نحو بناء الوطنية السورية الجامعة


عبدالله تركماني
2021 / 8 / 10 - 19:33     

يبدو الموقع الجيو - استراتيجي أحد أهم أسباب تعقيد المسألة السورية، حيث أضحت سورية ميداناً لتنافس القوى الإقليمية والدولية، وربما يمضي السوريون أوقاتاً عصيبة لريثما يستطيعون إعادة بناء وطنيتهم الجامعة.
لقد شهدت سورية في عشرة أعوام ما لم تشهد مثله في نصف قرن سابق، إذ تغيّر أغلب السوريين، تغيّرت مدنهم وقراهم وأعمالهم وعلاقاتهم وتصوراتهم عن أنفسهم وعن غيرهم.
فمنذ بدء الحراك الشعبي في آذار/مارس 2011، ومع تصاعد العنف المحض الذي بدأته سلطة آل الأسد، باتت أغلب المكوّنات السورية تستشعر نفسها كجماعات وهويات عابرة للكيان، وتتخيل نفسها أقرب الى دول ومجتمعات خارج بلادها، أكثر مما تستشعر قرباً وتماهياً مع المكوّنات الوطنية ضمن الكيان السوري. مما أدى إلى تداعي الإطار الوطني للصراع لمصلحة الانتماءات الفرعية، ما دون الدولة الوطنية الجامعة. ولا شك أنّ سلطة آل الأسد كانت الرائدة في تحطيم الإطار الوطني للصراع، كما أنّ ظاهرة الأسلمة المتطرفة للثورة، خاصة مع وجود الجهاديين الأجانب، تركت آثاراً على انهيار الإطار الوطني تدريجياً.
وهكذا أضحى الصراع صراعاً مركّباً، تختلط فيه مطالب الحرية والكرامة والانتقال السياسي من الاستبداد إلى الديمقراطية مع الحرب الأهلية ومع الصراع الإقليمي والدولي.
ويتعدى انهيار الإطار الوطني النطاق السياسي والجغرافي إلى النطاق الزمني أيضاً، إذ لدينا من يعيشون زمناً أصولياً لا يتغير، يستعيدون فيه بواكير الإسلام المفترضة، ومن يعيشون زمن سلطة آل الأسد " الأسد أو نحرق البلد "، وفي الوقت نفسه هناك من تنشدّ أنظارهم إلى الوطنية السورية الجامعة.
ونرى أنّ خيار الوطنية الجامعة يمكن أن يضع السوريين في وضع أفضل لمواجهة تحديات المستقبل، إذ إنّ التفكير في المعطيات الراهنة يقتضي التأسيس لتصور جديد لهذه الوطنية، يقوم على النظر إلى المكوّنات السورية المختلفة كمكوّنات تأسيسية متساوية الحقوق والواجبات، ويؤسس لامتلاك السوريين دولتهم، ويسهم في تكوّنهم كمواطنين أحرار متساوين. وبذلك يمكن لمطالب الحرية والكرامة والتغيير أن توفر أسباباً قوية للانحياز لها والوقوف إلى جانبها من جميع مكوّنات الشعب السوري.
وفي الوقت نفسه يجدر بنا أن نسلك حياداً إيجابياً تجاه القضايا والقوى الإقليمية والدولية، لئلا نغرق في الصراعات التي تتجاوزنا حجماً وقدرة. ويبقى العامل الذاتي الوطني حجر الأساس في أي تعامل مع المبادرات والجهود الإقليمية والدولية التي تقارب المسألة السورية، فمن دون قيادة سياسية متماسكة، من غير تلك التي خبرناها طوال السنوات الماضية، تمتلك رؤية سياسة واضحة ومطمئنة لسائر المكوّنات السورية، على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات، تأخذ في اعتبارها المعادلات الإقليمية والدولية، وتؤكد للجميع أنّ سورية المستقبل ستكون عامل استقرار وسلام لمصلحة الجميع، وبناء سرديتنا كقضية انعتاق إنساني ديمقراطي عام، ستبقى الأمور عائمة، مفتوحة على غير ما هو منشود.
نحن اليوم مدعون لإبداع الأفكار والرموز والقيم الوطنية الجامعة، فلا سبيل أمامنا للتحرر من السيطرة الأجنبية بالتوجه نحو الماضي. فقد أحرز الحراك الشعبي السوري إنجازات هامة في بدايات انطلاقه، بفضل سلميته ووطنيته الجامعة، فكسر حاجز الخوف الذي هيمن طويلاً على حياة السوريين، وأظهر للملأ شجاعتهم واستعدادهم للتضحية من أجل حريتهم وكرامتهم، وأبرز تصميمهم على التغيير وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
إنّ الشعب السوري يريد الحرية والحياة الكريمة في ظل دولة وطنية، مدنية، هي دولة حق وقانون لجميع مواطنيها، وسلطة وطنية عامة هي سلطة القانون الذي يضعه الشعب لنفسه بإرادته الحرة. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة، التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس ديني أو مذهبي أو قومي.
يستدعي هذا، قبل أي شيء آخر، العودة إلى ذاتنا، واستعادة الروح الأولى للحراك الشعبي والمبادئ التي كانت تمثله، في الحرية والكرامة وحق الشعب في تقرير مصيره، ورفض المساومة على القضية التي ضحى من أجلها ملايين السوريين. فمن دون إحياء هذه الروح من جديد، وتعميم إشعاعها في قلوب أغلب السوريين، لن يبقى هناك أي معنى لمعركتنا الراهنة، وسيتحول الكفاح البطولي المرير الذي خاضه شعبنا، منذ عشر سنوات، إلى اقتتال مجاني، عبثي.