انقلاب دستوري في تونس


فارس إيغو
2021 / 7 / 26 - 18:46     

قام رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيد مساء الـ 25 من تموز 2021، بإيقاف الديموقراطية المدنية الوحيدة في العالم العربي وشمال أفريقية (على اعتبار السودان ما زال يحكم بين المدنيين والجيش خلال الفترة الانتقالية)، وذلك عن طريق تفعيل المادة 80 من الدستور، متخذاً سلطاته الكاملة بحكم الأمر الواقع. وتم تجميد مجلس الشعب لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة النيابية عن كل البرلمانيين، وحل الحكومة. وتولى رئيس الجمهورية السيطرة الكاملة على مؤسسات الدولة. تسمح المادة 80 للرئيس بتجميد البرلمان وإقالة الحكومة، في حالة وجود خطر وشيك يهدد مؤسسات الأمة وأمن واستقلال البلاد، ولكن كثير من المختصين الدستوريين في تونس يعتبرون بأن الظروف السياسية اليوم متوفرة لتسمح للرئيس بالقيام بهذا الإجراء القيصري.
يعتبر الرئيس التونسي الحالي قيس سعيد من الشخصيات غير المعروفة في المجال السياسي، سوى عضويته للجنة الدستور التونسي الجديد بعد الثورة على اعتبار تخصصه في كتابة الدساتير. ولكن، بحكم كونه يعمل في التدريس الجامعي تمكن من خلق شبكة صغيرة من المدرسين الذين شكلوا جمعية مدنية لها نشاطات ميتا سياسية، ومن هذه النواة الصغيرة بدأ قيس سعيد يفكر في ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية لعام عام 2019، بعد وفاة الرئيس السابق. وكان البرنامج الذي قدّم نفسه فيه للجمهور التونسي شعبوياً بامتياز، حيث غطى على كل عناصر الاعتراض والاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية المتردية في المجتمع التونسي. وقد نبّه بعض من المثقفين التونسيين يومها إلى خطر ما يحمله هذا الخطاب من عناصر شعبوية لا تتوافق مع النظام الديموقراطي البرلماني الذي انتهجته تونس بعد الثورة.
لذلك قرر راشد الغنوشي رئيس المجلس النيابي، صباح الاثنين، الاعتصام أمام مجلس النواب، بعد منعه من قبل المسؤولين الأمنيين عن حراسة المجلس من الوصول إليه. واحتشد أيضا أنصار الرئيس سعيد وأنصار النهضة أمام مبنى مجلس الشعب وسط أجواء متوترة وتبادل المعسكران الشعارات المعادية والرشق بالحجارة والزجاجات.
لقد تمزقت تونس منذ أشهر بين مجلس مجزأ ورئيس مستقل معادي جداً للأحزاب، وبالخصوص أقواها حزب النهضة الإسلامي الذي ترأس زعيمه راشد الغنوشي رئاسة المجلس منذ الانتخابات النيابية الأخيرة التي فاز بها حزبه. وأصيبت بالشلل بسبب الأزمات السياسية الكبرى منذ عام 2019. وتأتي هذه الخلافات التي أعلنها قيس سعيد بعد مظاهرات في العديد من مدن البلاد يوم الأحد. وطالب المتظاهرون بشكل خاص "بحل مجلس الشعب".
كما أدت الأزمة الصحية إلى تصعيد التوترات، حيث انتقد العديد من التونسيين الحكومة لافتقارها إلى الترقب والتنسيق. عانت البلاد من نقص في الأكسجين مما أدى إلى عواقب مأساوية لمرضى الكورونا. ويعد معدل الوفيات في تونس اليوم من بين الأسوأ في العالم، حيث يسجل حوالي 18000 حالة وفاة بالنسبة لعدد سكان تونس المقدر بـ 12 مليون نسمة.
بعد تصريحات الرئيس، نزل التونسيون مرة أخرى إلى الشوارع رغم حظر التجوال. البعض، من المتحمسين لخطاب قيس سعيد، أطلقوا أبواقهم وأطلقوا الألعاب النارية، بينما عمّ القلق بين العديد من الشخصيات السياسية والفكرية في تونس من خطر الثورة المضادة التي نجحت في العديد من الدول العربية التي قامت بها ثورات الربيع العربي والتي كسبت الرهان لمدة من الوقت لا نعرف كم تدوم. ولكن، على التونسيين المؤيدين للانقلاب الدستوري أن لا ينسوا بأن تونس ليست مصر، وبأن الثورة المضادة التي أطلقها المارشال خليفة حفتر في ليبيا أدت إلى زيادة المآسي بالنسبة للشعب الليبي، وأطلقت يد التدخلات الخارجية التركية القطرية في غرب ليبيا، والتدخلات الروسية والمصرية والسعودية والإماراتية في شرق ليبيا.
وبالرغم من بعض المآخذ التي يمكن لنا أن نأخذها على ممارسات حزب النهضة، إلا أنه في هذه المعركة السياسية لا مكان للمراوغة بالنسبة للمعسكر الديموقراطي، فلا بد من الصمود في وجه الرئيس التونسي لكي يتنازل، ويرجع إلى طاولة الحوار مع الفرقاء السياسيين في المجلس وخارجه كرئيس لكل التونسيين لا كفريق يريد استحصال المكاسب لنفسه وأصدقاؤه على الطريقة المحاصصاتية اللبنانية.
ولا بدّ من التنويه إلى خطر الأنظمة السياسية المختلطة (رئاسية وبرلمانية)، وأن لا حل ديموقراطي سليم إلا باتباع النظام البرلماني الكامل، واعتبار رئيس الجمهورية رمز لوحدة الأمة، وليس طرفاً أو فريقاً بين الفرقاء كما هو الحال في لبنان. وفي هذه الحالة، يجب الإسراع في تشكيل المجلس الدستوري الأعلى (لسحب ورقة تأويل بنود الدستور من يد رئيس الجمهورية)، وتغيير قانون الانتخاب في تونس بشكل يضمن صحة التمثيل الصحيح لكافة التيارات السياسية في البلاد عن طريق النسبية، مع أفضلية للحزب الذي يأتي في المرتبة الأولى، بحيث يتيح له لقيادة أغلبية وازنة ومستقرة في المجلس، ولكي ينفذ برنامجه الانتخابي ويحاسب عليه في الدورة الانتخابية القادمة.
يقول المفكر التونسي فتحي المسكيني في أحد مقابلاته الصحافية:
((وحتى استثنائية تونس هي مهدّدة دوماً. يبقى أن نقول إنّ تونس قد نجحت في تأمين عبور إلى "ما بعد" الثورة بسرعة مخيفة إلى حدّ ما. وصلنا إلى "ما بعدٍ" مدني، ولكن بلا مضمون اجتماعي. وليس له من أصالة حاسمة سوى طابعه السلمي. المشكل أنّ الشعوب ليست مسالمة إلى الحدّ الذي يتصوّره سياسيون "هواة" ميزتهم الوحيدة هي أنّهم بلا سوابق سياسية)).
وهذا الكلام من المسكيني يمكن توجيهه إلى الرئيس التونسي الحالي، وإلى الكثيرين من النواب التونسيين الذين لا عمل لهم سوى إثارة الحرائق في المجلس، فتونس رغم نجاحاتها السياسية والدستورية والحقوقية ما زالت بحاجة لخطة طموحة ومستقبليىة لتثبيت هذه الإنجازات اجتماعياً.