هل يحاسب الله البشر على أفعال خلقها فيهم خلقاً؟ الحلقة الثانية (2/ 2)


حسن خليل غريب
2021 / 8 / 11 - 12:58     

(مقال من كتاب قيد الإعداد)
(أجوبة صادمة على أسئلة ممنوعة)
-رابعاً: الإنسان مسؤول عن خياراته:
بعد أن خلق الله الإنسان وزرع فيه مواصفات الصحة العضوية، كما زرع فيه عوامل الصحة النفسية والروحية، فقد وكَّل مجتمعه الصغير للمحافظة على تلك العوامل وتنميتها. وهنا تبدأ مسؤولية الحاضنة الاجتماعية على هذه الوظيفة. ومن بعد أن يبلغ الإنسان مرحلة الرشد، تبدأ مسؤوليته بعد أن تعلم شروط المحافظة عليها وعواملها. وتأتي لاحقاً مسؤولية البنى المرجعية الاجتماعية والسياسية والصحية وغيرها مما هو متعارف عليه من مؤسسات تدير شؤون المجتمع، في مساعدة الإنسان الأسرة والإنسان الفرد في تدبير أمور الرعاية الصحية والنفسروحية.
أوساط ثلاثة تتحمل تلك المسؤولية، وهي الأسرة المباشرة، الإنسان الفرد، والمؤسسات التي تدير شؤون المجتمع. وتقع المؤسسات في رأس هرم الأوساط الثلاثة.

-خامساً: المجتمع البشري هرم تراتبي يتحمل مسؤولية أفعال البشر:
1-مسؤولية الفرد:
أخطاء الفرد أو إصابته تنتج عن أفعال يقوم بها، ولأن جوانب السلامة العضوية، والسلامة النفسروحية، تتفرع إلى مئات من الوظائف، بل إلى آلافها، يعجز الإنسان الفرد أو الإنسان الأسرة، عن القيام بها منذ ولادة الفرد حتى مماته، وإن قصَّر في أدائها، وهو سيقصِّر حتماً، تنتقل مسؤولية أدائها إلى المجتمع، فيصبح المجتمع شريكاً في إنتاج الأفعال بشكل سليم، أو إنتاجها بشكل خاطئ.
2-مسؤولية الأسرة:
فمن حيث أفعال السلامة العضوية، فلن يكون الإنسان قادراً وهو وليد جديد أن يدبِّر نفسه بنفسه ولو بالحد الأدنى لأنه سيكون عاجزا تماماً عن القيام بها. ومن المعروف أن المحافظة على سلامة الخلايا العضوية، أو سلامة الخلايا النفس روحية، هي مهمة العائلة الصغيرة المحيطة بالوليد، فإذا أحسنت تدبيرها ينشأ الوليد الجديد نشأة سليمة، وإذا أخفقت ينشأ الوليد نشأة عليلة.

3-مسؤولية المؤسسات الاجتماعية والسياسية:
وكذلك، ولأن لتنشئة سليمة للوليد، زوايا وجوانب قد تكون بالحجم الذي تعجز فيه الأسرة الصغيرة عن توفيرها للوليد ولأفرادها اليافعين أو المسنين، حينذاك يقع على عاتق المجتمع بأسره أن يُنشئ الوظائف اللازمة التي يحتاجها الإنسان من أجل تنشئة أفرادها تنشئة سليمة. وإذا قصر المجتمع عن القيام بها سينشأ مجتمع غير سليم، مما ينعكس ليس على المستوى الفردي أو الأسروي الصغير أو القومي الأوسع، بل على شتى المستويات، مجتمع عالمي غير سليم. وبناء عليه سيتم محاسبة الآخرين، كل في موقعه وحسب مهنته ورسالته، على ما يصيب الإنسان الفرد من ضرر، وتتم مكافأته إذا أحسن المساعدة.
استناداً إلى ذلك، لن تنحصر أفعال الإنسان بفرد أو بأسرة صغيرة، ولن تتم محاسبته أو محاسبتها بمفردها، بل تتم مساءلة المجتمع الأكبر فالأكبر وصولاً إلى المجتمع الإنساني الشامل.
وهنا، تتحمَّل المسؤولية الأكبر، هي تلك المؤسسات المركزية التي تسوس شؤون المجتمع، كل منها باختصاصها. لأنها هي التي تتولَّى تدبير شؤون المجتمع الواحد على شتى مستوياتها العضوية والروحية.
وهنا نتساءل، أيضاً وأيضاً، إذا كان المجتمع (مؤمناً) يؤدي فروض العبادات على أكمل وجه، ولكنه قصَّر في واجباته الموكولة إليه في المجتمع، فهل تغفر عباداته لله تقصيره؟ وكذلك، إذا أدى المجتمع واجباته، ولكنه قصَّر في مراسيم عباداته، فهل يعاقبه الله؟
تلك أسئلة لن تكون من دون جواب، بل يمكننا القول بأن العمل أولاً، حتى لو كان على حساب ممارسة العبادات، التي إذا حصلت ستكون مكمِّلة للعمل الصالح وليست بديلاً عنه. بل يمكننا القول: إن العبادات من دون العمل لا فائدة منها لانتفاء حاجة الخالق لها.

سادساً: مسؤولية المؤسسات الدينية:
بين القول بالجبرية، أو القول بالقدرية، تبدأ إشكالية التفاوت بين القولين والتناقض بالأهداف. فالقول بمسؤولية الإنسان عن أفعاله لأنه هو الذي يخطط لها وينفذها هو القول المنطقي والعادل. وأما القول بأن الله يقدِّر لكل إنسان أفعاله ويحاسبه عليها، فبالإضافة إلى أنه يجافي العدالة الإلهية، فهو ذو أهداف سياسية وليست دينية.
وإذا افترضنا، وهو ما نؤمن به، أن تحميل المسؤولية في أفعال الإنسان يطال جميع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية عندما تقصِّر بالقيام بواجباتها لتربية إنسان سليم البنية العضوية، وسوي البنية الروحية النفسية، فإن قول المؤسسة الدينية بأن الله خلق في الإنسان أفعاله، هو هروب من تحمل المسؤولية التي تترتب عليها في حث المؤسسات المدنية بالقيام بواجباتها تجاه تربية إنسان سوي روحياً ونفسياً وجسدياً وإلقاء مسؤوليتها على الله.
وهذا ما تفسره العلاقة الوثيقة بين رجل الدين ورجل السياسة، فرجل الدين يمالئ رجل السياسة ويحميه من أية مسؤولية. ورجل السياسة يستغل رجل الدين الذي يفتي بأن الله هو من كتب على الإنسان أفعاله. وكل تقصير يمارسه رجل السياسة في وظيفته يصبح مبرراً عندما تُلقى المسؤولية على الله، لأن رجل السياسة، حسب القاعدة الجبرية، ليس بيده حيلة بما أمر به الله.

-سابعاً: تبدأ مسؤولية المحاسبة من فوق نزولاً إلى الأدنى:
من يعمل مثقال ذرة شراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. هذا يؤكد الاجتهاد القائل بوجوب العمل أولاً، العمل في سبيل منفعة الإنسان الذاتية، مترافقاً مع العمل الواجب في سبيل الغير. فالعمل في سبيل الأولى فقط، بالمعنى القائل: (كفى فلان الآخرين خيره وشره). وإذا كان هذا يُؤخذ بالمعنى الإيجابي الدارج، فهذا يتنافى مع دور الإنسان الفرد في مجتمع هو أحد أعضائه. أي أنه يعتني بنفسه، ولكنه لا يؤذي الآخرين. وهذا مثاله كمثال الذي يستفيد من جهد المجتمع، ولكنه لا يبادل مجتمعه بمنفعة من جهده. وهذا يكون قد فقد دوره كإنسان.
إن عمل الإنسان له فائدتان:
-الأولى: تختص بالمنفعة الذاتية: والإنسان لم يصل إلى هذا المستوى من دون الاستفادة من عمل الآخرين الذين أسهموا في إكسابه الخبرة، ومساعدته على تنمية جسده وعقله. ولولا تلك المساعدة لما وصل إلى ما وصل إليه من اكتساب وسائل تحقيق منفعته.
-الثانية: تختص بواجب الإنسان أن يبادل المجتمع بمساعدة الآخرين، سواءٌ أكان الأمر متعلقاً بالأقربين منه، أم كان متعلقاً بالمجتمع الأوسع فالأوسع. وبناء عليه تصبح الشروط الإنسانية ناقصة فيمن (لا ضرر منه للمجتمع، أو ممن لا خير فيه له).

-ثامناً: مسؤولية خلاص الأنفس في الآخرة تبدأ في إرشاد المسؤولين في أعلى الهرم الاجتماعي:
عادة ما تنتشر الظاهرة الدينية في الأوساط الفقيرة والتي يلفها الجهل، والتي يقوم بوظيفة نشرها رجال الدين. ولكن عبثاً تكون نتائج نشر الدين على حياة المجتمعات إذا كانت تقتصر على نشر تعاليم العبادة من دون حثِّ الإنسان على العناية بشؤون معاشه في الدنيا، واجبات وحقوق.
وأما الواجبات فتتعلق بكسب العلم والخبرة في تأهيل نفسه عضوياً وروحياً وأخلاقياً،
وأما الحقوق فهي مطالبة المؤسسات الروحية والسياسية بالقيام بواجباتها تجاه المجتمع الذي تسوسه.
وأما السبب الضروري الذي يدفعنا للبرهان على ما نقول، فهو لأنه ما لم يتم إصلاح المؤسسات الأعلى، فلا خلاص لنفس في الدنيا وفي الآخرة حتى لرجال الدين أنفسهم إذا حصروا مهمتهم في وظيفة الإرشاد الروحي، وقفزوا فوق واجباتهم في حثِّ المؤسسات السياسية للقيام بواجباتها تجاه المجتمع.
وعن هذا، عادة ما يحض رجال الدين الطبقات الفقيرة على التمسك بالعبادات والطقوس استدراراً لنعم الله، وإغداق الوعود على الصابرين على الجوع والمرض، وقِلَّة من المال، بالجنة. ولكنهم قلما يحمِّلون الشرائح العليا في إدارة شؤون المجتمعات على القيام بها، وهذا يشمل الشرائح الموسرة في المجتمع.
وأما عن الرؤساء فيحضون المؤمنين على بذل فروض الطاعة لهم، كمثل ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾، أو: »أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ«، أو (لاَ تَسُبَّ اللهَ، وَلاَ تَلْعَنْ رَئِيسًا فِي شَعْبِكَ).
وعن الشرائح الغنية والموسرة فيعتبرون المال عند الموسرين عطية من الله لأنه حسب اعتقادهم أن (اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، أو ‏«لتكن سيرتكم خالية من محبة المال،‏ وكونوا قانعين بالامور الحاضرة«، وبينما هم يرشدون أتباعهم بالقناعة والصبر ينسون أن البشر عند الله سواسية، وهو ما تضمنه مبدأ العدالة والمساواة كقيمة عليا غرسها الله في نفوس البشر.
إن رجال الدين، عندما يدعون إلى احترام أولياء الأمر من دون شروط إلاّ ما يزعمون بأن طاعتهم هو أمر إلهي، من دون ربط دعوتهم بإلزامهم بتطبيق العدالة والمساواة التي حضَّت عليها الكتب السماوية.
ويدعون الأغنياء والموسرين إلى القيام بأعمال خيرية بما يتصدَّقون به، من دون حضِّهم على إدارة ثرواتهم من دون استغلال جهد العاملين.
ساعتئذٍ، تصبح إرشاداتهم الدينية من دون فائدة، إذ أنه لا معنى للحساب في الآخرة، وعبثاً تكون الوعود بالجنة في حياة ما بعد الموت، في الوقت الذي عليهم أن يمهدوا لها بجنة ما قبل الموت.
فإذا لم تقترن إرشادات رجال الدين الروحية بحثِّ أتباعهم على مطالبة الدولة بأن تقوم بواجباتها في تطبيق العدالة، ومنها فرض ضرائب عادلة على الشرائح الغنية وإعطاء العاملين في شركاتهم أجراً عادلاً، فيكون مثل رجال الدين كمثل من يحضون الفقراء على الصبر على فقرهم، ويتحاشون تحميل المسؤولية للحكام والأغنياء. وفي تصرفهم هذا تقع الشبهة في نواياهم. ليس هذا وحسب، بل من واجبات رجال الدين أن يدفعوا الظلم عن المظلومين بالوقوف في وجه الظالمين. فكلمة حق في وجه ظالم خير من آلاف العظات والإرشادات التي تحثُّ على أصول العبادة وهي خالية من كلمة حق واحدة تقال في وجه ظالم.
بين هذه المسؤولية أو تلك، تبقى علاقة رجل الدين مع رجل السياسة أو مع الشرائح الغنية علاقة وطيدة، يدعم أحدهما الآخر، ويحمي أحدهما الآخر، وتضيع حقوق الفرد والمجتمع وتبقى مغلوبة على أمرها، لا حول لها ولا طول، تنفعل بوعود رجل الدين بالجنة، ووعود رجل السياسة بالمساواة في الوقت الذي لا يرى فيه أي منهما مصلحة تسبق مصلحته ولا تفوقها.
خاتمة
يصبح من المنطقي أن نقوم بتصحيح القواعد التي يرتكز إليها المجتمع في تصحيح العلاقات بين أفراده ومجموعاته وشرائحه ويأتي في المقدمة منها الشرائح الحاكمة.
والقاعدة ليست كما هو معروف تقليدياً تبدأ من تربية الإنسان العادي وتنتهي في أعلى الهرم؛ بل أن نقلب الهرم، فيصبح الرأس هو القاعدة، لأنه ما لم تصلح الرأس فعبثاً تصلح من هو أدنى منه.
وأما ذلك فيعود إلى (أن الله خلق الإنسان في أحسن تقويم)، نفسياً وجسدياً، أي عندما كوَّنه لأول مرَّة ثبَّت فيه جينات جسدية وجينات نفسروحية، يحافظ على سلامتها إذا انتقى مما خلقه الله من مواد غذائية عضوية تتناسب مع أصول سلامتها، أو من معارف ذهنية تتناسب مع سوية العوامل النفسروحية. وألهمه كل وسائل المحافظة على سلامة التقويم الأول. ومن بعده ترك له حرية العمل. فإذا أحسن خياراته يصيب نتائج إيجابية، وإذا أخطأ في تلك الخيارات يصيب نتائج سلبية.
ولأن الإنسان، منذ ولادته لأول مرة، كان معافى سليماً، وكان بحاجة إلى أسرته الأولى لتوفير عوامل العافية والسلامة، لأنه عاجز، تتحمل الأسرة أي إهمال. ولأن الأسرة عاجزة بمفردها عن توفير عوامل السلامة، فهي بحاجة إلى مجموع بشري أوسع لمساعدتها في توفير سبل المعاش الجسدي، وتوفير سبل السوية النفسروحية. وبتكوين علاقات المجتمع على شكل هرم، تتبوأ السلطات العليا رأس الهرم الاجتماعي، نبدأ بتحميل المسؤوليات انطلاقاً من رأس الهرم، التي ما إن تنتهي مسؤولياتها بتوفير عوامل وسبل السلامة الجسدية، وعوامل وسبل السوية النفسروحية، تبدأ مسؤولية الأسرة. وما إن تنتهي مسؤوليات الأسرة تبدأ المسؤولية الفردية. وإذا ما قام كل فرد بتوفير تلك العوامل والسبل، تبدأ ولادة ما نسميه بـ(جمهورية أفلاطون)، أو ما تسميه الماركسية بـ(المرحلة الشيوعية).
وإذا كانت تلك المراحل عصية على التنفيذ أو التطبيق. وإذا كانت كل حلقة من حلقات الترابط والتسلسل في تحميل المسؤوليات، مقصِّرة عن القيام بواجباتها، وهي حتى الآن تشكل حلماً طوباوياً، لا يجوز لنا أن نحمِّل الفرد مسؤولية أفعاله لوحده، اللهم سوى بما يقصِّر فيه شخصياً. وهذا ما يمكن قياسه بالمكاييل ذاتها في الحياة الدنيا، والحياة ما بعد الموت.