عن علاقتي بمؤامرة محمد عايش 1979!


باسم المرعبي
2021 / 7 / 24 - 23:42     

في أواخر تموز من العام 1979، وبعد أيام قليلة من استلام صدام حسين للسلطة، والكشف عن حدث فاصل في تاريخ العراق، هو ما عُرف بمؤامرة "محمد عايش" أو مؤامرة القيادة، حيث تم توجيه الاتهام بالتآمر إلى ما يقارب السبعين شخصية من نقابيين ووزراء وحزبيين كبار. في مثل هذا الجو المكهرب، الذي شهدته تلك الأيام، جاءني أحد الأصدقاء واسمه عبد الكريم عطية وقد عُرف بنشاطه وكتاباته عن المسرح، إضافة إلى وظيفته في سلك التعليم، ليخبرني باحتمال إلقاء القبض علينا لصلة مزعومة لنا بالمتآمرين! فما القصة؟
منذ أواسط السبعينيات كنت أنا والصديق عبد الكريم ننشر في جريدة "المرفأ" وهي جريدة أدبية تصدر في البصرة يرأس تحريرها الأديب والفنان إحسان وفيق السامرائي الذي شغل في الوقت نفسه منصب مدير تلفزيون البصرة، فضلاً عن موقعه الحزبي، القيادي، كبعثي. لم نكن نحن كتاب وقرّاء "المرفأ" معنيين بسوى الفني والأدبي، وهو ما جسّدته الجريدة في خطها الثقافي والأدبي الخالص، وكأنها كانت تصدر بمعزل عن السياسي. على أية حال كان ذلك قبل العام 1979، فقد ضاقت، إن لم تكن انعدمت كل هوامش الحرية النسبية السائدة، بعد انقلاب صدام على الرئيس أحمد حسن البكر، في سيناريو صُوّر على أنه استقالة طوعية للبكر بسبب مرضه. لقد كان السامرائي من ضمن المتّهمين بالاشتراك بالمؤامرة المزعومة. وهي تسمية صحيحة لكن بالمعنى المضاد، أي ان صدام هو المتآمر والملفّق لواحد من أخطر السيناريوهات دمويةً بحق العراق وبحق عدد من كبار الوزراء والشخصيات المدنية والعسكرية في الدولة، حيث تم إعدام إثنين وعشرين من المتهمين، كما حُكم بالسجن على ثلاثة وثلاثين، قُتل منهم تحت التعذيب أربعة عشر شخصاً. لم تكن المسألة سوى تصفيةً لحسابات تخصّ صدام وحده، ويكفي استحضار اسم عبد الخالق السامرائي، السجين، انفرادياً، منذ العام 1973، وزجّه مع المتآمرين، مثالاً، لنسف رواية صدام، برمّتها، عن المؤامرة. إنّ أغلب المستهدَفين كان يُشكّ بولائهم له، وأنهم بشكل أو آخر، كانوا يُحسبون على جناح البكر. يشير إحسان السامرائي في مذكراته ـ التي أعمل على تهئيتها مجدداً للنشر، بعد إعداد أولي سابق ألمحت إليه قبل نحو خمس سنوات ـ إلى معرفته ببعض الوثائق والأسرار التي تدين صدام، حزبياً ورسمياً. من هنا يمكن فهم، وبشكل كامل، التحرك الاستباقي للتخلص من القيادات التي لم تكن على وفاق معه، وأن جلّ هذه الشخصيات كانت ترفض فكرة أن يخلف الرئيسَ البكر في موقعه، لمعرفتهم بتاريخ وشخصية صدام. وقد يكون محمد عايش الذي كان وزيراً للصناعة، أكثرهم مقتاً له ولخططه والأكثر مجاهرةً بذلك. وعوداً إلى ما يخص قصتنا هذه، فقد أخبرني الصديق عطية، وفقاً لما سمعه من آخرين، بأنّ جميع كُتّاب "المرفأ" سيُعتقلون ويُحقّق معهم باعتبار انّ لهم صلة برئيس التحرير إحسان السامرائي، الذي غدا قيد الاعتقال، وحُكم لاحقاً بالسجن عشر سنوات. لقد أصابني الخبر بالحيرة لا الخوف، وإن ساورني شيء من قلق، لكن في قرارة نفسي كنت أشعر بالزهو، باتهام كهذا ـ لو صحّ ـ من نظام عرف بقسوته وجبروته. لقد كنتُ في التاسعة عشرة، أي في ذروة الشباب والعنفوان ولم أكن لأُخفي أفكاري المناوئة. لقد نشرتُ قبل ذلك بسنوات، في مجلة "الإذاعة والتلفزيون" قصيدة برموز شفافة، أسميتها "رويداً جلالة الملكة"، والعنوان في ذاته ينطوي على "رسالة". ابتدأتُ القصيدة بالجملة التالية: من خلف سياج النهر تطلّ رؤوسُ زهورٍ بحياء، واختتمتها بجملة: تعلن تحت الماء ثورتها سمَكة. كانت تلك أيام البدايات، وقد نُشرت القصيدة في صفحة حرة من المجلة، اسمها "ميّاسة" أو "أفكار". عرفتُ بعد سنوات طويلة من واقعة النشر تلك، ومن خلال كتاب زهير الجزائري، "حرب العاجز ـ سيرة عائد، سيرة بلد"، إنّ محرر الصفحة كان هو الكاتب والصحفي سهيل سامي نادر. وربما لو كان آخر غيره يتولى الصفحة، لما نُشرت القصيدة. في فترة لاحقة، أكثر نضجاً ربما العام 1978 أو 1979، وقد كنتُ وقتها في بغداد، طالباً في معهد السكك، نشرتُ في جريدة "العراق" قصيدة في ذات المنحى الاحتجاجي، صّدرتها بمقتبس للفيلسوف والكاتب الفرنسي "ديدرو"، أخذته من رواية "الأحمر والأسود" لستاندال، وهو كما أتذكر: " الوقت الحاضر، يا إلهي إنه قوس المولى، ويل للذي يلمسه". ما بقي في الذاكرة من تلك القصيدة، هو: "حجر في يدكَ يا أعزلْ/ أنبل من لا شيءٍ أنبلْ".
على الرغم من استبعادي، مبدئياً، فرضية اعتقال جميع كتاب "المرفأ" الذين يبلغ عددهم المئات، ممن نشروا فيها على مدى سنوات إلا أنه في الوقت ذاته، كنت أقول إن أمراً كهذا لا يُستبعد، نظراً للسوابق الكثيرة لسلطة البعث في حوادث مشابهة، خاصة حين يتعلق الأمر بشخص مثل صدّام، يعمل بمنطق ومنطلق الحجاج بن يوسف "أخذ القاصي بالداني". وما كان يعزز مثل هذه الهواجس، الحس الأمني المستنفَر للسلطة والتفكير بأن يكون الكثير أو البعض، ممن نشر في "المرفأ"، خاصة الشباب، على صلة ما برئيس تحريرها. ومما يحضر في هذا الصدد وكان يذكي لديّ القلق من احتمال اشتباه السلطة بكتّاب "المرفأ"، الاهتمام الذي أبدته الجريدة بمقال لي نُشر سنة 1976، أو نحو ذلك، عن كتاب أحلام مستغانمي "الكتابة في لحظة عري"، فقد أحتل معظم مساحة الصفحة الداخلية الأولى للجريدة، وهو ما فوجئت به، عدا عن مستطيل أعلى الصفحة شغلته كلمة لرئيس التحرير عن الشباب وأهمية العناية بهم، أو شيء من هذا القبيل، وهو ما فهمته كنوع من التحفيز والدعم لأفكار المقال ولي شخصياً، خاصة أنّ الكتاب يحتشد بأجواء التمرد والرفض واللامهادنة. وليس بالمستغرب أن يلتقط السامرائي مثل هذه الأفكار، لا سيما وأن مستغانمي كانت في سنّ الشباب، أيضاً.
لم يحدث الاعتقال ومرت الأيام وكبرت هواجس القصيدة والأفكار المناوئة التي اتخذت أكثر من شكل ومنحى للتعبير عنها، فلم يتوقف الأمر عند حدود النص والرأي بل امتدّ إلى ما هو عملي، وبذات اليد التي تكتب، كأن يتم تمزيق لافتة أو تعفير شعار أو صورة لصدام بالوحل، أما هاجس المطاردة والاعتقال الفعلي، هذه المرة، وطوال الثمانينيات، كان واضحاً ومؤكّداً ومؤرّقاً. ولسيرة كهذه ستكون وقفة ومساحة أُخرى، غير هذه.