تونس، العَشْرِيّة الضّائعة


الطاهر المعز
2021 / 8 / 7 - 23:49     

تونس انتخابات 2019، نهاية مسار ما بعد الإنتفاضة؟
05 آب/اغسطس 2021

ظروف انتخابات 2019
عاش التونسيون أربع مناسباتٍ انتخابيّة، بين 2011 و 2019: انتخاب أعضاء المجلس التأسيسيّ سنة 2011، والانتخابات البرلمانيّة والرئاسيّة سنة 2014، والانتخابات البلدية سنة 2018، والإنتخابات الرئاسية والبرلمانية سنة 2019، وتلت كلاًّ منها خيبة أمل شعبية من الأحزاب التي لا تهدف سوى الوصول إلى السلطة والبقاء بها، من خلال عَقْد توافقات مشبوهة بين قوى كانت متعارضة قبل الإنتخابات، لكن تجمعها المصالح ورغبة البقاء في الحكم، فتشكل ائتلافًا يُمكّنها من تقاسم الوظائف و"الغنائم"، أي ثروات البلاد.
تزامنت الانتخابات التشريعية (بين الدورَيْن الأول والثاني للانتخابات الرئاسية) مع الإعلان عن نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية، وتميزت بحملة باهتة، وأظهرت نتائج الدّور الأول للإنتخابات الرئاسية، في الخامس عشر من أيلول/سبتمبر 2019 انهيارًا غير متوقّع للأحزاب الحاكمة ولأحزاب المعارضة التي أُقْصِيتْ من الدّور الثاني للإنتخابات الرئاسية، وحصلت على عدد صغير من النيابات البرلمانية، حيث تَصَدّر الدور الأول المرشح المستقل، أستاذ القانون الدستوري، قيس سعيّد، الذي لم يحصل على تمويلات كبيرة، ولم يَظْهَرْ كثيرًا في وسائل الإعلام، ونافَسَهُ رجل الأعمال، نبيل القروي، مالك قناة تلفزيونية، ساعدته على تأسيس حزب "قلب تونس"، قبل بضعة أشهر من تاريخ الانتخابات، وكان القروي موقوفًا في السجن على ذمة التحقيق في قضية تهرّب ضريبي وغسيل أموال.
لم تتوقع الأحزاب ووسائل الإعلام تلك النتائج، فكانت صدمة عسيرة الإستيعاب، لذا لم يتردّد بعض الخائبين في وَصْمِ الناخبين، والشّعب التونسي، بالجهل والتخلف، لكن، بعيدًا عن رُدُود الفِعْل وعن السّطحِيّة، أظهرت هذه الإنتخابات، وكذلك استمرار حركة الإحتجاجات، بعد ثمانية سنوات، استنفاد مشروعية السلطة التي حكمت منذ 2011، وأدْرَك جيل ما بعد 2010، زَيْفَ وعود التنمية والتشغيل والعدالة والكرامة، فأصبح البعض مرتزقًا إرهابيا، فيما خاطَر البعض الآخر بحياته في البحر الأبيض المتوسط، هربًا من البطالة والفَقْر والتفاوت الطبقي، فَضْلاً عَمّن بقي يُصارع السُّلْطَة، وظُرُوف الحياة الصّعبة بالبلاد، وخصوصًا بالأحياء الشعبية بالمُدُن الكبرى، وبالمناطق الدّاخلية، البعيدة عن سواحل البحر، حيث انطلقت معظم الهبّات والإنتفاضات، منذ حوالي أربعة عُقُود (منذ "انتفاضة الخُبز" 1983/1984)، ولم تهدأ الحركة الإجتماعية، لكنها كانت مُشتّتة، تفتقد إلى البوصلة وإلى قيادة وطنية تُنَسِّقُ بين المناطق وتُبْرِزُ القواسم المُشتركة لهذه النّضالات...

مرحلة ما بعد الإنتفاضة:
عاد الدّستوريون (أنصار بورقيبة وبن علي) بسُرعة قياسية، بل لم يُغادروا السّلطة سنة 2011، إذْ تداول رجال ونساء النّظام السابق على السّلطة، من محمد الغنوشي (آخر وزير أول لبن علي) إلى فؤاد المبزع والباجي قائد السبسي، إلى ترشيح "عبد الكريم الزبيدي" للإنتخابات الرئاسية، سنة 2019، ومُزايدات إحدى مُحترفات التّهريج والبذاءة، لتُنافس الإخوان المسلمين في مجال الرجعية واليَمِينِيّة...
أظْهرت حقبة ما بعد 14 كانون الثاني 2011، لمن لم يكن على علم، أو من لم يكن يُصدّق، أن "النهضة" مُرتبطة بالولايات المتحدة (تنقل سفير الولايات المتحدة إلى سوسة لزيارة حمادي الجبالي، إثر خروجه من السجن، ومشاركة قيادات الإخوان – مع آخرين من مُدّعِي الإشتراكية- في احتفالات وسهرات ولقاءات تُنظّمها السفارة الأمريكية بتونس)، وبالحركة الصهيونية ( خطاب الغنوشي في معهد واشنطن، الذراع الإعلامية والفكرية ل"آيباك" أقوى لوبي صهيوني أمريكي)، وأن قيادات النهضة تحالفت مع أي حزب أو حركة أو مجموعة تسمح لها بالبقاء في السلطة، سواء من منظومة الحكم السابق ومن اللصوص والفاسدين...
لم تختلف ممارسة حزب الإخوان المسلمين عن مُمارسات "الحزب الدّستوري"، بل طَوّر الإخوان تقنيات الفساد المالي، وغسيل الأموال مشبوهة المَصادر، ودافع حزب "النّهضة" عن السياسات النيوليبرالية وعن خصخصة القطاع العام وعن إلغاء الدّعم، وغيرها من شُرُوط صندوق النّقد الدّولي، وعَقَدَ تحالفات انتهازية مع الدّستوريين ورجال الأعمال الفاسدين واللّصُوص، وقام بحماية مُتّهمين بالفساد، بل عقد معهم "مُصالحة"، تُعفيهم من المُحاسبة ومن العقاب، ومع ذلك بقيَ الإخوان المسلمون أقوى تَيّار سياسي مُنظّم بتونس، ومحور التّحالفات السياسية بالمجلس النيابي، رغم انخفاض شعبيتهم (في حال اعتمدنا نتائج الإنتخابات كمِقْياس)، وتراجع عدد الناخبين الذين اختاروا حزب "النهضة" من 1,5 مليون سنة 2011 (89 نائب بالمجلس التّأسيسي) إلى 900 ألف، سنة 2014 (69 نائب بالبرلمان) وإلى 561 ألف صوت، و52 نائب بالإنتخابات التّشريعية لسنة 2019.
انخفضت شعبية "النهضة" لدى الفئات الشعبية، وبالمناطق الفقيرة وهي الفئات والمناطق التي يُفْتَرَضُ أن تُمثّلَ أحزاب اليسار و"الجبهة الشعبية" مصالحها الآنية وطموحاتها المُستقبَلِيّة، ومع ذلك بقيت "النّهضة" تحكم البلاد وتنهب ثرواتها، وتمارس القَمع والإضطهاد، وتمكّنت من البقاء في الحكم بدعم خارجي من الإمبريالية الأمريكية والأوروبية وتركيا الأطلسية وقَطَر التي تفوح من "جزيرتها" رائحة الغاز، وساعدتها العوامل الدّاخلية، منها التحالفات الإنتهازية مع رجال الأعمال الفاسدين ومالكي وسائل الإعلام، وكذلك ضُعْف القوى التّقدّمية، وغياب البديل، واقتصار عمل "الجبهة الشعبية"، ومكوناتها السياسية على بث أوهام التّغْيِير بواسطة الإنتخابات، بدل التركيز على التعبئة حول المطالب الإقتصادية والإجتماعية، بهدف خلق ميزان قُوى في المصانع والمزارع وقطاعات الإنتاج والثقافة، وفي الساحات والأحياء الشعبية، وأدّت هذه التكتيكات الخاطئة والمُمِيتة إلى التّحالف مع شق من الدّستوريين (حزب الباجي قائد السّبسي) الذين حكموا البلاد من 1956 إلى 2010، مباشرة بعد اغتيال محمد البراهمي، وبعد ستة أشهر من اغتيال أحد مؤسسيها (شكري بلعيد)، وتورّطت بعض قيادات اليسار والجبهة الشعبية في مُهادنة القوى الإمبريالية، وتطوير العلاقات مع سُفراء الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، في خطوة خطيرة تُذكِّرُ بالإتلاف الإنتهازي "18 اكتوبر" (2005 ) مع الإخوان، بدعم أوروبي وأمريكي، وتورطت بعض قيادات الجبهة في قُبول الدّعم الإماراتي (مقابل الدّعم القَطَرِي للإخوان المسلمين)، والتّمويل الأوروبي من خلال بعض المنظمات "غير الحكومية"، ما عمّق التّصدُّع داخل الجبهة وإفلاسًا سياسيا وجماهيريا والإبتعاد النهائي للشق اليميني من القوميين العرب المُعادين للشيوعية، مثل "حركة الشّعب" (خلافًا لتيار الشهيد محمد البراهمي)، التي تميل قياداتها مع النّعماء حيث تميل، لكن قد يتعاطف بعض جمهورها (النقابي والثقافي) مع أُطروحات اليسار...
تميزت مرحلة ما بعد 2011 أيضًا بغسيل أو إعادة تدوير ( recycling ) نوع من الرأسماليين الفاسدين والمُطَبِّعين عَلَنًا، الذين اشتروا نوادي رياضية وهيمنوا على الإعلام وأسّسُوا أحزابًا، بدعم خارجي (امبريالي وصهيوني) مُباشر، وتكيَّفت قيادات الإخوان المسلمين مع الدّساترة ومع الفساد، بل طَوّرت آليات الفساد وسرقة المال العام والتّحايل والتّهرّب الضريبي، ورَهْن البلاد وثرواتها ومؤسساتها على الدّائنين والشركات العابرة للقارات، وجَمَعت بين التطبيع والفساد والنّهب، ودَعْم المُتَّهَمين بالفساد والتّهرب الضريبي وغسيل الأموال، والتحالف معهم لتشكيل ائتلافات برلمانية وحكومات متعاقبة، لا شأنَ لها بمشاغل الكادحين والفُقراء، بل فاقمت سياساتها الفَقْر والبطالة، في ظل غيبوبة اليسار، وغياب قُوّة أو حركة تدافع عن الفئات التي دعمت "قَيْس سعَيِّد"، ومجموعته (قوى تونس الحرة)، أملاً في وضع حد للتّهميش، أو التخفيف من الفقر...

العلاقات المشبوهة للإخوان المسلمين التونسيين
كشفت وثائق "ويكيليكس" بعض البيانات والمعلومات، بينها محتوى رسالة القائم بأعمال سفارة الولايات المتحدة بتونس (ديفيد بالارد) إلى حكومته، بتاريخ الثالث من أيلول/سبتمبر 2006، بشأن لقاء جمعه يوم 30 آب/أغسطس 2006، بحمادي الجبالي، أحد قادة الإخوان المسلمين، وكان في إقامة جبرية، بعد خروجه من السّجن في شباط/فبراير 2006، وتَمَّ اللقاء لأكثر من ساعَتَيْن بمنزل حمادي الجبالي، "الفَخْم" بسوسة، ولاحظ الدبلوماسي الأمريكي: "ذَكَرَ حمادي الجبالي أن الحكومة قد منعته من العمل أو السفر، وأن نفس القيود تنطبق على عائلته، لكن منزله في سوسة كبير جداً، ومؤثثاً ومزخرفاً بشكل جيد، كما لم يدخر أي حساب في ضيافته للسفير، في مأدبة متنوعة..."، بحسب تعبير الدّبلوماسي الأمريكي الذي لخّص طلبات النّهضة ضغطًا أمريكيًّا على النّظام التونسي بهدف السّماح لها بالنشاط العلني، وعدم نَقْد النهضة لسياسات الولايات المتحدة بالوطن العربي (فلسطين ولبنان والعراق...)، وحملت الرسالة السّرّيّة عنوان القيادي في النهضة حمادي الجبالي: الإسلام المعتدل هو المستقبل"، وذكر أن "النهضة" مُستعدّة للمُشاركة في السلطة مع الدّساترة وزعيمهم زين العابدين بن علي، على أن تدعم الولايات المتحدة نظامًا تعدّديًّا مثل تركيا، حيث يتنافس من يُسمّيه "الإسلام السياسي المعتدل" مع أحزاب "علمانية"، أخرى، وهو ما طبّقته "النهضة" بعد سنوات بتحالفها مع الدّساترة ورجال الأعمال (حزب الباجي قائد السّبْسِي وحزب نبيل القروي). أما بخصوص العلاقة بالإرهاب، وتفجيرات الفنادق سنة 1987، أكد الجبالي "إن الجناة كانوا بالفعل متعاطفين مع النهضة، لكنهم لم يكنوا على صلة بقيادة الحركة".
رَوى الدبلوماسي الأمريكي عن حمادي الجبالي إن تسعة من قادة "النهضة كتبوا رسالة إلى الرئيس زين العابدين بن علي، بتاريخ الثالث والعشرين من تموز/يوليو 2006، يبلغونه "استعداد النهضة لطيّ صفحة الماضي، وفتح حوار من أجل "إعادة إدماج النهضة في الحياة السياسية، لكنهم لم يتّصلوا بِرَدٍّ..."، وطلب من حكومة الولايات المتحدة التّدخّل، مع فرنسا، من أجل السماح للنهضة بالعمل السّياسي القانوني، لأن من مصلحة الولايات المتحدة التواصل مع مجموعات "الإسلام السياسي المعتدل"، لأنها "تُمثّل البديل الذي يضمن مصالح الولايات المتحدة والغرب"، واعتبر الدبلوماسي الأمريكي حركة الإخوان المسلمين بتونس (النّهضة) "صديقة للغرب وتتماشى أهدافها مع أهداف أجندتنا الخاصة بتونس، حيث تتخوف الحكومة من تأثيرات النجاحات السياسية التي حققتها حماس والإخوان المسلمون بمصر وتركيا، ومن تزايد وتَنَوّع أشكال الممارسة الدينية بين التونسيين، وزيادة حادة في عدد النساء اللائي يرتدين الحجاب..." وتوقّع الدبلوماسي الأمريكي أن مُشاركة "النهضة" (سنة 2006) في الانتخابات تُمكّنها من الحصول على نسبة تفوق 30% بسبب انخفاض شعبية النّظام القائم...
من جهة أخرى، أورَدَ موقع "ويكيليكس"، بنفس التاريخ، بيانات عن لقاءات بالسفارة الأمريكية بتونس، بطلب من قيادات "النّهضة"، نظّمها رئيس "مركز الإسلام والديمقراطية" ( رضوان المصمودي) يوم 21 آب/أغسطس 2006، ومن بين المُشاركين: صلاح الدين الجورشي، الذي يدّعي أنه غادر إخوانه، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبقي يُدافع عنهم بشراسة، والأمين العام لحركة النهضة حمادي الجبالي (الذي يقول أنه ممنوع من السّفر خارج ولاية/محافظة سُوسة) وسعيدة العكرمي، زوجة القيادي نور الدين البحيري، وزياد الدولاتي، وطلبوا دَعْمَ الحكومة الأمريكية، أما رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، المقيم بلندن آنذاك، فقد اتصل بعدّة منظّمات ولوبيات صهيونية بالولايات المتّحدة الأمريكية، وساعدته في تعزيز العلاقات بين قيادات النهضة وسفارة الولايات المتحدة بتونس...
بعد انتفاضة 2010/2011، تعدّدت زيارات قيادات "النهضة"، وخاصّة راشد الغنوشي لعدّة منظمات أمريكية وصهيونية، بداية من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011، ومنها اللقاء الشهير ب"معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" (30/11/2011)، الذي أسسته مجموعة "آيباك" (الأمريكية)، وهي أقوى مجموعة ضغط صهيونية بالعالم، ومعهد "صابان" و"المجلس الإستشاري للعلاقات الخارجية" و"شاتهام هاوس" و"فورين بوليسي"، وغيرها، وكرّمت صحيفة "تايم" الأمريكية راشد الغنوشي، وصنفته من ضمن مائة شخصية الأكثر تأثيرًا في العالم، سنة 2012، وتُعتبر جميع المنظمات الأمريكية المَذْكورة (وأخرى لم يقع ذكرها) صهيونية، تخدم "أجندات صهيونية وأمريكية"، وناقش راشد الغنوشي معها "مستقبل الديمقراطية في تونس"، ومنحت منظمتا "شاتهام هاوس" و"مجلس العلاقات الخارجية" راشد الغنوشي ومنصف المرزوقي جائزتهما يوم 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2012، وعلّق أحد الحاضرين الأمريكيين (لم تذكر وكالة أسوشيتد برس وصحيفة واشنطن بوست إسمَهُ): "لولا الدعم الأمريكي-الإسرائيلي لحركة النّهضة لما وصلت للحكم ولما حصلت على ذلك العدد من الأصوات... (وثَمَّنَ) عدم التنصيص على تجريم التطبيع بمشروع الدستور (كما لاحظ الجميع) العناق الحار بين السيناتور الأمريكي جون ماكين وحمادي الجبالي..."

إفلاس أطروحات التّغيير عبر الإنتخابات؟
تمكّنت القوى المُعادية للثورة (الثورة المُضادّة )، والدّاعية للمحافظة على الإستغلال الطبقي والإضطهاد، من تحويل شعار انتفاضة 2010/2011 "الشعب يريد إسقاط النظام" وشعار "شُغْل حُرِّيّة وكرامة" إلى شعارات سياسية فضفاضة ومناقضة لمطالب الفُقراء والكادحين والمُعطّلين عن العمل، من قبيل "المُصالحة الوطنية" (مع اللّصوص والفاسدين والجَلاّدين)، و"الانتقال الديمقراطي السّلِس"، وضرورة "التوافق السياسي"، من أجل "المَصْلَحَة العُليا للوطن"، وشاركت قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد نقابات الأُجَراء) بحماسة كبيرة في تحويل وِجْهَة مطالب جمهوره (الطبقة العاملة)، من تحسين الرواتب وظروف العمل وظروف عيش الأُجَراء والفُقراء، إلى الوفاق الطّبقي، وتوسيع رُقعة أعداء العُمّال والأُجراء والفُقراء، من خلال دعم وتعزيز التحالف بين الإخوان المسلمين والدّساترة ورجال الأعمال الفاسدين، بدعم من الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو ما ظَهَرَ للعَلَن، في مرحلة ما بعد الإنتفاضة، منذ 2013...
يُقدّم الإعلام السّائد ما حَصَل بتونس، منذ 2011، بمثابة التجربة الرّائدة والنّاجحة للتّحوّل الديمقراطي، وللإنتقال من الحكم الدكتاتوري إلى أسلوب الحكم الديمقراطي، الذي يعتمد على الإنتخابات الدّورية...
تعدّدت محطات الإذاعة والتّلفزيون والمواقع الإلكترونية وتعدّدت الأحزاب والجمعيات، وأصبحت الإنتخابات دَوْرِية، وهي مكاسب تحققت بفضل الإنتفاضة، لكن لم يستفد ذَوُو الشهداء ولا المُصابون ولا مُطْلِقو الإنتفاضة من الكادحين والفُقراء ومن سُكّان النصف الغربي للبلاد، ولا المناضلين الذي اعتُقِلوا وسُجنوا وشُرِّدوا، طيلة عُقود، من هذه "التّخمة الديمقراطية"، باستثناء قيادات الإخوان المسلمين، وبعض من تَنَكَّروا لقناعاتهم السابقة ("قَلبوا الفِيسْتَة"، بالتّعبير التونسي)، الذين اغتنموا الفُرصة للحصول على تعويضات مالية ومكاسب أخرى سياسية ومادّية.
أظْهَرت التّجربة التّونسية صِحّة ما أعلنه الثّوريون في العالم، منذ ثورات القرن التاسع عشر بأوروبا، فمن يمتلك المال يتحكّم بوسائل الإعلام، ويتحكّم بتوجيه الناخبين عبر تكثيف الدّعاية ونَشْر الوُعود، فيما تقْمَع أجهزة الدّولة، وبالأخص الجيش والشرطة والقضاء، أي تعبيرة سياسية تخرج عن "الوفاق الديمقراطي" أو ما يُسمّى "العقد الإجتماعي" المُوقّع بين فئات تتفق على تقاسم المناصب والثروات، مع إقْصاء مُنتِجِي الثروة، والفُقراء، كما أظْهَرت تجربة التّونسيين أن شكل "الديمقراطية النّيابية" لا يستجيب لطموحات الأغلبية التي انخرطت في الإنتفاضة، بل ازداد وضْعُ هذه الأغلبية سوءًا إِثْرَ كل دورة انتخابية، وللتّوضيح فإن ذلك لا يعني أن "الديمقراطية النيابية شَرٌّ مُطلَق"، ولكن يعني بكل بساطة أنها ليست الشكل المناسب، أو الوحيد، لحصول الكادحين والفُقراء على نصيبهم من الثروة وعلى حقهم في التعليم والصحة والسكن والنّقل والترفيه، ولا يضمن نظام التمثيل النيابي المساواة في الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والسياسية، ولا تنمية المناطق المحرومة، أو أيّا من الحُقوق الأساسية الأخرى للمواطنات والمواطنين، ولم تُحصِّن الديمقراطيةُ النّيابيةُ البلاد والعباد من ارتفاع الدّيون الخارجية (التي يُسدّدها المواطن) ومن تخريب القطاعات الإقتصادية المُنتِجة، واستحواذ قيادات الإخوان المسلمين على جزء هام من الثروة التي خَلَقَها الكادحون، أي قرابة 1,1 مليار دولارا، بعنوان التعويض على ما فات، ويُروّجون لدى الفُقراء الذين يؤُمّون المساجد الآيات القرآنية والمقولات والأحاديث الدّاعية إلى القناعة والتّقشف ومساعدة الفقراء (وليس القضاء على الفقر) وهي مقولات ينشُرونها بين البُسطاء، ولا يُطبّقونها، فيما يُوزّعون بعض الرشاوى، خلال الحملات الإنتخابية، أو عندما يريد قادة الإخوان استعراض قُوّتهم في الشارع...
مكّنت الإنتفاضة من توسيع دائرة السلطة السياسية والإقتصادية والإعلامية، لتشمل الإخوان المسلمين (برجوازية المُضاربة والتجارة، وبعض شرائح البرجوازية الصغيرة) وتعزّزت سيطرة الدّائنين على البلاد، بعد كل دوْرة انتخابية، ليزداد نُفوذ صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي (والقوى التي أسّسَتْهُما وتقف وراءهما)، عبر الشّروط والخيارات الإقتصادية والمالية التي يفرضانها، بسبب ارتفاع حجم الدُّيُون الخارجية، لتزيد معها تبعيّة البلاد لرأس المال العالمي، بإشراف حكومة انبثقت عن انتخابات نيابية ديمقراطية، لم ينتخبها الشعب لتصل الدولة إلى حالة العجز المالي، ولكنه لا يستطيع مُحاسبتها أو خَلْعها، قبل موعد الإنتخابات القادمة، إلاّ إذا خلقت القوى التقدّمية ميزان قوى (خارج البرلمان) يُجْبِر الإخوان المسلمين وحلفائهم على التّنحِّي قبل مُحاسبتهم واسترجاع الأموال والثروات المنهوبة...
لا تُشكّل حركة "قيس سعيد" اعتراضًا على النّظام كَكُلّ وعلى الإئتلاف الطّبَقِي الحاكم، بل على بعض مظاهر الفساد والإنتهازية، فهو يرمي إلى إصلاح بعض "الإعوجاج" في منظومة لم يمْنَعُهُ فسادها ومساوئها من الفوز بأغلبية عريضة في انتخابات ديمقراطية، لم تتوفر بها بدائل تُعبّرُ عن طموحات جماهير الفُقراء الذين أطلقوا الإنتفاضة من سيدي بوزيد وقفصة والقصرين، ثم من الأحياء الشّعبية للمُدُن.
يمكن للنضالات الإجتماعية المُتنوّعة والمتواصلة ان تُؤَدِّيَ إلى انتفاضة جديدة، لكن ما هي آفاقها واحتمالات تحويلها إلى ثورة ظافِرَة؟
طالما لا توجد قُوّة مادّية ظاهرة وفاعلة، في مواقع الإنتاج ومواقع السّكن وفي الفضاء العام، لا تنتظر شخصًا استثنائيًّا "مُخَلِّصًا"، ولا تَطْلُبُ أو تُطالب، بل تَفْرِضُ ديمقراطيتها التّشاوُرِية القاعدية (الأُفُقِيّة) ومَصالحها، ضمن بديل سياسي، وعبر عِصْيان جماعي، ومُصادرة الممتلكات والثروات المتأتّية من الفساد ومن الولاء للسّلطة، لاستثمارها في مشاريع جماعية مُنتجة ومُستوعبة للقوة العاملة، لا يُمْكن أن تُفْرِزَ الإنتفاضات العفوية، والتي تفتقر إلى بَوْصَلَة وإلى قيادة جماعية، سوى بدائل شَكْلِيّة تُعيد إنتاج منظومة السّلطة وممارسات الإستغلال والإضطهاد، تحت مُسَمّيات مُخْتَلِفَة، تقودُها نفس الطّبقات التي تُعيد أيْضًا إنتاج التّبَعِيّة تجاه الرأسمالية العالمية (الإمبريالية)، وقد تُدْمِجُ في جهاز الحكم، بعض الفئات الطّامحة والمُستعدّة للمُحافظة على امتيازات الأثرياء واللُّصُوص، ومُسعدّة لخدمة الشركات العابرة للقارات، وهو ما فعلتْهُ قيادات الإخوان المسلمين...

خاتمة:
جَمَع قيس سعيد والمُستشارون المُحيطون به، حولهم، طيفًا واسعًا مِمّن ضاقوا ذَرْعًا بالفاسدين واللُّصُوص الذين نَصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الله وباسم رأس المال المحلّي والخارجي، وخرج المُستبْشرون بالآلاف لِدَعم الرئيس، الذي لم يُقدّم أي بديل عملي أو أي حُلُول للبطالة والفَقْر، بل إجْهَاضًا لمسار ثوري جنيني عفوي، ولموجة الإحتجاجات الشعبية المُتواصلة، والتي تجسّدت يوم 25 تموز/يوليو 2021 في اقتحام المحتجين مقرّات حركة النهضة وإحراقها في العديد من مناطق البلاد، ورفع مطلب "رفض التعويضات"، وحل المجلس النيابي...
لقد أدّى تدهور الوضع الإقتصادي خلال عشر سنوات، وتقهقر نسبة النّمو إلى – 8,2% (سالبة) سنة 2020، وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية عدّة مرات، كان آخرها خفض أو إلغاء دعم بعض السلع، كمياه الشُّرب والسّكّر، في حزيران 2021، وارتفاع العجز التجاري، وارتفاع نسبة البطالة الرسمية (وهي دون الواقع) من 14% بنهاية سنة 2010 إلى 18% سنة 2020، وارتفاع نسبة الفَقْر من 12% سنة 2010 إلى 16,2% سنة 2020، إلى ارتفاع حِدّة الغضب الشّعبي، وزادات جائحة كورونا الوضع تأزّمًا، لم تولِهِ الحكومة اهتمامًا، بل اهتم وزراء وقادة الإخوان المسلمين بالمطالبة بأكثر من مليار دولار، بعنوان "تعويض عن الحرمان" خلال فترة 1990- 2010، ما رفع حالات الوفاة بفيروس "كوفيد 19" إلى حوالي عشرين ألف، مع انقطاع الأوكسجين عن المُستشفيات العمومية، فكان من الطبيعي أن ينْقَم المواطنون على الحزب الحاكم، وعلى البرلمانيّين الذين حَوّلوا المجلس النيابي إلى سِرْك، وحلبة تَهْرِيج، وأن يُهلّلوا لقيس سعيّد، رغم ابتعاده عن مطالب الإنتفاضة (شغل وحرية وكرامة وطنية)، ورغم تفاديه الحديث عن بديل اقتصادي، أو حتى الحديث عن الحُقُوق الإقتصادية والإجتماعية، مُكتفِيًا بشعارات مكافحة الفساد، وهو مطلب شعبي، لكنه لا يكفي...
إن عملية احتكار السلطة بذريعة "إنقاذ البلاد" ليست مُطَمْئِنَة، وقد تُبَرّرُ التّعبير عن قلق قادة الأحزاب والحقوقيين والمواطنين عمومًا، لكن السؤال الأهم يتعلّق بالبرنامج المُستقبلي، في ظل انهيار الإقتصاد ومنظومة الصّحة وارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية، وازدياد نسبة الفقر والبطالة، وارتفاع حجم الدّيون الخارجية ونسبتها من الناتج المحلي الإجمالي، ومن ميزانية الدّولة...
يُشكّل إقرار حالة الطوارئ خطرًا على حرية الرأي والتعبير بأشكالها، ولكنها ليست أكثر خطرًا من وباء "كوفيد 19"، ومن الفقر، فأي حرية أو ديمقراطية يُمكن أن "يتمتع" بها الفقير والجائع والمُشَرّد، لذا لا يُمْكن الفَصْل بين الحريات السياسية والأمن الإقتصادي والإجتماعي.
عَبَّر أنصار الإخوان المسلمين (بمختلف أصنافهم) وكذلك الناطقون باسم بعض المنظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" ومنظمة "العفو الدولية"، عن القلق بشأن اعتقال نُواب بالبرلمان الذي تم تجميد أعماله، كما "حَثّ" ناطق باسم حكومة الولايات المتحدة على "استئناف الحياة الديمقراطية بسرعة"...
لا يُعَدُّ اعتقال النواب الذين رُفِعَت عنهم الحصانة، وحاول القضاء متابعتهم في السابق، أكثر أهمّية من قَمع المُحتجِّين واعتقالهم وتعذيبهم حتى الموت، وما تمكّن هؤلاء النّوّاب من تأسيس أحزاب والمشاركة في انتخابات تعدُّدِيّة لولا تضحيات الشّهداء والمُصابين والمُعتقلين، منذ عُقود، وخُصوصًا شهداء وجَرْحى انتفاضة 2010/2011...
أظهرت هذه الأحداث الأخيرة مدى الدعم الخارجي للإخوان المسلمين، وبعض الضغوطات لإنقاذ الإسلام السياسي "المُعتدل"، بذريعة الدّفاع عن الدّيمقراطية، ويتجاهل الضّاغطون ما نَشَرَه حُكم الإخوان المسلمين من ظُلم وقمع واغتيالات سياسية وإرهاب وفساد واختلاسات للمال العام...
إنّني اخترتُ صَفِّي، صف الكادحين والفُقراء، فلن أُدافع عن أي لص أو فاسد، بل أدافع عن حقّه في إثبات براءته إن كان بريئًا، وأُؤيّد المحامين التّقدّميّين الذين تَولُّوا الدّفاع عن المُتّهمين المُختلِفِين معهم في الرّأي، وأُفضِّلُ أن أُكرِّسَ جُهودي للدفاع عن كرامة الفقير والكادح والأجير والمُعَطّل عن العَمل، وعن ضرورة مُحاسبة ومحاكمة من قَتَل ومن جَرَح ومن اعتقَلَ وعَذّب الفُقراء والنقابيين والصحافيين والمُعطّلين عن العمل، وغيرهم، لأنهم طالبوا بحقوقهم، ومحاكمة من اعتبر السلطة "غنيمة" يقتسمها مع عشيرته وقبيلته السياسية، فَبَرَّرَ السّطو على ممتلكات الشعب...
تتمثل الديمقراطية الحقيقية في مُشاركة جميع المواطنين في تقرير مصير البلاد، وإقرار شكل وجوهر مُؤسساتها السياسية والإقتصادية، وإقرار الأولويات، وهذا يُناقض شكل التّمثيل المسرحي الرديء الذي يُؤدّيه عدد هام من نواب الإخوان المسلمين والدّساترة، في مقر مجلس النواب...