العيش مع المواقف العنصرية (1)


عذري مازغ
2021 / 8 / 6 - 20:42     

البداية من مدينة ميخاس، كانت ميخاس أول نزول لي بإسبانيا، أقصد أول محطة بعد خروجي من البحر ونومي في الجبال يومين تخفيا من هواجس صدف إعادتي إلى المغرب ، كنت نازلا عبر طريق طويل من جبل لا أتذكر اسمه حتى الآن برغم أني انوي ان أستكشف المنطقة مرة أخرى لا ستعادة تلك الذكريات، ذكريات النزول من "الباتيرا" في شاطيء "ماربييا" ومررت بمدينة فوينخيرولا، كان صعبا حتى تهجيها بلغتي الفرنسية، قرأته في البداية "فونجيرولا" لكنها لم تستقم في نطقي، إلا أن عرفت نطقه بعد مرور سنة لتواجد شوارع بمدن أخرى تحمل هذا الإسم، لم أشرب الماء منذ يومين تقريبا عندما كنت في الجبل، ولتخفيف حدة العطش فكرت أن اغطس نفسي في البحر، فكرت أنه يجب أن ابدو كسائح وليس كمهاجر سري حينما رأيت الشاطئ ، في الشاطيء كان المتبحرون قليلون وبعضهم يملك سحنات قريبة منا، اعتقدت في البداية انهم مغاربة ولكن لما حدثتهم لم يفهموني، وحتى عندما كلمتهم بالفرنسية، كان لديهم الماء، لكن لم أعرف كيف اطلبه، أشرت إلى قنينة الماء فتجاهلوني تماما (عرفت فيما بعد أنهم من غجر الأندلس)، غطست في البحر حتى شعرت بأن حدة العطش خفت ولما خرجت مستلقيا على الرمل في انتظار الليل كي أتمم رحلتي مشيا، حدث لي شيء لم أحسبه، كوني جسمي جاف من الماء مع تعرضي لأشعة الشمس أحدث لي حروقا جلدية على مستوى وجهي، اكتشفت ذلك فيما بعد، كانت فكرتي أن اكون ليليا حتى لا تصادفني دوريات الأمن وتعيدني إلى المغرب وكانت أيضا أن امضي مشيا حتى بلاد الأمان التي يقول عنها المهاجرون باننا إذا وصلنا إليها سنفلت من هواجس الطرد إلى البلد الأصلي، كانت هذه البلاد هي بلاد ألميريا التي في هذه اللحظة بالذات تعرف اضطرابات عارمة بين السكان المحليين والمهاجرين المغاربة بالخصوص حيث الأخبار تتكلم عن توغل وحش العنصرية فيها.في فوينخيرولا، لا زالت إحدى السيارات المدنية تتبعني كما لو اني شخص مهم، اعتقدت في البداية انهم من الأمن السري الإسباني، لكن فيما بعد استدركت انها نفس السيارة التي كانت تنتظر نزولنا في شاطئ "ماربييا" والتي تسللت حين رأيتها للتخفي داخل الأعشاب الكثيفة اعتقادا مني حينها أيضا أنهم رجال أمن ، فيما بعد ساعرف أنهم هم من نظموا رحلتنا البحرية وانهم يبحثون علي اعتقادا منهم ان حقيبتي الظهرية مليئة بالحشيش المغربي بينما الحقيقة ان الأمر، أقصد أصحاب الحقائب، هم من المهاجرون الذين فشلوا في العبور الاول وسمح لهم بالعبور الثاني من طرف نفس المهربين مجانا بشرط حمل حقيبة حشيش، نعم قبل عبورنا كان المهربون يحمسوننا للعبور معهم من خلال وصف "مزايا شركتهم": "ستدفع كذا في العبور الأول، وإذا فشل لأسباب أمنية او بحرية، لك فرصة أخرى وثالثة للعبور مجانا" في البداية يقولون لك هذا، وحين يفشل عبورك يقولون لك: نعم، سنعيدك مرة اخرى مجانا لكن بشرط" والشرط هذا هو حمل حقيبة من كيلوغرامات حشيش لهم.
خلق لي تعقب هذه السيارة لي مشكلة نفسية، قوت هواجسي في فشل العبور، عندما توقفوا بالسيارة وهم في طريق سيار يتعقبوني خفت، قطعت قنطرة الطريق السيار وهي للراجلين فقط، فاأخفيت نفسي في أقرب تكتل عشبي مرة أخرى، ومكثت مخفيا فيه حتى حل الظلام. ولما بدأت أخرج من "أفراس" (اقصد التكتل العشبي ذاك، يسمى أفراس بلغتي الام وهو اكثر تعبير وبلاغة من قول تكتل عشبي) ظهرت امراة فجاة تشهر سلاحها الكروموجيني في وجهي، قلت لها باللغة الفرنسية: سلاماتك، لست وحشا يغتصب النساء، انا مهاجر سري ! تركتني وذهبت ولا اعرف هل فهمت ما قلته لها ام لا واعتقد أن الفرنسية وإن كانت تحمل نطقا مختلفا عن الإسبانية فتشابه الكلمات والمعنى سيوصل لها رسالتي والدليل على ذلك انها كانت تمشي دون ان تتلفت وراءها لترى أني أتبعها.
نمت الليل كله في جبل "فوينخيرولا" (عبارة عن مرتفع، جبل صغير مليء بالنباتات الصحراوية كالشيح) في الصباح نزلت منه متوجها إلى السفح ومتجنبا أن أدخل مركز المدينة، مدينة "فوينخيرولا"،في طريقي مررت بحقل فيه شخص يصنع اواني خزفية، لا زلت عطشانا بعد، كلمته بالفرنسية طالبا الماء ، لم يفهم فأفتعلت إشارات العطش فهم منها اني جائع: قال لي شيئا من قبيل أن ليس لديه اكل فمنحني قطعة نقدية بقيمة 500 بسيطة (العملة السابقة في إسبانيا قبل دخول اليورو) مع كلمات فهمت منها ان مغاربة يعملون في مقهى معين أشار إليه بأصبعه: قلت له لا أريد المال أريد الماء، لم يفهم فأشرت إلى حيث الماء مباشرة فناولني قدحه الخزفي دون تردد، حاول أن يلقنني اول درس في اللغة الأنلدسية: هذا يسمى Agua (يقصد الماء)، أعدت إليه القطعة النقدية فرفضها وهو في نفس الوقت يحاول ان يشرح لي قيمتها الغذائية ، فهمت من إشارته انها تساوي فطور شخصين كما فهمت ان بالمقهى يوجد مغاربة يمكنهم مساعدتي.
كان المقهى او بالأحرى المطعم ريفيا، أي انه مقهى عشاق الريف، لكن في الحقيقة لم يكن الامر كذلك، هو مطعم خاص تابع لمركب قروي لعشاق ركوب الخيل وركوب العربات التي يجرها الخيل، العربات التقليدية، عربات النبلاء، كانو يسمونه محليا بالكوادرا (وأعتقد جازما أنها الكلمة التي نزلت منها كلمة "الكوري" في المغرب، أي المكان الذي نؤوى إليه البهائم. كان المكان عبارة عن مطعم للسواح عشاق الريف النبيل، عربات من القرن 19، خيول للكراء واخرى لجر العربات ومستودع كبير للعلف ومستوع من ادوات لتزيين الخيول والعربات..
في المقهى تقدمت إلي نادلة طويلة اسمها "آنا" وكلمتني بالفرنسية، كانت مصحوبة بالصانع الخزفي، او قل هو من اخبرها بمشكلتي، وفيما نحن نتكلم جاء المغربي وهو ريفي سحنته تشبه سحنة الأندلسيين: "لم اكن اعرف أنه مغربي إلا حين كلمني"، ريفي "روبيو"، ريفي أشقر الشعر، قالت لي آنا بعد ان تفهمت اني مهاجر جديد بانها ستساعدني على إيجاد عمل، كانت تعرف شخصا آخر له نفس "الكوادرا" ويحتاج لعمال علف البهائم والإعتناء بها، تركت لدي انطباع عام كان عندي في المغرب هو ان هؤلاء، سكان اوربا، يهتمون كثيرا بتشغيل الناس عكس بلداننا المليئة بالبطالة. لكن هذا التصور انطفأ بعد مرور اسبوع. اخبرتني آنا بأني سأعمل معهم وهذا ما حصل بالفعل.. بعد مرور أسبوع وانا لم اتصل بعد بأهلي بالمغرب لأخبرهم بسلامتي من العبور (أقد عبور البحر) طلبت من مشغلي بعض المال لكي اتصل على الأقل بأهلي فتماطل علي: في ذلك المساء، في المطعم، تقرب إلي شخص إسباني يتكلم الفرنسية، قال لي بأنه يعشق المغرب وقد زار فيه عدة مناطق وكلمني كثيرا عن طنجة وتطوان والناظور، ورغم أن مستوى النقاش كان سياحيا أكثر، نقاش لا يعجبني شخصيا إلا أني سررت بلقاء شخص يفهم اللغة الفرنسية وأفهمها، حدثته عن مشكلتي مع صاحب "الكوادرا" الذي لم يؤدي لي أي اجر بعد مرور أسبوع في الوقت الذي ادى أجور اصدقائي المغاربة، أخبرني بأنه يستطيع مساعدتي لكن رفضت مساعدته في الوقت الذي كان المغربي الأشقر يلح علي سريا أن أقبل مساعدته، اخبرت الإسباني بأن لدي نقوذ مغربية تكفيني إذا وجدت صرفها، قال لي بان النقوذ المغربية لا تصرف في إسبانيا ولكن يستطيع هو إعطاء مقابلها لي بالبسيطة الإسبانية، تذكرت درسا في الجغرافية أو في التاريخ، لا ادري، يقول بان الدرهم المغربي أعلى قيمة من البسيطة الإسبانية زمن فرانكو، فكيف تغير الأمر بين عشية وضحاها، كيف أصبح النقد المغربي لا شيء في إسبانيا ؟ لا يصلح حتى للصرف لكن فهمت ان الناس العاديين يعرفون قيمة النقد، ليس من خلال السياسة الدولية بل من خلال المعاملات الإنسانية .
قبلت تصريف الدرهم من الإسباني العاشق لمدينة طنجة وتطوان، أخذت من البسيطة مقابل نقودي المغربية منه فبدأت تظهر امور اخرى تمسني في شخصي، كان الإسباني لصيقا بي لدرجة لا تطاق، ومرات كان يعصر ركبتي بين ركبتيه كأني شخص حميمي له، شعرت بانه يتعامل معي كما لو أني انثى، ولما ضاق بي الأمر وصعقت في وجه قال لي بانه هو الأنثى وليس أنا، نظرت غليه مليا فقلت له انا فيميني (كنت اقصد أني احب النساء وليس الرجال او المثليين) رد علي بأنه فيميني هو الآخر، وطبعا لم أفهم معنى الفيمينية إلا بعد مرور عشر سنوات.
همس في أذني الأشقر المغربي: "اقضيتي غرضك، صافي انسحب ويعاود لكرو، مادار فيك خير مادرتيهش فيه تبادلتي معاه النقد بالنق" (قضيت غرضك، انسحب الآن واتركه يحكي لمؤخرته، ليس ما فعله خير او فضل انت بادلته نقدا بنقد)، فعلت بنصيحة الأشقر، ودعت صديقي المثلي وذهبت للنوم، في الصباح جاء صاحب "الكوادرا" ليخبرني بان عملي انتهى معه، منحني أجرا هو نصف اجور المغربيين اللذان يعملان معي، اخبرني الأثقر الريفي بانه غشني وأنه كان يريد أن تعمل عنده مجانا مقابل الأكل والشرب، ولاني جديد اقترح انه من المستحسن الذهاب دون خلق مشاكل، بحثت عن "آنا" فقيل لي بانها غادرت العمل لأنها لم تكن تتفق مع المشغل في منحي نصف اجرة عملي، شعرت بالإمتعاض لانها هي من توسط لي ان اعمل عنده ولم يعد لديها وجه تقابلني به.
حتى الآن لم أقيم هذه الحادثة على أنها عنصرية، بثقافتي المغربية اعتبرتها استغلال لوضع مهاجرسري، وبنفس المنطق، حتى الآن اجور مزارعي ألميريا من المهاجرين أدنى من الأجر القانوني ولا يستوعب هذا في وعي المهاجرين كونه اجر عنصري بل أجر استغلالي. والمسالة طبيعية في المغرب: في محطات السفر، مقاهي الراحة والتغذية في السفر والتي تقف عندها حافلات نقل المسافرين، يتغذى "الشيفور" (سائق شاحنة النقل) و"الجريسون" (مساعد السائق) مجانا في هذه المحطات بينما المسافرون يدفعون قيما لمواد غذائية هي اكثر بكثير من قيمها الحقيقية ويعتبرون ذلك استغلال لظروف السفر بينما "آنا" المراة الطويلة التي قابلتها بمقاطعة ميخاس انسحبت من العمل لأنها اعتبرت الأمر عنصرية.
عملت في "كوادرا" أخرى باقتراح من صديقي الريفي الأشقر، نفس الكوادرا التي وعدتني بها "آنا"، كانت أجورها للعاملين أقل، لكن كانت اكثر من نصف أجرة التي عملت بها عند مشغلي الأول ولم يكن بيني وبين العمال الآخرين أي تمييز، عملت بها إلى ان أصابني حصان بركلة طائشة، والحقيقة لم يكن يقصدني الحصان، عضة من ذبابة حركة تلقائيا ساقه ليصيبني بركلة اقعدتني عن العمل، حينها فكرت ان أخرج من مثلث هواجس الرجوع إلى المغرب والإلتحاق ببر الامان "ألميريا".