النسبية والمناعة العقلية!


طلال الربيعي
2021 / 8 / 12 - 01:13     

يقول البعض إن كل الامور نسبية ووجهات نظر وليس هنالك حقائق مطلقة. وبالتالي يتساوى الكذب مع الصدق, الفساد مع النزاهة, احتلال الأوطان مع تحريرها, اليسار مع اليمين, التقدم مع التخلف وهلم جرا.

وبذلك الا يحق لنا التساؤل: ألا تعني بذلك النسبية انهيارا في القيم والأخلاق المبادئ؟ ليس هنالك ضوابط ومعايير مطلقة, وليس هنالك معنى لاحترام حقوق الإنسان من نقضها, فكل الأمور ستكون سيان. ولذا لا داع ولا موجب للعمل من اجل حرية وعزة وكرامة الإنسان! أليس هذا هو استنتاجا منطقيا لمبدأ نسبية الأمور؟

واني كطبيب علي أن اشخص المرض وأعالجه. ولكن التشخيص يعتمد على مقاسات وفحوصات مختبرية وشعاعية وسريرية. فإذا كان فحص الرنين المغناطيسي مثلا يظهر ورما في الدماغ ينبغي استأصاله او علاجه كيمياويا, فهل يمكنني أن اقول للمريض إن ورم دماغه يعتمد وجوده على وجهة نظر المريض او أي شخص آخر (غير مختص), او ان تغيير وجهة النظر كفيلة بإزالة الورم؟ أتمنى بالطبع ان تكون الامور بهذه البساطة وسنكون عندها من اسعد الناس ولا نحتاج الى اطباء ومستشفيات وصيدلة وعلاجات وسنعيش في عالم ALICE IN WONDERLAND!
https://www.harpercollins.com/products/mental-immunity-andrew-norman?variant=32903887454242

وهل يمكنني كطبيب أن اصدر شهادة وفاة تنص على إن الشخص متوفي نسبيا, ولذا على أهل المتوفي, نسبيا, انتظار موته المطلق كي يدفنوه, وقد يطول بهم الزمن الى ظهور المهدي المنتظر او قدوم غودو, ولا ادري ايهما يسبق الآخر او يليه!

وماذا عن فيروس الكورونا؟ هل سنبطل أخذ اللقاحات واعتماد وسائل الوقاية الضرورية لأن الفيروس قد يكون موجودا او مسببا للوباء او لا يكون؟ كل شيئ جائز!

وهل, مثلا, قوانين نيوتن نسبية؟ هل يجازف احدنا برمي نفسه من قمة عمارة عالية او واطئة, معتقدا إن قانون الجاذبية قد يعمل وقد لا يعمل, والمسألة قسمة ونصيب! إني شخصيا لن اجازف!

أدناه ترجمتي لمقالة
Why Relativism is the Worst Idea Ever
-لماذا النسبية هي أسوأ فكرة على الإطلاق-
بقلم- مارتن بودري
مارتن بودري فيلسوف علم ويشغل حاليًا كرسي Etienne Vermeersch للتفكير النقدي بجامعة Ghent. أحدث كتاب له هو
Science Unlimited؟
The Challenges of Scientism
Edited by Maarten Boudry and Massimo Pigliucci
https://press.uchicago.edu/ucp/books/book/chicago/S/bo27128704.html
حول تحديات العِلمانية، شارك في تحريره ماسيمو بيغليوتشي.
نشر أكثر من 40 بحثًا في مجلات أكاديمية والعديد من الكتب الشهيرة باللغة الهولندية عن التفكير النقدي والأوهام والتقدم الأخلاقي.
.........
أعرب الفيلسوف آلان بلوم عن أسفه ذات مرة: `هناك شيء واحد يمكن أن يكون الأستاذ متأكدًا منه تمامًا: يعتقد كل طالب تقريبًا يدخل الجامعة، أو يقول إنه يعتقد، أن الحقيقة نسبية.
https://books.google.be/books?id=cfr2ePZfFC4C&lpg=PP1&dq=Closing%20of%20the%20American%20Mind&hl=nl&pg=PA25#v=onepage&q&f=false
ربما بالغ بلوم في قضيته، ولكن كمدرس جامعي بنفسي، أعتقد أنه محق بعض الشيء.

هل الأشخاص الذين يدّعون أن "الحقيقة نسبية" أو "لكل شخص حقيقته الخاصة" يؤمنون بهذا حقًا؟ حتى بلوم يضيف التحذير: "... أو يقول إنه يؤمن". كما يمكن لأي شخص لديه اثنين من الخلايا العصبية لتشغيلهما معًا أن يرى، فإن الأطروحة هي هزيمة ذاتية. إذا كان "صحيحًا" أن الحقيقة نسبية، فإن الزعم بنسبية الأمور نفسه نسبي أيضًا ويلغي نفسه. من الواضح أن النسبية حول ما هو صحيح وما هو خطأ أخلاقيًا تهزم نفسها بشكل أقل وضوحًا، لأنه ليس من الواضح تمامًا ما إذا كان الادعاء بأن "المعايير الأخلاقية نسبية" هو في حد ذاته ادعاء أخلاقي. لكن من الناحية العملية، فإن النسبية الأخلاقية هي موقف يهزم الذات بنفس القدر. على سبيل المثال، سوف يدين النسبيون الأخلاقيون بشكل نموذجي الإيمان بالمعايير الأخلاقية العالمية كشكل من أشكال "الإمبريالية الثقافية"، والافتراض الضمني هو أن الإمبريالية الثقافية سيئة. ولكن إذا كانت المعايير الأخلاقية نسبية، فإن الادعاء بالإمبريالية الثقافية أمر يستحق اللوم كذلك. في أي نقاش عقلاني، النسبية هي المعادل الفكري لـ "التدمير المؤكد المتبادل" ، الرادع الذي استخدمته القوى النووية العظمى خلال الحرب الباردة. سيؤدي الضغط على الزر الأحمر إلى تدمير عدوك، ولكن سيدمرك انت أيضًا بالتأكيد.

ربما يتجاهل النسبي ببساطة مثل هذه التفاصيل المنطقية ويستمر بسعادة في الدفاع عن النسبية، مثل الرجل في The Big Lebowski: "حسنًا، هذا مجرد رأيك!".
(ليبوسكي هو شخصية في فيلم كوميدي عن الجريمة عام 1998 يقوم ببطولته جيف بريدجز في دور جيفري "The Dude" Lebowski ، المتسكع الذي تم الاعتداء عليه نتيجة خطأ في تشخيص الهوية، ثم علم أن مليونيرًا يُدعى أيضًا جيفري ليبوسكي كان الضحية المقصودة. ط.ا)

ومع ذلك، فحتى أشد مؤيدي النسبية لا يبتلع دواءه. حاول أن تتهم مثل هذا الشخص دون مبرر بأنه متحرش بالأطفال، وسوف يحتج بسخط على براءته. ليس كمسألة رأي شخصي، كمنظور واحد من بين وجهات نظر أخرى صحيحة، ولكن كحقيقة صلدة وموضوعية. قد يعلن ما بعد الحداثيين أن "الحقيقة" هي نتاج هياكل السلطة وأن العلم الحديث هو مجرد "سردية" للذكور الأوروبيين البيض، لكن تلك الآراء المتطرفة يتم إلقاؤها خارج النافذة عندما يذهبون للحصول على علاج للسرطان، أو عندما يركبون سيارة او طائرة للسفر لحضور مؤتمرات ما بعد الحداثة. كما قال ريتشارد دوكينز ذات مرة: "لا أحد يقوم بتأويل الأمور نسبيا على ارتفاع 30000 قدم".

الأمر نفسه ينطبق على النسبية الأخلاقية. قد يتظاهر الناس بأن الحكم على الثقافات الأخرى هو شكل من أشكال الإمبريالية، وبعضهم يتكلم بلهجة مقلقة بشأن الممارسات الفظيعة مثل تشويه الأعضاء التناسلية (الختان. ط.ا.) أو زواج الأطفال. ولكن إذا اكتشفنا قبيلة تقوم، على سبيل المثال، بتعذيب الأطفال الأبرياء عمدًا - أو أي مثال آخر متطرف بدرجة كافية - فسيكونون هم ايضا غاضبين بنفس القدر، وسوف يرفضون فكرة أن لا أخلاقية مثل هذه الممارسات موجودة فقط في عين الناظر.

من المطمئن معرفة أن النسبيين ليسوا حمقى كما يبدون. لكن هذا لا يعني أن النسبية غير ضارة. حتى مجرد التظاهر بعدم وجود معايير عالمية للصواب والخطأ له آثار ضارة. إن الهدف الحقيقي من التوجه نحو النسبية هو دائمًا خدمة ذاتية-مصلحية وانتهازية: تجنب النقد والمساءلة. إنه ليس إيمانًا صادقًا بقدر ما هو بطاقة رابحة مناسبة للعب متى كان ذلك مناسبًا لك، ومن ثم التخلص منها بحذر عند عدم الحاجة إليها. أطلق الفيلسوف ديفيد ستوف على ذلك اسم "تأثير إسماعيل" نسبة إلى الراوي من موبي ديك. في نهاية رواية ميلفيل، تغرق السفينة ويغرق الجميع، باستثناء الراوي في الكتاب: "أنا فقط هربت وحدي لأخبركم بما حدث". ومثل إسماعيل، فإن النسبي يعفي نفسه من المصير الذي يخضع له الجميع.
Ishmael effect
https://www.oxfordreference.com/view/10.1093/oi/authority.20110803100012214

تكمن المشكلة في أنه على الرغم من خدمة الذات وهزيمتها، إلا أن هناك شيئًا ما في النسبية يبدو جيدًا. في الحياة اليومية، نحن جميعًا على دراية بالمواقف التي يكون فيها لأشخاص مختلفين وجهات نظر مختلفة حول قضية ما، ولا توجد حقيقة موضوعية للمسألة حول من هو على حق. علاوة على ذلك، قد يُشعر انتقاد شخص ما كما لو كنت تفرض معتقداتك على الآخرين، وبالتالي تنتهك حريتهم. على العكس من ذلك، فإن النسبية الأخلاقية، إذا لم تفكر في الأمر بجدية، تبدو متسامحة بشكل يستحق الثناء، ومتواضعة، ومحو للذات. وبالفعل، من الصحيح أننا لا ينبغي أن نتسرع في إدانة الممارسات الثقافية البغيضة على ما يبدو إذا كان لدينا فقط فهم سطحي لمنطقها وتاريخها. قد يكون الإفراط في إصدار الأحكام أمرًا مزعجًا، كما نعلم من حكاية يسوع عن المرأة التي تُوشك على الرجم من قبل الغوغاء. إذا كنت تجادل بأن شخصًا ما مخطئ بشكل موضوعي، فأنت تبدو كواحد من هؤلاء الذين يتوقون إلى إلقاء الحجر الأول.

ولكن على الرغم من الادعاءات التي تشير إلى عكس ذلك، في بعض الأحيان يكون الناس مخطئين بشكل موضوعي، ومن المؤذي التظاهر بخلاف ذلك. كتب الفيلسوف Andrew Norman في كتابه الجديد الرائع "المناعة العقلية"
Mental Immunity
https://www.harpercollins.com/products/mental-immunity-andrew-norman?variant=32903887454242
أن الأفكار السيئة يمكن اعتبارها ميكر وبات او جراثيما للعقل، ويقترح استراتيجيات لتلقيح عقولنا ضدها. تماما مثل البيولوجية ضد الميكروبات التي تغزو أجسادنا وتجعلنا مرضى، يمكن أن تصيب ميكروبات العقل عقولنا وتجعلنا أغبياء. من هذا المنظور المناعي، تعتبر النسبية معطلاً رئيسياً لنظام المناعة العقلي. المعايير الموضوعية للصواب والخطأ هي دفاعاتنا الرئيسية ضد الأفكار السيئة. إذا فقدنا هذه المعايير ، فكل شيء ممكن ومقبول . من خلال تعطيل مناعتنا الطبيعية، تجعلنا النسبية عرضة لمجموعة كاملة من الأفكار السيئة (لأن من سيقول إن الفكرة سيئة حقًا؟) وتمنعنا من التقاط الأفكار الجيدة (لماذا نتعلم أي شيء جديد إذا كان كله نسبيًا على أي حال؟). كما أنه يفسد أعرافنا الاجتماعية، لأنه يقوض فكرة أننا مسؤولون عن معتقداتنا وسلوكياتنا، وأننا بحاجة إلى أن نكون قادرين على تبريرها إذا تم تحديها.

وبهذا المعنى ، فإن النسبية ليست مجرد فكرة سيئة، ولكنها أم الأفكار السيئة. لقد حان الوقت للقضاء عليها.