الامبريالية والصراع الطبقي (5)


عبد السلام أديب
2021 / 8 / 4 - 09:12     

1 – في كتابه نقد الاقتصاد السياسي لسنة 1859، يخضع كارل ماركس المادية التاريخية لنمط الإنتاج الرأسمالي للسيرورة التالية: "فعندما تصل قوى المجتمع الإنتاجية المادية إلى درجة معينة من تطورها تدخل في صراع مع علاقات الإنتاج القائمة أو بالتعبير القانوني مع علاقات الملكية التي كانت تعمل في ظلها حتى ذلك الوقت. وتتغير هذه العلاقات التي هي قيد على الأشكال التطورية من القوى الإنتاجية. وفي هذه اللحظة تحل حقبة من الثورة الاجتماعية ... نستطيع أن نعتبر أساليب الإنتاج الأسيوية والقديمة والإقطاعية وفي المجتمع البورجوازي الحديث كأنها حقب متدرجة في التكوين الاقتصادي للمجتمع. وتشكل علاقات الإنتاج البورجوازية الشكل المتناقض الأخير من عملية الإنتاج الاجتماعي. ولكن التناقض ليس فرديا، ولكنه ينبعث من العلاقات الاجتماعية التي يعيش فيها الأفراد. أو أن القوی الإنتاجية التي تنشأ في أحشاء المجتمع البورجوازي تخلق في الوقت نفسه العلاقات المادية التي تسمح بفض هذا التناقض، ومن ثم فبهذا التكوين الاجتماعي ينتهي عصر ما قبل التاريخ للمجتمع البشري".

2 – تفيدنا الدراسات المادية التاريخية لكارل ماركس حول سيرورة نمط الإنتاج الرأسمالي من مرحلة هيمنته الشكلية على العمل حينما كان يتواجد الى جانب أنماط إنتاجية سابقة وحيث كان من المفروض عليه موضوعيا ان ينسق قواه الإنتاجية معها، الى انتقاله منذ بداية القرن العشرين نحو مرحله هيمنته المطلقة على العمل حينما اصبح نمطا انتاجيا عالميا مطلقا من خلال توسعه وسيطرته الامبريالية على مختلف شعوب الأرض جاعلا منها صورة طبق الأصل لاسلوبه الإنتاجي. في ظل هذه المرحلة الأخيرة يجب تفكيك آليات ما أصبح يسمى بالامبريالية الجديدة وأسلوب استغلالها واضطهادها للجيش الاحتياطي العالمي للعمل خاصة بروليتاريا بلدان الجنوب، وابواب الصراع الطبقي التي انفتحت على مصراعيها في اتجاه ازمة ثورية عالمية للانتقال نحو المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات وأليات الهيمنة والاستغلال والعمل المأجور.

3 - عرفت السياسات الامبريالية نقلة نوعية خلال عقدي الخمسينات والستينات بالتزامن مع موجة الاستقلالات الطارئة عقب الحرب العالمية الثانية، حيث تظافرت عدة عوامل لحدوث هذا التحول. فالثورة البولشفية لأكتوبر 1917 وما نتج عنها من انتشار الفكر الثوري وسط الجماهير الشعبية سواء في البلدان المتقدمة أو في البلدان الخاضعة للاستعمار والتي ولدت حركات ثورية ومنظمات للتحرر الوطني، جعلت آليات الاستعمار العسكري المباشر جد مكلفة للرأسمال الامبريالي، من هنا بدأ رسم استراتيجية النظام الامبريالي العالمي الجديد.

4 – فبالموازاة مع توالي عقود الاستقلالات الفعلية أو الشكلية وترسيخ روابط التبعية التي تواصلت بين الدول المستقلة حديثا والمتربول الاستعماري السابق (ما يسمى بالاستعمار الجديد)، بدأ يحدث تحول هائل في الاقتصاد الرأسمالي في اتجاه عولمة الإنتاج. وحيث أصبح جزء كبير من الزيادة في التصنيع وحتى في إنتاج الخدمات التي كان من الممكن أن تحدث في الشمال العالمي وكذلك جزء من الإنتاج الموجود مسبقًا في الشمال بدأ يتم نقلها إلى الخارج إلى الجنوب العالمي، حيث أصبح التصنيع السريع يغذي حفنة من الاقتصادات الناشئة.

5 – وتشكل مقولة روبرت ماكنامارا رئيس البنك الدولي سنة 1974 الداعي الى محاربة الفقر المطلق في بلدان العالم الثالث، المؤطر الأيديولوجي للتوجه الامبريالي الجديد لنقل جزء هام من التصنيع الذي كان يحدث في دول الشمال نحو دول الجنوب بدعوى خلق فرص الشغل والدخل ببلدان الجنوب للقضاء على الفقر المطلق، لكن الامر يتعلق باستغلال قوة العمل الرخيصة الفائضة بدول الجنوب. من هنا صعدت الشركات متعددة الجنسيات نحو الواجهة كرائدة في مجال خلق فروع ومركبات إنتاجية تابعة لها ببلدان الجنوب أو التعاقد من الباطن مع شركات محلية للتصنيع تحت الطلب بمواصفات معينة وبتكاليف متدنية عن مثيلاتها في بلدان الشمال.

6 – ويوضح ستيفن هايمر وهو أحد أبرز منظري الشركات متعددة الجنسيات بان هذه الشركات التي يقع مقرها الرئيسي في الاقتصادات العنية بدأت تتوسع بحثا عن مزايا احتكارية وسهولة الوصول الى المواد الخام والأسواق المحلية من خلال الملكية والسيطرة على الشركات التابعة الأجنبية. وقد تمكنت هذه الشركات من وضع مخططات مؤسسية للتقسيم الدولي للعمل لمنتجاتها. وجادل عايمر على أن الشركات متعددة الجنسيات أصبحت بديلا للسوق كطريقة لتنظيم التبادل الدولي. وان نشاطها استطاع إضفاء الطابع الدولي على الإنتاج وتشكيل نظام احتكار القلة الدولي الذي من شأنه أن يهيمن بشكل متزايد على الاقتصاد العالمي.

7 – انطلاقا من مقولة كارل ماركس القاضية بأن كل تراكم في رأس المال هو بالتالي زيادة في البروليتاريا، نوه ستيفن هايمر بأن انتشار جيش احتياطي خارجي واسع في العالم الثالث مكمل للجيش الاحتياطي الداخلي للبلدان الرأسمالية المتقدمة، يشكل الأساس المادي الحقيقي الذي استطاع رأس المال متعدد الجنسيات على أساسه تدويل الإنتاج، وهو ما خلق حركة مستمرة لفائض السكان في قوة العمل، وإضعاف العمل على الصعيد العالمي من خلال عملية فرق تسد.

8 – خلاصة ما سبق هو أن تحولا كبيرا قد حدث في العمل العالمي من الشكال الى الجنوب وهو ما أصبح يشكل قضية مركزية في عصرنا يصعب على الكثيرين ادراكه نظرا لحدة المنافسة الدولية وتراجع التصنيع والازمة الاقتصادية وتقنيات الاتصال الجديدة وحتى وحتى تسارع تدويل الإنتاج والتداول المالي في اطار ما يسمى بالعولمة. علما ان لكل عامل من هذه العوامل دورا في التحول الامبريالي الجديد لاستغلال الجيش الاحتياطي للعمل في دول الجنوب. غير ان الفاعل الأساسي في هذا التحول هو تدويل رأس المال الاحتكاري الناشئ عن الانتشار العالمي للشركات متعددة الجنسيات، وتركيز ومركزية الإنتاج على نطاق عالمي. ومن تم العمل على ترسيخ نظام متكامل من استقطاب الأجور وتوزيع الثروة والفقر على النطاق العالمي بين الشمال والجنوب قائم على الجيش الاحتياطي للعمل العالمي.

9 – فيما يتعلق بالإنتاج الدولي، تسعى الشركات العملاقة باستمرار للحصول على أقل التكاليف الممكنة على مستوى العالم من أجل توسيع هوامش ربحها وتعزيز درجة احتكارها داخل صناعة معينة. وقد أدى البحث المستمر عن مركز منخفض التكلفة وهوامش ربح أعلى، بدءًا من التوسع في الاستثمار الأجنبي المباشر في الستينيات، إلى نقل جزء كبير من الإنتاج إلى الخارج. وقد تطلب ذلك استغلال تجمعات ضخمة من العمالة في العالم الثالث لخلق قوة عاملة ضخمة ذات أجور منخفضة.

10 – فقد حدث توسع في القوة العاملة العالمية المتاحة لرأس المال في العقود الأخيرة بشكل رئيسي كنتيجة لعاملين: أولا من خلال انتزاع الفلاحين من أراضيهم في جزء كبير من بلدان العالم عن طريق رسملة الإنتاج الفلاحي وإدخال التقنيات الرأسمالية الحديثة الطاردة للعمل اليدوي وانتشار الأعمال التجارية الزراعية مع توسع الهجرة القروية التي تقود نحو تكدس سكان الأحياء الفقيرة في المدن؛ وثانيا من خلال دمج القوى العاملة في البلدان الاشتراكية السابقة في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

11 – ففيما بين عامي 1980 و 2007، نمت القوة العاملة العالمية، وفقًا لمنظمة العمل الدولية (ILO)، من 1,9 مليار إلى 3,1 مليار نسمة، أي بزيادة بنسبة 63 في المائة - وحيث يقع 73 في المائة من القوة العاملة في العالم النامي، و 40 في المائة في الصين والهند وحدهما. ويظهر أن نصيب الجنوب من العمالة الصناعية قد ارتفع بشكل كبير من 51 في المائة في عام 1980 إلى 73 في المائة في عام 2008.

12 – من نتيجة هذا التحول الامبريالي الجديد على الصعيد العالمي هو ظهور هذا الهيكل الغريب للاقتصاد العالمي الذي تتركز فيه سيطرة الشركات والأرباح والثروات في القمة، بينما تتركز القوى العاملة العالمية في أسفلها حيث تواجه أجورًا منخفضة للغاية ونقصًا مزمنًا في العمالة المنتجة.

13 – أدى إذن نمو القوى العاملة الرأسمالية العالمية (بما في ذلك جيش الاحتياطي للعمل المتاح) إلى تغيير جذري في وضع العمالة في العالم الثالث، كما كان له تأثير على العمالة في الاقتصادات الغنية، حيث أصبحت مستويات الأجور راكدة أو تنخفض لهذا السبب و أسباب أخرى. وحيث تمكنت الشركات متعددة الجنسيات في كل مكان من تطبيق سياسة فرق تسد، مما أدى إلى تغيير المواقف النسبية لرأس المال والعمالة في جميع أنحاء العالم.

14 – الهيمنة الرأسمالية الامبريالية العالمية على الجيش الاحتياطي العالمي للعمل وتوظيفه من اجل تحقيق تراكم رأسمالي علبمي مجد لها صدى لدى كارل ماركس في رأس المال المجلد الأول في الفصل 23 حول القانون العام للتراكم حينما يقول:
"كلما تعاظمت الثروة الاجتماعية، ورأس المال الناشط، وتعاظم نطاقه وطاقته على النمو، وتعاظم بالتالي المقدار المطلق للبروليتاريا والقدرة الإنتاجية لعملها، تعاظم جيش الصناعة الاحتياطي ... ولكن، كلما كان هذا الجيش الاحتياطي أكبر بالمقارنة مع جيش العمال الفعلي، تعاظم فيض السكان الدائم الذي يتناسب بؤسه تناسب عكسيا مع عذابات عمل جيش العمال الفعلي. وأخيراً كلما اتسعت الفئات المعدمة من الطبقة العاملة، واتسع الجيش الصناعي الاحتياطي، تعاظمت الفاقة الرسمية. وهذا هو القانون العام المطلق للتراكم الرأسمالي".


15 – تميزت إذن الإمبريالية الجديدة خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، في القمة، بهيمنة رأس المال الاحتكاري المالي، وفي الأسفل، بظهور جيش احتياطي عالمي ضخم من العمالة. كان من نتائج ذلك حدوث استقطاب هائل في زيادة الريع الإمبريالي المستخرج من الجنوب من خلال دمج العمال ذوي الأجور المنخفضة والمستغلين بشكل كبير في الإنتاج الرأسمالي. وأصبح ذلك في نفس الوقت بمثابة رافعة لزيادة جيش الاحتياط ومعدل الاستغلال في الشمال أيضًا.

16 – ويؤكد القانون العام للتراكم لكارل ماركس على أن أن الرأسمالية، من خلال التوليد المستمر لجيش احتياطي من العاطلين عن العمل، تميل بطبيعة الحال إلى الاستقطاب بين الثروة النسبية في القمة والفقر النسبي في الأسفل- مع التهديد بالوقوع في هذا الأخير يشكل رافعة هائلة لزيادة معدل استغلال العمال المستخدمين. ومن خلال "إحداث ثورة مستمرة في أدوات الإنتاج"، يكون النظام الرأسمالي قادرًا، على الأقل باستمرار، على إعادة إنتاج فائض نسبي من السكان أو جيش احتياطي من العمالة، والذي يتنافس على الوظائف مع أولئك الموجودين في جيش العمل النشط . فقد كتب ماركس: "إن الجيش الصناعي الاحتياطي، أي السكان الفائضين، يثقل جیش العمل قيد الخدمة خلال فترات الركود وفترات الانتعاش الوسطي، أما خلال فترات فيض الإنتاج واشتداد حمأته، فإنه يلجم طموحات هذا الأخير. وعلى هذا فإن فيض السكان النسبي هو الأرضية التي يتحرك عليها قانون الطلب على العمل وعرضه. فهذا الفيض يحصر مجال سريان مفعول هذا القانون في حدود معينة ملائمة مطلقة لنهم رأس المال إلى الاستغلال وتعطشه للهيمنة".

17 – أكد ماركس أن السعي وراء سوق ممتد على الدوام هو ضرورة داخلية لنمط الإنتاج الرأسمالي . وقد اكتسبت هذه الضرورة الداخلية أهمية جديدة، مع صعود الرأسمالية الاحتكارية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. حيث كان ظهور الشركات متعددة الجنسيات، أولاً في شركات النفط العملاقة وفي حفنة من الشركات الأخرى في أوائل القرن العشرين، ثم تحولت بعد ذلك إلى ظاهرة أكثر عمومية في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتاج تركيز ومركزية رأس المال على نطاق عالمي، وبالتالي استغلال الاستقلالات الوطنية للمستعمرات السابقة التي تحولت الى تكنات عسكرية لمحاصرة جيوش العمل الاحتياطي العالمي وتوظيف قوة عملها الرخيص في مجال انتاج فائض القيمة تتم إعادة تثمينة في بلدان الشمال كريع صافي. وبهذه الكيفية أشرفت الشركات متعددة الجنسيات على تحول العمل والإنتاج العالميين.

18 – أدت الهيمنة المتزايدة للشركات متعددة الجنسيات على الاقتصاد العالمي، إلى ظهور المفهوم الحديث للعولمة، الذي نشأ في أوائل سبعينيات القرن الماضي عندما حاول الاقتصاديون، فهم الطريقة التي تستخدمها الشركات العملاقة، في اعادة تنظيم الإنتاج العالمي وظروف العمل. وحيث أصبح التنافس الاحتكاري يعني البحث عن أقل تكلفة عمل للوحدة في جميع أنحاء العالم.

19 – منذ عقد السبعينات من القرن العشرين قامت اذن احتكارات الشركات متعددة الجنسيات العالمية بنقل قطاعات كاملة من الإنتاج إلى الخارج أي من البلدان الغنية، ذات الأجور المرتفعة إلى البلدان الفقيرة، ذات الأجور المنخفضة، مما أدى إلى تغيير ظروف العمل العالمية. بعض الشركات متعددة الجنسيات الامريكية توظف الآن عددًا أكبر من العمال في الخارج مما هي عليه في الولايات المتحدة - حتى دون النظر إلى العدد الهائل من العمال الذين توظفهم من خلال التعاقد مع مقاولين من الباطن. تعتمد الشركات الكبرى الأخرى، مثل نايك Nike ورييبوك Reebok، على مقاولين من الباطن من العالم الثالث بنسبة 100 في المائة من القوى العاملة الإنتاجية - حيث يقتصر الموظفون المحليون ببساطة على الأنشطة الإدارية وتطوير المنتجات والتسويق والتوزيع . فكانت النتيجة هي إضفاء الطابع البروليتاري، غالبًا في ظل ظروف محفوفة بالمخاطر، على الكثير من سكان البلدان النامية، الذين يعملون في مناطق تصدير ضخمة في ظل ظروف وشروط تمليها الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات، مثل جنرال إلكتريك وفورد.

20 – ويقف هذا الاستغلال المفرط وراء الكثير من التوسع في الإنتاج الذي يبرز في الحسابات القومية لبلدان الجنوب . وقد شكل ذلك أساس النمو الاقتصادي السريع لبعض الاقتصادات الناشئة لكنه ولّد ريع ضخم للشركات متعددة الجنسيات ورأس المال في مركز النظام. فالدافع الرئيسي وراء النقل إلى الخارج هو الرغبة في تقليل تكاليف العمالة، حيث يمكن استبدال عامل مصنع مقيم في الولايات المتحدة يتقاضى 21 دولارًا في الساعة بعامل مصنع صيني يتقاضى 64 سنتًا في الساعة.

21 – أشار معهد بنك التنمية الآسيوي في دراسة أجريت عام 2010 حول إنتاج الآيفون: "يكاد يكون من المستحيل اليوم تحديد مكان المنتج المصنّع في السوق العالمية. هذا هو السبب في أنه على الجزء الخلفي من أجهزة الآيفون، يمكن للمرء أن يقرأ، من تصميم آبل في كاليفورنيا، وتم تجميعه في الصين. على الرغم من أن كلتا العبارتين على ظهر أجهزة الآيفون صحيحة حرفيًا، إلا أن أيًا منهما لا يجيب على سؤال حول مكان الإنتاج الحقيقي. أبل نفسها لا تصنع اللآيفون. بالأحرى، يتم التصنيع الفعلي (أي كل شيء باستثناء برمجياته وتصميمه) يتم في المقام الأول خارج الولايات المتحدة. حيث يتم إنتاج أجزاء ومكونات الآيفون بشكل أساسي من قبل ثماني شركات (Toshiba و Samsung و Infineon و Broadcom و Numonyx و Murata و Dialog Semiconductor و Cirrus Logic)، والتي تقع في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا والولايات المتحدة. وبعد ذلك يتم شحن جميع الأجزاء والمكونات الرئيسية لجهاز الآيفون إلى مصانع Foxconn في Shenzhen، الصين، وهي شركة تابعة لشركة Hon Hai Precision Industry، ومقرها في تايبيه، لتجميعها وتصديرها إلى الولايات المتحدة.

22 – تهدف سلسلة التوريد العالمية الضخمة والمعقدة من آبل لإنتاج آيبود إلى الحصول على أقل تكاليف العمالة للوحدة (مع مراعاة تكاليف العمالة والتكنولوجيا وما إلى ذلك)، المناسبة لكل مكون، مع إجراء التجميع النهائي في الصين، حيث يتم الإنتاج على نطاق هائل، تحت كثافة عمالية هائلة، وبأجور منخفضة للغاية. ففي مدينة لونغهوا بمدينة شينزين بمدينة فوكسكون، يأكل 300.000 إلى 400.000 عامل، ويعملون، وينامون في ظل ظروف مروعة، مع العمال، الذين يضطرون إلى القيام بحركات يدوية سريعة لساعات طويلة لعدة أشهر متتالية، ويجدون أنفسهم ينتفضون باستمرار في الليل. عمال فوكسكون في عام 2009 حصلوا على الحد الأدنى للأجور الشهرية في شنتشن، أي حوالي 83 سنتًا للساعة. (بشكل عام في الصين في عام 2008، كان عمال التصنيع يتقاضون 1.36 دولارًا في الساعة، وفقًا لبيانات مكتب الولايات المتحدة لإحصاءات العمل).

23 – على الرغم من مدخلات العمالة الهائلة للعمال الصينيين في تجميع المنتج النهائي، فإن رواتبهم المنخفضة تعني أن عملهم لا يتجاوز 3.6 في المائة من إجمالي تكلفة التصنيع (سعر الشحن) لجهاز الآيفون. بلغ هامش الربح الإجمالي على أجهزة الآيفون في عام 2009 64 بالمائة. إذا تم تجميع أجهزة الآيفون في الولايات المتحدة، بافتراض تكاليف العمالة عشرة أضعاف تلك الموجودة في الصين، والإنتاجية المتساوية، وتكاليف المكونات الثابتة - فستظل آبل تتمتع بهامش ربح كبير، لكنها ستنخفض من 64 بالمائة إلى 50 بالمائة. في الواقع، تحقق آبل 22 بالمائة من هامش ربحها على إنتاج الآيفون من معدل استغلال العمالة الصينية الأعلى بكثير.

24 – وتجدر الإشارة إلى أن التجميع في الصين لأجزاء ومكونات الآيفون التي يتم إنتاجها في مكان آخر (بكثرة في دول شرق آسيا الأخرى) هو في الواقع النمط السائد للإنتاج في شرق آسيا. ووفقًا لبنك التنمية الآسيوي، تعد الصين مركز تجميع المنتجات النهائية في شبكات الإنتاج الآسيوية. وحسب مكتب إحصاءات العمل في الولايات المتحدة الامريكية تلقى 4 في المائة فقط من العمال الصينيين أجر العمل المماثل في الولايات المتحدة، و 3 في المائة من ذلك في الاتحاد الأوروبي . وبالمقارنة، كانت أجور التصنيع بالساعة في المكسيك في عام 2008 حوالي 16 في المائة من مستوى الولايات المتحدة.

25 – على الرغم من ميزة الأجور المنخفضة التي تتمتع بها الصين، فإن بعض مناطق آسيا، مثل كمبوديا، وفيتنام، وبنغلاديش، لا يزال لديها مستويات أقل من التعويض عن كل ساعة، مما يؤدي إلى اتجاه فرق تسد للشركات متعددة الجنسيات (التي تعمل عادةً من خلال مقاولين من الباطن) لتحديد بعض قطاعات الإنتاج، مثل إنتاج المنسوجات الصناعية الخفيفة، في المقام الأول في هذه البلدان ذات الأجور المنخفضة. وهكذا أشارت صحيفة نيويورك تايمز في يوليو 2010 إلى أن Ii & Fung، وهي شركة مقرها هونغ كونغ "تتعامل مع المصادر وتصنيع الملابس لشركات مثل Wal-Mart و Liz Claiborne"، قد زادت من إنتاجها في بنغلاديش بنسبة 20 بالمائة في عام 2010، بينما تراجعت في الصين، أكبر مورد لها، بنسبة 5 في المائة. ويكسب عمال الملابس في بنجلاديش حوالي 64 دولارًا شهريًا، مقارنة "بالحد الأدنى للأجور في المقاطعات الصناعية الساحلية بالصين والذي يتراوح من 117 دولارًا إلى 147 دولارًا في الشهر.

26 – الأجور المنخفضة تجعل هوامش الربح الكبيرة ممكنة. فعلى سبيل المثال، يبلغ إجمالي هامش الربح بالنسبة لتكلفة إنتاج قميص "التي شيرت" للأزياء السريعة 152 في المائة. ويمكن العثور على هوامش أسعار أعلى بكثير على المنتجات الأكثر تكلفة؛ أحد الأمثلة المشهورة على ذلك هو القميص المقلد لكرة القدم، وهو عبارة عن لعبة غزل كبيرة للمال بنسبة 80 في المائة من تلك المباعة في المملكة المتحدة في الشرق الأقصى بحوالي 5 جنيهات إسترلينية. ويرسلها المصنع بعد ذلك إلى شركات الملابس الرياضية بسعر يصل إلى حوالي 50 في المائة. وبدورهم يقومون بترقيتها بنسبة 100 في المائة وبيعها لتجار التجزئة بحوالي 14 جنيهًا إسترلينيًا. ويضيف تجار التجزئة علاماتهم الخاصة بنسبة 150 في المائة على الأقل لرفع السعر إلى سعر التجزئة الموصى به والذي لا يقل عن 35 جنيهًا إسترلينيًا. حيث يزيد ذلك بنسبة 700 في المائة عن تكلفة التصنيع. ويقدر محلل آخر أن قميص بولو KP MacLane المصنوع في بنجلاديش، والذي يتم بيعه بالتجزئة في الولايات المتحدة مقابل 175 دولارًا أمريكيًا، مما يولد زيادة رائعة بنسبة 718 في المائة على تكلفة إنتاجه، كما أن بيع قميص بولو هيرميس للبيع بالتجزئة بسعر 455 دولارًا يتميز بارتفاع يزيد عن 1800 في المائة. وتتناقض هذه العلامات التجارية المذهلة مع هوامش الرقائق المتبقية للموردين البنغلاديشيين. في صحيفة وول ستريت جورنال، تدعي روبانا هوك، مالكة مصنع ملابس في بنغلاديش، أنها تربح 12.5 سنتيم على كل قميص، وتبلغ تكلفة إنتاجه 6.62 دولارًا، بزيادة قدرها 2 في المائة. مالكة المصنع البنغلاديشي هذه ليست طرفًا نزيهًا، ويجب أن تؤخذ ادعاءاتها بقليل من الجدية، لكن التلاعب في الأسعار بلا رحمة من قبل المشترين العالميين هو حقيقة لا جدال فيها.

27 – بالنسبة للشركات متعددة الجنسيات، هناك منطق واضح لكل هذا. فحينما تقف الصين بوضوح الى جانب مراجحة العمالة العالمية بشكل عام فهي تستفيد من نمو السوق أثناء تصدير قوتها الانكماشية. هذه القوة الانكماشية لها علاقة بالطبع بتكاليف العمالة المنخفضة وتكاليف إعادة إنتاج العمالة في الشمال من خلال خفض تكاليف السلع الاستهلاكية للأجور. وبالتالي فهي تمثل استراتيجية عالمية لرفع معدل فائض القيمة أي توسيع هوامش الربح.

28 – يحدث هذا الاستقطاب الامبريالي الثنائي المتمثل في نهب قيمة قوة عمل الكادحين من دول الجنوب ثم إعادة تثمينه في دول الشمال، انعكاسات على مستوى استقطاب الثروات نحو الأقلية الامبريالية المهيمنة في دول الشمال واستقطاب الفقر وسط الجماهير الكادحة في دول الجنوب، وهو الوجه البشع الصراع الطبقي المستثر الذي يتجاهله الكثيرون بين الامبريالية العالمية والطبقة العاملة العالمية. وقد سبق لكارل ماركس أن قدم إجابة عملية صحيحة ممكنة على هذا التحدي الذي يواجه العمال العالميين في خطابه أمام مؤتمر لوزان عام 1867 حينما أوضح: "إذا كانت الطبقة العاملة ترغب في مواصلة نضالها مع بعض فرص النجاح، يجب أن تصبح منظماتها الوطنية دولية" بمعنى تدويل الصراع الطبقي.

29 – يرتفع التفاوت في الدخل والثروة بين الافراد والاسر داخل البلدان الرأسمالية الغنية والفقيرة على السواء، ويرجع ذلك أساسًا إلى زيادة تركيز ومركزية الأصول الإنتاجية في القطاع الرأسمالي. فقد تنبأ ماركس قبل 150 عامًا بأن الرأسمالية ستؤدي إلى تركيز ومركزية أكبر للثروة، لا سيما في وسائل الإنتاج والتمويل. يظل الفقر في الثروة والدخل للمليارات حول العالم هو القاعدة مع القليل من علامات التحسن. بينما يزداد عدم المساواة في الثروة والدخل داخل الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية مع تراكم رأس المال وتركيزه في مجموعات أصغر من أي وقت مضى. ففي الولايات المتحدة الامريكية اثبتت الدراسات أن الثروة أصبحت مركزة بشكل متزايد في أيدي فاحشي الثراء.

30 – ويتم التعبير عن تركيز الثروة الحقيقي في حقيقة أن رأس المال الكبير (التمويل والأعمال) يتحكم في الاستثمار والتوظيف والقرارات المالية في العالم. وتتحكم نواة مهيمنة تتكون من 147 شركة عملاقة من خلال حصص متشابكة مع شركات أخرى بنسبة 40 % من الثروة في الشبكة العالمية وفقًا للمعهد السويسري للتكنولوجيا. فهناك ما مجموعه 737 شركة تسيطر على 80 % من كل ذلك. تلك هي اللامساواة التي تهم عمل الرأسمالية - كقوة مركزية للرأس المال الامبريالي العالمي.

31 - هناك أكثر من 215000 شخص بثروة تزيد عن 50 مليون دولار مقابل 7,9 مليار شخص وهؤلاء هم من زادت ثرواتهم خلال وباء كوفيد 19. وتمتلك الولايات المتحدة الأمريكية أكبر عدد من أصحاب الملايير: 22,0 مليون، أو 39,1% من سكان العالم، متقدمة بفارق كبير على الصين، التي تحتل المرتبة الثانية بنسبة 9,4% من إجمالي أصحاب الملايير في العالم. وتكشف التقارير عن كيفية استغلال الرأسمال الصيني لقوة عمل الجيش الاحتياطي للعمل الهائل في الصين مصدر ثرواته.

32 - استحوذت أمريكا الشمالية وأوروبا على الجزء الأكبر من مكاسب الثروة في عام 2020. ونادرًا ما تغير إجمالي الثروة في إفريقيا، بينما شكل ارتفاع سعر الصرف سبب التغيير الطفيف الذي حدث. وسجلت كل من الهند وأمريكا اللاتينية خسائر في عام 2020. وانخفض إجمالي الثروة في الهند بنسبة 4,4%. ويبدو أن أمريكا اللاتينية كانت المنطقة الأسوأ أداء، حيث انخفض إجمالي الثروة بنسبة 11,4% أو 1,2 تريليون دولار، مع تعرض هذه المناطق للوباء أكثر من غيرها.

33 – وحسب التقرير السنوي لبنك كريدي سويس لسنة 2021 ، فإن أصحاب الملايير من الدولارات يمثلون الآن أكثر من 1% من سكان العالم لأول مرة في التاريخ، أي أن 56,1 مليون فرد يمتلكون أصولًا تزيد قيمتها على مليون دولار في عام 2020. وذلك بالمقارنة مع متوسط الثروة لكل شخص بالغ في عالم يقل قليلاً عن 80000 دولار. وإجمالاً، نمت الثروة العالمية بنسبة 7,4% في عام 2020 لتصل إلى 418,3 تريليون دولار في عام 2020، وتعزى المكاسب إلى حد كبير إلى النمو في الولايات المتحدة وأوروبا والصين، بينما انخفض إجمالي الثروة في أمريكا اللاتينية والهند.

34 – وحسب نفس التقرير من المتوقع أن ترتفع الثروة العالمية بنسبة 39% خلال السنوات الخمس المقبلة لتصل إلى 583 تريليون دولار بحلول عام 2025، بينما من المتوقع أن يقفز عدد أصحاب الملايير بنسبة 50% إلى 84 مليون فرد. من المتوقع أيضًا أن تتوسع المجموعة الغنية بما يكفي ليتم احتسابها على أنها صافية عالية جدًا بنسبة 60 % تقريبًا لتصل إلى 344.000 شخص.