هل يحاسب الله البشر على أفعال خلقها فيهم خلقاً؟ (الحلقة الأولى) (1/ 2)


حسن خليل غريب
2021 / 8 / 8 - 14:55     

(مقال من كتاب قيد الإعداد)
(أجوبة صادمة على أسئلة ممنوعة)
(الحلقة الأولى) (1/ 2)

أسئلة على أسئلة:
هذا السؤال يستوجب طرح سؤال آخر: هل أفعال الإنسان مخلوقة فيه بإرادة إلهية، أم أنها من صنعه، وجنى يديه؟
يعني هل خلق الله الأفعال في الإنسان ورسم له طريقها، وقدَّر له حصولها قبل أن تحصل؟
وإذا كان الله قد خلقها فيه خلقاً فلماذا يحاسبه على أفعال لم تكن له يد أو إرادة في حصولها؟
وهل يُجزى الإنسان على عمل خير لم يقم به بإرادته. وأن يُعاقب على عمل شر كان مكتوباً له على اللوح المحفوظ؟
لماذا أسئلة على أسئلة؟
لقد أنذرت بعض الكتب السماوية الإنسان بحسابه بالآخرة، وحتى في الحياة الدنيا، ومنها ما جاء في القرآن الكريم، على القواعد التالية:
-تتم مساءلة الإنسان على الأعمال التي قام بها بمحض اختياره: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.
-قاعدة التفضيل الإلهي بين البشر في الهداية: ﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾.
-قاعدة التفضيل الإلهي بين البشر في الرزق: ﴿ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾. ﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾.
تحليل لقواعد الحساب والمساءلة:
أما القاعدة الأولى، فتؤكد على أن القدرة الإلهية تعتمد أعمال الإنسان التي قام بها بمحض إرادته، مقياساً لحسابه. وفيها عدل لأنه يُثاب على عمل قام به بمحض اختياره وإرادته، ولكنه إذا أُثيب على عمل خير تمَّ خلقه من قوة خارجة عن إرادته، حتى ولو كانت قوة خالقه، فهو يُثاب على عمل لا فضل له فيه وهذا مخالف للواقع البشري. وإذا عُوقب على عمل أُمر به، أو خُلق فيه خلقاً، أي لم يختره بمحض إرادته، ففيه ظلم واضح، إذا تمَّ تحميله وزر خطأ ليس مسؤولاً عنه. فالنتيجة المنطقية والعادلة هي أن تكون الأفعال الصادرة عن الإنسان بمحض إرادته واختياره. ولا مساءلة له، سلباً أو إيجاباً، خارج هذا المقياس.
وعلى واقع هذا المبدأ نرى أنه لا يمكن الاجتهاد بتفسير ما عداه من نصوص خارج مقاييسه ومكاييله. ونذكر بالأخص ما جاء في قاعدة التفضيل الإلهي بالهدي والضلالة، وقاعدة الانتقاء بالرزق الواردتين أعلاه.
طبعاً، وبما لا شك فيه، نؤمن بأن الله قادر على فعل أي شيء، وحر فيما يفعله؛ ولكن الإيمان بعدالة الخالق الأول للكون، بما فيه الإنسان، تدفعنا إلى تنزيهه عن أية صفات لا تتطابق مع أسس العدالة والمساواة بين البشر التي أمر بها، حيث خلقهم، وساوى بينهم بالعدل سواءٌ أكان بتكوينهم الجسدي أم الخُلُقي، ولكنه فضَّل بعضهم عن بعض بالعمل الذي يقومون به بمحض إرادتهم، وحول ذلك جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.

عود على بدء التناقض بين الجبريين والقدريين:
إن إشكالية حساب البشر على الأعمال التي خلقها فيهم خلقاّ، أو تلك التي صدرت عنهم، تقود إلى مناقشة إشكالية العلاقة بين الجبرية والقدرية في أفعال الإنسان؛ وهل هو مسيَّر أم مخيَّر فيما يقوم به من أفعال، وما يصدر عنه من سلوكات.
الجَبْرية تؤمن بأن الإنسان مسيّر لا قدرة له على اختيار أعماله، والقدرية مفهوم يرى أن الله لايعلم شيئاً الا بعد وقوعه، وإن الأحداث بمشيئة البشر وليست بمشيئة الله.
قد نجد الجواب الخطأ عند من يؤمنون بأن الله قد خلق كل شيء في الإنسان، جسداً وروحاً وأفعالاً، ورسم له كل خطواته منذ ولادته حتى مماته. صحيح هذا فيما يختص بخلق كل شيء في الإنسان ولكن هذا لا ينطبق على أفعاله، لأن الله أراد أن لا يخلقها فيه بل ترك له حرية القيام بها. وبغير ذلك، تصبح مساءلة الله للبشر متناقضة مع عدالته. وإن ما دفع القائلين بهذا الاجتهاد هو خشية من أن يقعوا في شبهة اتهام الله بأنه ناقص للمعرفة، أو خشية من شبهة أن يكون هناك خالقان: الله والإنسان.
وإذا كانت الأفعال من خلق الإنسان، تجوز مساءلته وحسابه على أساس هذا التفسير، لأن من يفعل خيراً يره، ومن يفعل شراً يره. ولكن كيف يستقيم هذا الاعتقاد مع إشكالية المسؤول عن الخلق. وإذا خلق الإنسان أفعاله بمحض إرادته، فهو الذي يتحمل وزرها، وهذا صحيح من حيث المنطق، ومبادئ العدالة. ولكن لقاء ذلك، تواجهنا إشكالية السؤال التالي: هل يصبح لدينا خالقان، الله والإنسان؟

لكل إنسان الحق بالاجتهاد في القضايا الماورائبة:
إن الدخول في البحث عن قضايا ماورائية، محفوفة بالمخاطر لأنها تستند إلى الاجتهاد، ولكنها لا تستند إلى مقولات اليقين. ولأن الاجتهاد فيها مستمر منذ بدء الخلق على الكرة الأرضية، شارك فيها فلاسفة وعلماء، وأديان وثنية وأديان سماوية، نرى أنه لا يجوز لأحد أن يمنع أحداً آخر من القيام بدور المجتهد في هذا الحقل، ولكن هذه الحرية تستند إلى المقدرة على القياس والتعليل. وسأمارس حقي أنا أيضاً.
قد يأخذ عليك رجال الدين بأن من يريد الاجتهاد بالقضايا الدينية عليه إما أن يكون فقيهاً، أو من رجال الكهنوت. وقد يأخذ عليك الفلاسفة أن من يجتهد بالقضايا ذاتها أن يكون ملماً بأصول الفلسفة. وكذلك قد يأخذ عليك آخرون بهذه أو تلك.
وإذا كان لا يعلم بالغيب أحد غير الله، وهذا ما يتشارك الجميع بمعرفته والإقرار به.
ولأنهم جميعاً ندبوا أنفسهم للاجتهاد بالغيب، تحت حجة أو أخرى،
وإذا كانوا ينكرون الاجتهاد لغير المختصين بعلوم الدين وعلوم الفلسفة، على الرغم من أنهم يمتلكون خبرة وعقولاً تؤهلهم للقيام بدور الاجتهاد والتفكير.
نرى أن الله وهب العقل للجميع بالتساوي، وهذا يجيز لكل إنسان، خلافاً لما أمر به رجال الدين والفلسفة والعلم، بأن يمارس هذا الحق، الذي لم يُحبِه الله لأحد دون أحد آخر.
لماذا الاعتقاد بأن أفعال الإنسان هي من خلق الإنسان؟
ولكي يضمن خالق الإنسان دوراً للبشر بأن يتحملوا مسؤولية شخصية من دون تدخل منه، أي أن يتحمل الإنسان مسؤولية أعماله ليصبح حسابه عنها قضية عادلة، وضع في الإنسان ملكة التحكم في مسار حياته في سلسلة من الثنائيات المتناقضة ما يمكننا تسميته بالمتناقضات، أي الثنائي الذي يحتمل اختيار الوسيلة الصحيحة أو اختيار الوسيلة الخطأ في الآن ذاته، أي إذا استطاع الإنسان أن يتحكم بها من أجل إبقائها سليمة، فسوف يحصل على أفعال سليمة. وإذا عجز عن ذلك، فسوف تدخل الأفعال في المسار النقيض فيحصل الخطأ. ومن أجل توضيح رأينا في هذا الحقل، سنقوم بالخطوات التالية:

وجهة نظر في طبيعة تركيب الإنسان:
لقد خلق الله الإنسان من خلايا غاية في الدقة، وهذا ما أثبته العلم. وخلق لكل خلية وظيفة تؤدي دورها بشكل سليم إذا حافظ الإنسان على سلامتها، وتعجز عن أدائها إذا أُصيبت بخلل ما. ورسم الله للإنسان مساراً على أساسها. وأنهى الله دوره عند هذه المرحلة، وترك للإنسان حرية ومقدرة ومسؤولية التحكم بظروف الصحة والعلة في الخلايا التي يتكون منها.
هذه المعادلة ستكون القاعدة التي سنبني عليها هيكل اجتهادنا. ولنتابع على أساس تعريفنا لتلك المعادلة؛ فنتساءل: أين بدأ الله مسؤوليته في خلق الإنسان وأين حدد نهاية لها؟ وأين أمر بابتداء مرحلة مسؤولية الإنسان وأين أمر بوضع نهاية لها؟ ومن أجل الإجابة عن تلك التساؤلات، يمكننا تحديد رؤيتنا للجوانب التالية:

-أولاً: الإنسان مكوَّن من مليارات الخلايا:
عودة إلى التذكير بأن العلم أثبت أن الإنسان مخلوق من مليارات الخلايا. لكل مجموعة منها وظيفة محددة، وتتوزَّع وظائفها على عدد كبير من الحواس وأعضاء الجسم الأخرى. كما تتوزَّع على عدد كبير من خلايا الدماغ الذي يشكل المصدر العضوي للتفكير، بما فيها الخلايا التي تتحكم بشؤون النفسروحية غير المنظورة.

-ثانياً: الخلايا المكوَّنة للإنسان نوعان، عضوي ونفسي – روحي:
ثنائية خلق الإنسان من جسد منظور، وروح أو نفس غير منظورة. وإذا كان الجسد مخلوق من خلايا منظورة حتى ولو بأحدث المناظير قدرة على تكبير صورة الأشياء، فإن الروح – النفس مخلوقة أيضاً من مجموعة كبيرة من الخلايا غير المنظورة بطبيعة الحال لأن النفس غير منظورة.
وبالنسبة للخلايا العضوية كلما كانت الخلايا سليمة تقوم الحواس وأعضاء الجسم الأخرى بشكل سليم. وتتعطَّل كلما أصاب تلك الخلايا مرض أو بتر أو ما شابه ذلك. ونعبِّر عن ذلك بوجود ثنائية (الصحة والمرض)، فالله خلق تلك الخلايا وهي سليمة باستثناء ما تضرَّر منها بحكم الوراثة، أي خلق عناصر الصحة في تكوين الخلايا. هذا علماً أن العناصر المعلولة بحكم الوراثة تتكون نتيجة إهمال في هذه أو تلك من العوامل السليمة، وعدم معالجتها عن جهل أو عن تقصير. وأما المرض فتعود أسبابه إلى فعل الإنسان، أي إذا جهل أو أهمل أو عجز لسبب أو لآخر عن توفير ظروف الصحة، حينذاك يصاب العضو بالمرض. فالإنسان مسؤول عن حدوث المرض.
وأما بالنسبة للخلايا النفسروحية، فقد خلقها الله بصورة سوية لكي تؤدي وظيفتها بشكل سوي، والتي إذا تعطَّلت خلاياها العضوية، فستعمل بشكل غير سوي. ولذلك، تسلك الطريقة ذاتها بالنسبة للصحة والمرض. فالله خلق الإنسان بصحة نفسية وخلق فيها تناقضاتها وترك للإنسان وظيفة اختيار واحد من المتناقضين، ولنسمه بثنائية الخير والشر.

-ثالثاً: ليست بالعبادات والطقوس تنجو الأنفس في الآخرة:
استنتاجاً من المقدمات أعلاه، نعتقد أن الله قد خلق نوعاً واحداً من الخلايا في الإنسان الأول بصحة تامة. كما خلق فيها إمكانية تعرًّضها للعطب فتفقد صحتها وتتعطل وظائفها بفعل عدم وقايتها من عوامل مضادة لها تؤثر عليها وتتلفها. فالله لم يخلق خلايا سليمة وأخرى عليلة، بل خلق فيها إمكانية عطب الخلايا السليمة إذا فقدت شروط نموها نمواً سليماً. ولعلَّ هنا تكمن معادلة الخلق، وهنا يكمن سرُّها. فكيف نفسِّر هذا الأمر؟
لو خلق الله إنساناً سوياً خالياً من العلل الجسدية والنفسروحية، وهو قادر أن يفعل ذلك، لما كان الإنسان مسؤولاً عن أفعاله، فيصبح على مثال ما نرمز إليه بالملائكة التي لا تقترف ذنباً، ولا تتحمل مسؤولية. ولكان حسابه في الآخرة أمراً يتناقض مع عدالة المبدأ الذي يقول: (من عمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، فإن الله إذا خلق الإنسان على أحسن تقويم، تكوينا مدرحياً أي أنه خلق جزءاً مادياً في الإنسان وجزءاً روحياً، ولكنه مجبر على أداء الفعل بإرادة مسيرة، فلا معنى لحسابه لأن ما يصدر عنه من أفعال خير أو أفعال شر ليس مسؤولاً عنها، بل المسؤول هو من خلقه على تلك الشاكلة. أي أنه المسؤول هو الذي أمر بالتكوين السليم، والتكوين العليل.
إن الإنسان، بما هو مخلوق. أي بما فيه من عوامل متناقضة، الصحة والمرض، الخير والشر، إنما يكمن سر الحياة. وإن خلق إمكانية ارتكاب العمل الصحيح والعمل الخاطئ، هو ذلك السر. ففي صراع المتناقضات تبدأ مسؤولية الإنسان. والإنسان إذا استطاع أن يحافظ على عوامل الصحة لأن الله خلق فيه هذه الإرادة، يكون كمن يقوم بالعمل الخيِّر، فيلقى جزاءه خيراً. وإذا تقاعس، أو عجز عن المحافظة على العوامل المرسومة لبقائه سليماً جسدياً وروحياً فيلقى جزاءه شراً.
ونتيجة لذلك، فإن مقياس الحساب عند الله هو العمل الذي يقوم به الإنسان. وأما العبادات والطقوس الدينية فقد انتشرت، لأنها كما يحسب رجال الدين مدعاة لرضى الله، وإنها طريق لخلاص الأنفس في الآخرة، فهي كما نعتقد ليست كذلك إذ أنها لا تستجلب رضى الله لأنه بغير حاجة لعبادة أحد أولاً. وإن ما يستجلب رضاه هو نتيجة أعمال الإنسان، وحرصه على تطبيق كل ما يعود عليه بالنفع وكذلك على كل من يحيط به من قريب أو من بعيد ثانياً، وما نفع العبادات إذا لم تقترن بالأفعال السليمة ثالثاً؟
فالعمل أولاً، وما يأتي خلافه إنما هو مكمِّل له ولكنه غير كافٍ. وعن ذلك، فقد أغرقت المؤسسات الدينية بني البشر بممارسة الطقوس والعبادات وكأنها شرط ضروري وكافٍ للحصول على مرضاة الله، أي أننا نعتقد بأن الإنسان لو أغرق نفسه بممارستها، ولم يقم بفعل واحد لتوفير ما يحافظ به على سلامة الخلايا التي وهبها الله له سليمة، وكذلك لم يقم بوظيفته التي تساعد الآخرين على تنفيذ هذا الواجب، فكأنه لم يفعل شيئاً، ولن تعود عليه عباداته بالنفع. ولكنه إذا مارس واجباته فقط بالعناية بنفسه وبسعادة البشر على الأرض، يُعتبر عند الله شرطاً ضرورياً وكافياً للحصول على رضاه. ولذلك على الإنسان تحصيل وسائل سعادته بمكافحة الآفات الجسدية، والآفات النفسروحية، أو المحافظة على سلامة ما وهبه الله للإنسان من تكوين جسدي وخلق نفسروحي، والقيام بأداء واجباته تجاه الآخرين، أي إتمام مهمته التي أوكلت إليه لمساعدة المجموعات البشرية.