركائز الأساسية للدستور الفرنسي، لذلك يحظر بعث هذه الاتحادات، بأية ذريعة وبأية صيغة كانت، وتنص المادة الرابعة على أنه إذا أقدم المواطنون العاملون في مهنة أو صنعة أو حرفة، على التواطؤ أو عقدوا اتفاقا يرمي إلى الرفض المشترك لتقديم الخدمات، أو يرمي إلى الامتناع عن تقديم خدمة صنعتهم وأعمالهم إلا لقاء سعر معين، فالتواطؤات والاتفاقات المذكورة يجب اعتبارها… مخالفة للدستور، واعتداء على الحرية واعلان حقوق الإنسان، إلخ»، فهي إذن من الجرائم بحق الدولة، تماما كما في قوانين العمال القديمة: انظر: ثورات باريس، ص 523.
(*5) حكومة ديكتاتورية اليعاقبة أيام الثورة الفرنسية، سادت خلال الفترة من حزيران/ يونيو 1793 إلى حزيران/ يونيو 1794. [ن. برلین].
(226) بوشیه و رور، التاريخ البرلماني، المجلد العاشر، ص 193-195 ومواضع أخرى.
(Buchez et Roux, Histoire Parlementaire, T. X, p. 193-195, passim).