دروس مصر2013 و تونس2021 : حول بعض القضايا السياسية


احمد المغربي
2021 / 8 / 3 - 21:03     

بعد أسابيع من الجنائز و الحزن على ضحايا الأزمة الصحية الناتجة عن الفساد و الفوضى السياسية استيقظت تونس يوم 25 يوليو على خطاب رئيس الجمهورية قيس سيعد الذي أعلن إقالة الحكومة و تجميد أعمال البرلمان و رفع الحصانة على أعضائه لمدة 30 يوما قابلة للتمديد كما أعلن في سابقة لم تعرفها حتى الانقلابات العسكرية عزمه على جمع كل السلط و حصرها بين يديه خلال الفترة المؤقتة(التي قد تدوم طويلا)
و بينما انقسمت أغلب ردود الأفعال على اجراءات قيس سعيد بين من أيّدها و من اعتبرها انقلابا دستوريا و شبهها بما حدث في مصر سنة 2013 فإن ما سنتطرق له في هذا المقال هو علاقة أحداث مصر2013 و تونس2021 ببعض القضايا السياسية التي يعتبر إدراكها ضرورة لا غنى عنها من أجل ممارسة صحيحة في التفاعل مع الأحداث التي قد يحملها المستقبل القريب كما سنحاول تحديد أوجه التشابه و الاختلاف بين مصر2013 و تونس2021
إن أحداثا كالتي حدثت في مصر2013 و تونس2021(و التي يمكن أن تحدث حتى في لبنان) ليست حديثة و التاريخ مليء بالأحداث المشابهة لها لكن المثير هو أن بعضها يحظى بالدعم الشعبي(مصر و تونس) بينما يُحبط بعضها الآخر بفضل التضحية الجماهيرية مثلما حدث في فنزويلا سنة 2002 و في تركيا سنة 2016 مثلا مما يسلط الضوء على مسألة الشرعية التي تعتبر ركنا أساسيا في القضايا السياسية
و في الواقع فإن الديكتاتورية بجميع أشكالها منذ ولادتها في الجمهورية الرومانية لا تظهر في أغلب الأحيان إلا كتعبير عن الأزمات الاجتماعية و السياسية التي لا يمكن حلها في المجتمع الطبقي بدون اجراءات استثنائية و في الفكر السياسي آنذاك كانت تُفْصل بشكل صحيح عن نظام الطغاة أما في العصر الحديث فيعود الفضل الكبير لماركس و غرامشي لتقديمهما أهم مساهمة في الفكر السياسي و الاجتماعي بتوضيحهما الشروط الموضوعية لبروز و انتصار القيصرية و البونابرتية كشكلين للديكتاتورية في الصراعات الاجتماعية و السياسية كما بيّنا العديد من سماتهما فبخلاف التفسيرات السطحية التي تنسب كل شيء للطموح و المميزات الشخصية وضح غرامشي في تلخيص للطرح الماركسي أن "القيصرية تمثل وضعا تتعادل فيه القوى المتعارضة بصورة لا مخرج فيها من الصراع المستمر إلا بالفناء المتبادل فعندما تناضل القوة التقدمية(أ) ضد القوة الرجعية(ب) قد لا تنتصر (أ) على (ب) أو (ب) على (أ) بالضرورة فلا تنتصر لا (أ) و لا (ب) و إنما تستنزف الواحدة الأخرى فتتدخل القوة الثالثة(ج) من الخارج مخضعة ما تبقى من (أ) و (ب)..."(غرامشي – القيصرية) كما أشار في نفس المقال لأنه "إذا كانت القيصرية تعبر دائما عن حل {تحكيمي} تتعهد به شخصية كبيرة لوضع تاريخي سياسي يتصف بميزان قوى ينذر بكارثة فإن دلالتها التاريخية متباينة فتمة قيصرية تقدمية و قيصرية رجعية" و نلاحظ أن في مصر2013 و تونس2021 تنعكس و تتجسد هذه الشروط بوضوح رغم اختلاف درجة الحدة في البلدين(و هو شيء ليس ثانويا) كما تشير رسائل قيس سعيد للتجار و الصناعيين لإمكانية تطور الوضع تحت تأثير الأزمة و ضغط الجماهير لبونابرتية تقمع الرأسماليين لحماية الرأسمالية(أو لثورة تونسية ثانية)
لكن المثير للاشمئزاز في ما حدث في تونس هو التأييد الشبه مطلق من طرف بعض من يسمون "بالتقدميين العرب" لإجراءات قيس سعيد في تكرار للأخطاء القاتلة التي حدثت في مصر سنة 2013 حين تحالف بعض الناصريين و الاصلاحيين مع العسكر و الفلول لإسقاط الاخوان الرجعيين و في الواقع فمثل هذه الممارسات الخاطئة ليست عرضية بل تنبع من أن بعض السياسيين العرب الفاشلين(في كسب الجماهير) يعانون من خمول و كسل خطير فبدل القيام بالعمل الضروري الطويل و الشاق يختارون الطرق المختصرة و يبحثون عن قيصرهم و بونابرتهم لكنهم لا يجدون سوى السيسي و قيس سعيد و أمثالهم من الذين لا يتأخرون في خنق هؤلاء بمجرد الانتهاء من سحق الرجعيين هذا فضلا عن أنهم لا يقومون بأي دور تقدمي لأن الانظمة البوليسية لا تستطيع القيام بتصفية حقيقية للرجعية
و قد قدم الثوري المبدع غرامشي مساهمة عظيمة بتسليطه الضوء على العلاقة بين "الإقناع و الاكراه" و أهميتهما في القضايا السياسية لكن ربما تكمن مأساة المشهد السياسي في أن بعض من يسمون بالتقدميين في منطقتنا لم يستوعبوا هذه المسألة رغم أن التجارب القديمة و الحديثة وضحتها جيدا ففي حربهم الصحيحة ضد الرجعية يرتكب هؤلاء خطأ كارثيا بطلبهم الحماية من البوليس و العسكر لأنهم بالإضافة لتعزيز شرعية الرجعيين يظهرون ليس فقط كسياسيين جبناء و عاجزين بل و أيضا كجاهلين بأبجديات السياسة التي تركز على عامل الإقناع الذي لن نبالغ إن اعتبرناه أهم عنصر في بنية الشرعية الحقيقية و يتجلى هذا بقوة في الانقلابات التي تحظى بدعم الجماهير و نقيضتها التي تواجه فيها الجماهير الدبابات بالأصدر العارية و كذلك في حرب العصابات التي يعد الدعم الشعبي وقودها الحقيقي الذي يستحيل استمرار سيرها بدونه
إن قضية العلمانية التي لا يمكن تصور الديموقراطية بدونها ليست ثانوية بالنسبة للاشتراكيين لكن بخلاف المتبرجزين لا نتصور امكانية تحققها دون الاشتراكية كما لا نتصور امكانية انتصارها و سحق الرجعية دون الموازنة الصحيحة بين "الإقناع و الإكراه" على عكس هؤلاء الذين يدافعون عنها ضمن استمرار الرأسمالية(التي لا تعني إلا استمرار البؤس و التقشف بالنسبة للأغلبية) أو يتصورون امكانية فرضها بالوسائل القسرية دون وجود أدنى حد من التوافق أما هؤلاء السياسيين الذين يتوهمون تحقيقها عن طريق أتاتورك عربي و يدعمون العسكر و البوليس ضد الرجعيين الظلاميين يقدمون أفضل خدمة للرجعية إذ أنهم يساعدونها على تضميد جروحها و تجبير كسورها فيعيقون عملية تصفيتها و دفنها الأبدي
و في ظل وجود خطر اجتياح الفاشية الظلامية لمنطقتنا يجب التعامل بحذر شديد(لا يخلوا من الجرأة) و يُفَضّل عدم خوض حرب الحركة(الهجوم المباشر) قبل التمهيد لها بحرب مواقع(دفاع و هجمات خاطفة) تضمن نصرنا في الحرب المصيرية ضد الرجعية كما لا يجب التغافل و إهمال الدور الكبير الذي يلعبه الإقناع في السياسة و في هذا الصدد من المهم تذكر دروس الثورة الروسية ففي يوليو جادل لينين ضد البلاشفة الذين أرادوا الاستيلاء على السلطة فوضح لهم استحالة الاحتفاظ بها بسبب غياب الدعم الجماهيري الكافي كما أكد حتى في أعماله النظرية على أهمية الاقناع و قال : "لا يمكن الانتصار بقوى الطليعة وحدها و الزج بالطليعة وحدها في معركة حاسمة قبل أن تكون الطبقة كلها و الجماهير الواسعة قد اتخذت إما موقف التأييد المباشر للطليعة و إما على أقل تقدير موقف حياد يتسم بالنية الطيبة تجاهها بحيث تكون غير قادرة أبدا على تأييد عدو الطليعة لا يكون حماقة وحسب بل جريمة أيضا"(لينين – مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية) و أشار في نفس الكتيب لضرورة الاقناع في الاجراءات القسرية و قال : "لأن القضية ليست في كون البرلمانات موجودة من أمد بعيد أو قريب بل في مقدار استعداد الجماهير الغفيرة الكادحة(استعدادا فكريا و سياسيا و عمليا) لقبول النظام السوفييتي و حل(أو السماح بحل) البرلمان البرجوازي الديموقراطي"
و ما طرحه لينين أكدته أحداث مصر2013 و أحداث تونس2021(و كذلك أحداث أخرى) فقبل سجن مرسي و فض اعتصام رابعة بالعنف الدموي كان السيسي قد تأكد من حصوله على دعم الجماهير عندما طلب منهم التفويض و التظاهر لتأكيد التأييد و كذلك قيس سعيد لم يكن ليتجرأ على القيام بانقلاب القصر لولا تأكده من كره الجماهير(و الساسة) لحزب الغنوشي و المظاهرات التي سبقت 25 يوليو و التي تلتها وضحت جيدا رأي الشارع التونسي كما تؤكد اجراءات الدعاية و التشهير التي غالبا ما تسبق القمع و تمهد له نفس الشيء
و في الواقع فإن التحذير الشديد من خطر سيطرة الفاشية الظلامية ليس خاطأ بل صحيح و ضروري لكن الذعر اللاعقلاني ليس مُبرَّرا و يصبح ضارا جدا عندما يدفع للتحالف مع العسكر و البوليس و ما ينبغي إدراكه و الاستفادة منه هو أنه بعد الثورات التي اندلعت في منطقتنا بالإضافة لكون الاسلامويين قد حصلوا على دعم الامبرياليين لضمان استمرار النظام القديم بوجوه جديدة(تحظى بالثقة) فقد كانوا مشروعا نجح في كسب تأييد حقيقي(و إن لم يكن بالقوة التي يُصوَّر بها) فكان وصولهم للسلطة تعبيرا عن حصاد لما زرعوه منذ نهاية السبعينات لكن ما لا يجوز التغاضي عنه أيضا هو أنهم بسبب تعارض مشروعهم الرأسمالي المتطرف مع التطلعات الحقيقية للجماهير بددوا الرصيد الذي جمعوه خلال سنوات في شهور و سنوات قصيرة فصاروا ممقوتين من طرف الجماهير و خلال حكمهم في مصر مثلا لم تخلوا شوارع المدن من الاحتجاجات الشعبية ضد حزبهم و يفرض انهيار المشروع الرجعي للاسلامويين و انتفاض الجماهير ضده بسبب سياسته الاقتصادية أن يراجع بعض التقدميين تصورهم عن البديل الذي تحتاجه بلدان المنطقة لأن مأساة هؤلاء تكمن في أنهم يساندون المشروع البرجوازي رغم أنهم ليسوا برجوازيين فيضعون أنفسهم خارج الكتلة التاريخية الضرورية لنجاح المشروع التقدمي بسبب العمى السياسي لا بسبب المصالح الطبقية أما الغايات التقدمية التي يناضلون لأجلها و يتوهمون ترادفها مع الرأسمالية فما لا يدركونه هو تناقضها التام معها في بلداننا بالخصوص إذ أن الثورة في منطقتنا التي عانت من الاستعمار الذي أعاق تطورها لا يمكن أن تحقق تلك الغايات إلا في ظل الاشتراكية لأنها من ناحية تعتبر الطريق الوحيد للتطور الاقتصادي الضروري للنهضة الاجتماعية الحقيقية و من ناحية أخرى تعتبر الضامن الوحيد الانتصار و استقرار المشروع التقدمي في بلداننا
كما لا يجب على هؤلاء الاصدقاء التغاضي عن أن البرجوازية صارت من ألد أعداء القيم الحداثية التقدمية فرمت عقلانية فولتير و مساواة روسو و صارت تقدس بربرية نيتشه الذي تحَصَّر على أفول العبودية و لا يجوز أبدا التغاضي عن أنه لا يمكن انتظار المساهمة في التنمية من أنصار الربح السريع و التقشف و العمالة الرخيصة أما المغامرين من أنصار الاستعمار الجديد الذين يرغبون في أن يصبحوا الوكلاء المحليين الجدد و الذين يُجَمِّلون الوجه البشع للإمبريالية فنبشرهم أن نهايتهم لن تختلف عن نهاية مرسي(و النهاية الحتمية للسيسي) حتى إن تمكنوا من تحقيق نصر مؤقت لأن مصالح الشعوب تتناقض جذريا مع مشروع الرأسمالية التي لا يمكنها أن تكون في بلداننا إلا تبعية و بعد مرور 10 سنوات على ثورات الربيع العربي يمكننا أن نؤكد أن أهم درس للتقدميين هو إدراك أن في منطقتنا المنهكة "إما الاشتراكية أو الهمجية"
أما الآن بعد أن تطرقنا إيجاز لبعض القضايا السياسية التي ترتبط بأحداث مصر2013 و تونس2021 و كذلك بالمشهد السياسي في المنطقة فسوف نحاول أن نوضح أوجه التشابه و الاختلاف بين 30يونيو2013 و 25يوليو2021 و دورها في تحديد تطور الأوضاع في تونس
و بخلاف هؤلاء العجزة البيروقراطيين الذين لم يرو في الربيع سوى فوز الرجعيين في الانتخابات أو الليبراليين الذين لم يرو في أحداث 30يونيو 2013 و 25يوليو2021 سوى الانقلاب عن لسلطة التي يعتبرونها شرعية أعتقد أن تلك الأحداث بينت انطلاقا مما تتشابه فيه أنه لا الاسلامويين استطاعوا السيطرة و لا البرلمانية استطاعت تلبية طموح الجماهير ففي مصر شاهدنا أكبير تنظيم جماهيري يعجز عن الاستقرار خلال وجوده في السلطة و يتم اسقاطه و قمعه بدعم جماهيري كبير و في تونس بعد 10 سنوات من حكم حزب الغنوشي تخبرنا مظاهرات يناير و حرق مقرات الحزب و المظاهرات المؤيدة لقيس سعيد ببلاغة عن رأي الجماهير التونسية في الاسلامويين
لكن بعيدا عن التشفي أو التفاؤل اللاعقلاني يجب أن ننتبه لأن اسقاط الرجعيين و ازدراء البرلمانية و دعم البونابرتية يشير بوضوح لمستقبل "التقدميين" الذين لا يرون بديلا عن الرأسمالية و يقول لهم ببلاغة "لن يكون مصيركم مختلفا عن مرسي و الغنوشي و ستطردكم البطون الجائعة إما بقواها أو بدعم سيسي أو قيس سعيد جديد" كما أن دعم الجماهير و بعض السياسيين التونسيين لقيس سعيد بعد دروس 30يونيو2013 يوضح أن التجارب المأساوية يمكن أن تتكرر و في غياب العامل الذاتي قد لا يمكن تفاديها و إن بإمكاننا تفهم شعور الجماهير التونسية العادية و حتى خطأ القوى التقدمية المصرية فموقف بعض التقدميين التونسيين في 25يوليو2021 لا يمكن قبوله بعد أحداث 30يونيو2013 خصوصا في ظل أن قيس سعيد كان واضحا جدا في خطابه واجراءاته فبخلاف السيسي الذي طمأن الشارع المصري بالكذب حول نوايا المؤسسة العسكرية و بتعيين مناضلين لهم سِجل نظيف ككمال أبو عيطة في الحكومة التي تلت اسقاط مرسي يعكس بوضوح تام تعيين وزير الداخلية قبل تشكيل الحكومة أولويات الرئيس قيس سعيد كما يشير تهديده لمن اعتبرهم "يتطاولون على رئيس الدولة" لنواياه الحقيقية التي لا يمكن اخفائها وراء العبارات الشعبوية
كما تُظهر لنا أحداث 25يوليو أن الغنوشي بخلاف بعض الساسة البيروقراطيين استفاد من درس مصر2013 فتجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع الدولة في ظل غياب الدعم الجماهيري لحزبه الذي فقد الشرعية الحقيقية و صار ممقوتا بعد 10 سنوات من الخيانة و الاجرام في حق الشعب التونسي و لعل زعيم حزب النهضة يراهن أيضا على عامل الوقت لترتيب صفوف الحزب و الاستفادة من الاحتمال الكبير لفشل الرئيس الشعبوي و عجزه عن حل المشاكل التي كانت سببا في سخط الشعب على حزبه و قد وجه تحذيرات لأوروبا من أزمة المهاجرين في محاولة للتخويف باحتمال العنف و الارهاب لكنه في نفس الوقت حاول الحفاظ على بعض الخيوط مع النظام إد دعا للمفاوضات و "الحوار الوطني" مع الاشارة لاستعداده لتقديم التنازلات في محاولة منه للحصول على صفقة ملائمة و ربما في استذكار للاقتراح الذي كان قد طرحه السيسي على مرسي و حزبه قبل اسقاطه(و في الواقع حتى بعدها قبل فض اعتصام رابعة)
و يشير سلوك زعيم حزب النهضة لأن الرجعية مثل أي فيروس آخر قادرة على تطوير ذاتها في ظل عدم تصفيتها التامة و لهذا سيكون من الخاطئ أن نعتقد أنها ستكرر نفس الأخطاء إن أتيحت لها الفرصة مرة أخرى و بالرغم من أنه سيكون من الصعب عليها إعادة جمع الرصيد الذي اكتسبته سابقا إلا أن التغاضي عن أن في مجتمعاتنا لم تتشكل بعد مناعة قوية تجعل شعوبنا محمية وقادرة على تحديد الأشكال الجديدة التي قد يتخفى فيها فيروس الرجعية الظلامية سيكون تغليبا خاطأ للعاطفة على العقل كما أن الرهان على استمرار ضعف الاسلامويين لوقت طويل في أحداث استثنائية كالتي تعيشها منطقتنا(و العالم) سيكون تفاؤلا ساذجا لأن في السياسة يستقوي كل طرف بضعف نقيضه و تُوَسع كل مجموعة سياسية رقعتها أساسا بفضل الأخطاء التي يرتكبها أعدائها و تُقلِّص رقعتهم و لا أعتقد أن أي ثوري سيختلف معي في أن القوى السياسية السائدة حاليا لن تضمن سوى تكرار الأخطاء القاتلة
الآن بعد أحداث 25يوليو يميل البعض لاعتبار أن مستقبل تونس هو عودة الدولة البوليسية و أن الأحداث القادمة في تونس لن تختلف كثيرا عن الأحداث التي تلت 30يونيو في مصر لكنني أعتقد أن العامل الذي له وزن ثقيل في تحديد مستقبل تونس بعد 25يوليو هو المزاج العام في المجتمع و في هذه النقطة تختلف تونس2021 عن مصر2013 اختلافا كبيرا فبينما كانت فئات كبيرة من الشعب المصري متعبة في 30يونيو بسبب المعركة الطويلة التي خاضتها و كان الميل للاستقرار و التخلص من كابوس الارهاب و الحرب الاهلية عاملا مهما في دعمها للسيسي دعما شبه مطلق في السنة الأولى على الأقل لدينا في تونس الآن جماهير متعطشة للعدالة الاجتماعية لا لاستقرار البؤس الذي تعاني منه و يمكن ان نقول بل ثقة أنها بكامل قواها و حماسها الذي تحتاجه معركتها التي ستندلع عاجلا أم آجلا بعد أن يزيل الواقع المُحبِط نشوة الاجماع الوطني حول الرئيس ذو "الأيادي النظيفة"
كما يجب أن ننتبه جيدا لأن الأوضاع في تونس و محيطها حاليا تختلف جذريا عن تلك التي رسخ فيها بن علي الديكتاتورية البوليسية و الشارع التونسي بعيد كل البعد عن قبول التدابير التي تحملها جزء من الشعب المصري في السنوات الأولى بعد 30يونيو تحت ضغط الارهاب الرجعي كما أنه من الضروري أن لا نتغاضى عن "تمرد" جزء مهم من المصريين العاديين ضد السيسي قبل مرور 10 سنوات على حكمه و تظاهرهم و احتجاجهم الصريح ضد من دعموه بقوة سابقا في سنتين متتاليتين(2019 - 2020) رغم القمع الشديد الذي يسود في مصر السيساوية فبيّن الشارع المصري أن روح الربيع لا تموت بقتل قادته و لا تُسجن مع كوادره في الزنازن بل تظل حرة تتجول في الحارات لتُحرض على الحرية و تستمر حية في عقول قادة و كوادر و مناضلين جدد استعدوا للتضحية بأجسادهم ليبعثوا الربيع من جديد و ليحققوا أهدافه في معركة التحرر القادمة
و يثبت الحراك الثوري الذي حدث سنة 2019 في العراق و الجزائر و لبنان و المظاهرات التي حدثت في تونس في بداية هذه السنة أن الربيع هو روح العصر التي لن تزول مادامت ظروف وجودها قائمة فرغم اخفاقات المعركة الأولى(2011) و رغم أنهار الدماء التي سالت في سوريا و ليبيا و اليمن لازالت الجماهير تقاتل من أجل تحقيق أهداف الربيع
إن أحداث تونس2021 أكدت الدروس التي قدمتها مصر و السودان و كل ثورات الربيع فوضحت استحالة حل الأزمة في بلداننا على أساس الرأسمالية و بينتْ ان الأمراض التي تعاني منها القوى السياسية السائدة عضوية و ليست عرضية فأكدت إفلاسها و عجزها عن تحمل مهامها أو الاستفادة من الأخطاء لتفادي تكرارها و أشارت الأحداث أكثر من مرة لأن خوفها و حذرها الصحيح من خطر الرجعية يدفعها دوما للقيام بما يساهم فقط في تأجيل ذلك الخطر لا القضاء عليه في ظل اصلاحيتها و عجزها عن إدراك أن الأزمة تحتاج بديلا اقتصاديا و اجتماعيا جذريا لن يوجد أي استقرار سياسي و اجتماعي بدونه
و بالنسبة لنا كمغاربة فمن الضروري جدا الاستفادة من كل الدروس التي تقدمها الأحداث السياسية في بلدان المنطقة(و العالم) فبعد 22 سنة من الحكم بدد محمد السادس الرصيد الكبير الذي امتلكه خلال السنوات الأولى التي جلس فيها على العرش و إن تمكن في سنة 2011 من تجاوز الأزمة التي هددت عرشه بفضل عدة عوامل أعتقد أن أهمها هو الدعم الذي كان لايزال يحظى به من طرف الفئات المتخلفة من الجماهير فالأزمة التالية التي تهدده قد لا يفلت منها إلا بفضل الأخطاء القاتلة التي سترتكبها حتما القوى السياسية السائدة حاليا إذ أن قيادة هؤلاء لن تضمن تجنب تكرار مأساة فرانكوية أو "ثورة ملك و شعب" جديدة بل لا مبالغة في قول أن أمثال هؤلاء لن يتسببوا سوى في تلك المآسي و بعيدا عن أي تشاؤم أعتقد أن لا أمل في انتصار ثورة تقدمية في المغرب إلا أن استطاعت بعض التيارات الثورية و بعض المناضلين الثوريين تطوير ذواتهم ليصبحوا قوة قادرة على التأثير الفعال على الأحداث أي أن من الضروري جدا العمل للموازنة بين الكيف و الكم فسكب نصف كوب من الماء في كيلوغرام من الدقيق يختلف كثيرا عن سكب نصف لتر و من يحظى بدعم و تعاطف الملايين ليس كمن يجهلونه و يعادون بعض أفكاره بسبب أفكارهم الخاطئة حولها و لهذا أعتقد بضرورة تخلي بعض الرفاق و الأصدقاء عن الرهان الخاطئ على العفوية و عن الانطواءات النقابية و العمل ليصبح اليسار قوة جماهيرية حقيقية لأن كل الأحداث أكدت بوضوح قول لينين بحتمية اتجاه العفوية نحو البرجوازية
أما بالنسبة للإصلاحيين النزيهين(و هم ليسوا أقلية) الذين يضعون نفسهم خارج الكتلة التاريخية و يعادون القوى الثورية بسبب الجبن و ضيق الأفق السياسي لا بسبب المصالح الطبقية فأعتقد أنهم يعرفون جيدا أن فشل الثورة يعني الخراب لا السلام(و لهذا يميل بعضهم للحذر من القفز للمجهول) لكن ما لا يدركونه رغم وضوحه الآن هو أن السؤال في المغرب حاليا ليس حول إمكانية حدوث الثورة بل يتعلق بنوعية و هوية الثورة القادمة في القريب العاجل في البلد الذي سيصرخ فيه شعب طال صمته لعقود و الذي تحيط به أخطار كبيرة تفرض وعيا و مجهودا جبارا من طرف الثوريين و جميع الشرفاء و التقدميين