ساكن القبر 4


هيثم بن محمد شطورو
2021 / 7 / 25 - 02:03     

هكذا حددت أحلام المهام. أنا أتـفوه، انطق، استرسل في الكلام بملامح وجهي التي لا أراها. هي تحملق في وجهي، عيناها السوداوان تحيطاني و تـنغرسان في كياني، قد أحرك يداي، أشعل سجائري، أغير وضع ساقي، أحرك خصري.. كل تلك الحركات لا تهم بالنسبة لها. هناك أمر وحيد في هذا العالم كله ما يشدها في ذاك الزمن، في تلك القطعة من الزمن، في ذاك الاختراق للزمن، و هو تلهفها على النار التي يبعثها التنين من فمه. التـنين الجاثم أمامها كمالك للحقيقة و البعث و الحياة، التنين الذي ينفخ من فيه نار الكلمات. تكاد هي أن تدخل في النار و الوجه و فوهة الفم لتـتـشكل بعد ذلك في كائن خلق من كلمات...
ـ القبور ساكنة. هادئة. نوم ابدي إلى غاية لا يعلمها إلا الله. الساكن في القبر ينبؤك أن أساطير الكائنات التي تدخل إلى القبور لمحاسبة الموتى ما هي إلا مجرد هراء. لا يحتوي القبر إلا جثة هامدة لمكونات ترابية تنحل، أما الروح فهي من أمر ربي.. ينبؤك ساكن القبر أن عالم الجحيم السفلي للإغريق و الفراعنة و البابليين و غيرهم في الثـقافة القديمة ما هي إلا أوهام الأولين الذين لا يقبلون فكرة الموت. ليس من جحيم إلا في عقولنا المريضة. هل بعـث ميت إلى الحياة من جـديد ليتحـدث عن ليلته الأولى في القبر و ما بعدها؟ هل هناك تعداد زمني خارج الحياة؟ هناك فقط حياة نحياها بفكرة الموت...
... بعد فترة من لقائي الأول به وجدته أخيرا. كنت مشغولا بالتـفكير فيه. يمكنك القول أني لم أكن أفكر إلا فيه ساعـتها، حتى انه أيقضني من نومي عـدة مرات و شغل تـفكيري في صحوي و منامي بصفة مستمرة. كان ذلك برغم الأحداث التي تعصف بالبلد عـصفا. أحداث لا يمكن وصفها إلا بثورة. غـليان بركان عـظيم لا يعصف بحكم البوليس و الطرابلسية و بن علي فقط، بل بتاريخ الاستبداد الشرقي كله. ذاك الاستبداد الذي تحدث عنه هيغل قائلا أن الحاكم هو الحر الوحيد فيه و البقية عبيد.
تساءلت أحلام قائلة:
ـ هل هي ثورة إسلامية أم ثورة على الإسلام؟
صدرت مني ابتسامة خفيفة عبرت عن ارتياحي لرغبتها الدخول في نقاش. قـلت:
ـ ابتدأ تاريخ الاستبداد الإسلامي عشية موت الرسول محمد الأكرم منا جميعا. منذ اجتماع ما سمي بسقيفة بني ساعدة، سيطر عمر ابن الخطاب على الموقف و عين خليفة لرسول الله و هو صديقه أبو بكر الصديق بالقوة. في هذه العملية تم إقصاء عدة أطراف. أولها علي ابن أبي طالب الذي كان يعتبر نفسه هو الأحق بل يعتبره أنصاره حجة الإسلام. ثاني شخصية تم إقصاؤها هو سليمان الفارسي الذي كان بدوره قريبا جدا من الرسول حتى انه اعتبره من أهل البيت، و هو ما يمكن أن نعبر عنه بلغة عصرنا رمز المواطنة العالمية و التـفكير الديمقراطي الواقعي. هذه الشخصية تم رفـضها من الجميع بل جرت محاولة مسحه التام من التاريخ نظرا لقفزه عن كل منطق قبائلي و عن العنصر العربي أصلا و لربما يعبر عن المواطنة العالمية التي لا فرق فيها بين عـربي و أعجمي إلا بالتقوى عند الرسول. ثالث عنصر تم إقصاؤه بكل عنف هو الأنصار أو أهل يثرب أو المدينة لصالح المهاجرين أو بصفة أدق لصالح قريش.. منذ تلك اللحظة استحـدث ما سمي بالبيعة على يدي عمر ابن الخطاب رغم تأكيده أنها استـثـناء فرضته ضرورة الحال حسب تصوره و أنها بدعة و أنها ليست من الإسلام في شيء. كان الهم السياسي منصبا حول الحفاظ على الوحدة الجديدة بين القبائل العربية في إطار الإسلام الجديد الذي شكل دافعا معنويا قويا لها و هو ما سمي بالأمة الإسلامية.. ثم حروب ما سميت بالردة و هي ما يمكن وصفها بحرب التوحيد ضد الرجوع إلى التجزئة.. فتوحات عمر ابن الخطاب التي أسست لإمبراطورية جديدة من فارس إلى مصر، ثم عهد عثمان ابن عفان الذي وجد نـفسه أمام تحدي منطق جديد فرض نفسه واقعيا و هو منطق الملك. فالآن كان مخالفا للرقعة الصغيرة الصحراوية بين مكة و المدينة و ما يسمى بالجزيرة العربية. أنت الآن في ربوع إمبراطورية حقيقية واقعية فيها تـنطعت القبائل العربية إلى الامتداد شرقا و غربا للحكم و السيطرة و الاستـئـثار بالثروات الجديدة الهائلة. كان انقلابا جذريا في البنية التحتية للواقع العربي. انقلاب على مستوى التملك و الثروة و السطوة. كان الأمر يستلزم بالضرورة منطق الحكم و الملك. الانتقال إذن من العـقيدة الموحدة إلى الواقع السياسي الموحد. تلك اللحظة الانتـقالية شكلت أزمة عـميقة في الوعي و في الواقع و ذاك شأن كل فترة انتـقالية في التاريخ. تأسيس الملك لا يكون إلا عبر موازين القوة الموجودة و التي كانت لصالح بني أمية. و كان العلامة ابن خلدون قد وصف في تحليله الرائع لقوانين سير التاريخ السياسي العربي بأنه تاريخ صراع العصبيات و تملك العصبية القبلية الأقوى للحكم. هذا ما لم يتـقبله الإسلام المثالي، و الذي وصل به الأمر إلى قـتـل عثمان شـر قـتـلة بل التمثيل بجثـته و رفض دفنه و جره على التراب ليثير الغبار الناتج عن أزمة عـميقة في تـشضي الوعي و انقسامه مما خلق اسلامين احدهما واقعي معاشي سلطوي و الآخر مثالي روحاني بكائي، و هو فيما سمي بعد ذلك بالشيعة و السنة.. كان علي ابن أبي طالب في الولاية الرابعة لخلافة رسول الله باعثا للإسلام المثالي الأول، إسلام المساواة التامة بين المسلمين دون اعـتبار للقوة القبلية أو العشائرية أو أي محاسبة لفاعلي الثورة على عثمان. كان إسلاما لصالح الفقراء و المستـضعـفين في الأرض. كان إسلام المساواة بين جميع الناس دون اعتبار للسانه و أصله و فصله. كان إسلاما متجاوزا كثيرا لما يعـتمل من عناصر الانقضاض الوحشي للقوى الطامعة في الملك و التملك و الاستحكام و القوة. كانت لحظة تراجيدية عميقة جدا و مأساوية و هي ما سمي بالفـتـنة... و عاد بني أمية إلى المسرح بكل قوة و بطش و استبداد و استحكام على يدي معاوية ابن أبي سفيان ليتجسد منطق الملك بالقوة و التوحيد بقوة العنف و ليس العقيدة. كان لبني أمية قبل الإسلام سطوة و وجاهة و لكن كانت الرقعة صغيرة و القبائل متـفرقة و حرة و كانت شبه جمهورية بمنطق اليوم. الدولة الأموية كانت دولة مستبدة قوية تـفـرض سلطتها مباشرة و على أوسع نطاق... بهذا المنطق فالثورة التونسية ثورة على تاريخ الاستبداد برمته. ثورة على النسخ البشرية و على الرغبة في الخضوع.. ثورة كهذه ستضل مشتعلة لعقود.. ما يؤشر لصحة هذا التحليل هو صعود الإسلاميين بعـدها و ما هذا الصعود إلا توجيها لمسار الثورة نحو العمق التاريخي يكون فيه الإسلامي محركا للتاريخ و لكن كسالب فقط يستوجب بالضرورة الموجب المتولد عنه كنقيض.. بعدها نـنـتـقـل إلى الدائرة الواقعية الآنية في الصراع و هي بين منطق الملك و التملك و ما يستـتبعه من عنصرية و إقصاء و ظلم و منطق المساواة على أساس المواطنة الحقيقية و الفرص المتساوية للجميع..
تساءلت بابتسامة :
ـ ماذا يفعل التأسيسي إذن وسط هذه المعمعة التاريخية الكبرى؟
ـ هراء. جهد عـبثي لإعادة العفريت إلى المصباح. كان يمكن لهذه اللعبة الرديئة أن تكون شيقة و فيها شيئا من الإمتاع لو كانوا بمستوى الآباء المؤسسين.. أقصد جورج واشنطن و غيره من الحكماء.. التأسيسي ابعد ما يكون عن مجلس الحكماء باستـثـناء البعض منهم طبعا..
قالت بملامح يعلوها الضجر و صوت ممطوط يعرب عن الطرد لدائرة الأفكار هذه:
ـ دعنا من السياسة. ما أتعـس الحاضر. ما أتعس السياسة... هل هؤلاء أهل سياسة؟ كل ما أراه أمامي كائنات مضحكة لا تـثـيـر إلا السخرية. بعيدون آلاف و آلاف الأميال. كم هم خـشبـيون. داخل كل واحد منهم بن علي يريد أن يـزمجـر.. لم يقـتـنعـوا بعـد أن بن علي قد انتهى بل تحول إلى مسخ..
... كان ملقى على كرسي خـشبي متكئ على الحائط الجانبي لمقهى الشعب ذو الباب البلوري العـريض الذي يرمي بك في ردهة شاسعة غاصة بالناس و الدخان و البغبغات. سحب الدخان المنبعث من السجائر و النراجيل تسبح على مستوى الفـوهة لتـذوب شيئا فشيئا في ضوضاء الشارع ذو الرصيف العريض الواسع و البنايات غير المرتفعة. كان جالسا على الكرسي الذي يئن محـدثا قـزقـزات حادة كلما أبدل وضع ساقيه و هو منكب على نفسه بظهر مائل. كأنه ركام من الأحزان و الهلاوس. يتحدث دون هوادة. حين اقـتربت إليه وجـدته يقـول :
ـ المدينة أضيق من خطاك يا بن خلدون..
كان يكرر ترديـد هذا البيت الشعري لصغير أولاد حمد على ما أتصور..
ابتسمت له و حيـيته. رمقني بعينين مستكشفـتيـن. صفاء طفولي يبزغ من تلك النظرة. طلب مني كأس شاي فطلبته له. جذبت كرسيا حديدي القوائم و حاذيته جالسا. تـذكرني و لكنه طفـق يتحدث دون هوادة. كلمات كانت كندف الثـلج لا رابط بينها. أفهمه و لا أفهمه. أهي حكمة أم خضرمة ؟ انه يسبح في المجاز، لغة منزلقة حلزونية تحتمل مختلف التأويلات. يثير فيك السؤال لـتغـيب عنك الإجابات القاطعة..
لماذا ترك الدنيا أم تراها الدنيا قـد تركته أم طردته أم تعـسفت عليه؟ سألته عن حياته فكانت كلماته عـدة أسئلة. هل هو الذي خان زوجته أم هي التي خانته أم هو النفور المتبادل؟ هل وجدها مضطجعة مع رجل آخر أم هي التي وجدته مع امرأة؟ هل غض الطرف و اعـتبر عشيقها من حقها أم أغـضبها عدم اهتمامه بها؟.. كم هو محير. هل طرد من سلك القضاء لرفضه تعليمات السلطة التـنـفيذية أم هو الذي ترك منصبه غيرة على العـدالة أم تهربا من المسؤولية الأخلاقية أم أن القانون غائب فعليا أم هو الذي غيبه و كرهه؟؟؟
اصطبغـت عـيناها السوداوان بجمال أخاذ. يا لجمال الأسود الملتمع بفعل الدموع الغزيرة المنسابة على وجنتيها التـفاحتين. دموعها تغسل قلبي بالعطف و الحنان، دموعها جسر عسلي بين قلبي و قلبها.. سألتها عن باعث الدمع في العينين فأبت إلا أن أكمل سرد الحكاية...
.. كان يتكلم بلهفة و سرعة و دون هوادة. زاد لغوي كثيف . أفكار غاصة متـشابكة يزاحم بعـضها بعضا. تـنافر و تـقاطع و تـقـطعات و تمفصلات. يقـفـز من القانون إلى السياسة إلى التاريخ إلى المناخ إلى المجتمعات إلى البيولوجية و من الفلسفة المادية إلى التصوف الإسلامي.. . ذاك الضجيج من الكلمات كانت تـقـطعه ضحكة يعـقبها ترديد لبيت شعري للمتنبي القائل فيه :
ـ يا امة ضحكت من جهلها الأمم.
كانت تحدق في من الجهة الأخرى المقابلة فتاة بلا عنوان. نظرة شاردة. مسمرة وراء النافذة كأنها صنم . أربكتـني فكرة كونها شبح آت من عالم الأموات. هل هي سحر تنظر إلي من خلالها؟.. لكن نظرة النادل إلي و هو يناولني كأس الشاي أربكتـني. لم تكن مجرد نظرة عابرة. كانت تحمل نفورا و تساؤلا. طالت نظرته و اخترقـتـني . يريد أن يتـفوه بكلمات و لكنه يكبح رغبته بشدة.. يبدو أن جلستي مع مصطفى تـثيـر الاستغراب و الاستـنكار. تأكـدت من هذا الموقف حين تطلع إلي شخصين خرجا من المقهى بنظرة طالت نسبيا عن مجرد النظر العرضي. ساورني إحساس الخطأ و لكن من ماذا؟
يبدو أن مصطفى يعـتبر مجنونا و من يجالسه تسحب عليه تلك الصفة. لكن هيئتي و طلعتي و جرائدي المحملة في يدي تـنـفي هذا الافـتراض. من يعتبرون عقلاء لا يحملون الجرائد في بلدي.. تملكني إحساس عدم الارتياح بل الخوف من الآخرين و من ذاتي..
حين غاب النادل في زحمة الشعب استـشعـرت ارتياحا.. التـفت إلى جليسي فلم أجده. وجدت الكرسي الخشبي العجوز قابع عليه كأس الشاي و سيجارة اعتـقـدت أني قد ناولته إياها.. كانت الفتاة تنظر إلي.. يا الاهي.. كأس الشاي ممتلئ .. من كان معي إذن؟ شبح؟
تملكني الرعب. كان شبحا في ليلة المقبرة و الآن.. أوه.. كنت أتحدث لوحدي.. هل جننت يا ربي؟.. إلتهمني الخجل من نفسي . وضعت قطعة نقدية على الكرسي و هربت من الفتاة و النادل و مقهى الشعب الساخر مني..كنت أود فعلا لو كان بإمكاني أن أهرب من جلدي مثـلما يقولون.. هذه هي حكاية ساكن القبر.. حكاية شبح..
أما أحلام فتأوهت. تبكي بغزارة.
ـ ما بك؟ انبثاق الأحزان أم تـأثـر أم إحساس الخيبة من عـدم بلوغ الغاية التي أردتها؟
مسحت الدموع التي ترقرقت على وجنـتيها بأصابعي. كدت اقبلها لكن سلطان العقـل كبحني. قـلت لأدفع عني رغبة ضمها و تـقبيلها و احتضانها:
ـ بربك تكلمي، أفصحي. لا تتركيني بين العقيـق و زمزم، بين السؤال و السؤال متدحرجا..
بعد فترة صمت محرج، فتحت فاها الجميل. كأني أكتشف جماله لأول مرة. قالت :
ـ انه ليس شبحا.. انه أبي..