حاضر يستحضر الماضي .. وأخيرا


سعيد مضيه
2021 / 7 / 24 - 13:36     

تعقيم الجروح النازفة وتضميدها او الغرغرينا تسمم الجسد كله

لم يعقد المؤتمر في الموعد المقررعام 2016. تم تأجيله للمرة الرابعة ؛ وفي تلك الأثناء تم إغفال الاختلالات المشار اليها في النقد الذاتي، لتستمر أعطابا تستفحل وتردي بالحزب وتدهور مكانته في مجتمعه وداخل الحركة الوطنية، كما في الحياة السياسية. لعقد المؤتمر في شباط 2020، وتم الـتأجيل بناء على رغبة ذاتي يحق التساؤل في هذه الظروف المعقدة والمحفوفة بمخاطر الاقتلاع وتصفية القضية الفلسطينية لصاالح المشروع الصهيوني، كيف أغفلت قيادة الحزب ما ورد في تقريرها المقدم نهاية العام 2015 بأن " قدرة حزبنا على التصدي لمهامه الوطنية والاجتماعية –الديموقراطية في ان ، باتت تتطلب تحت ضغط هذه العوامل والمتغيرات أهمية تعزيز وحدة الإرادة والعمل في الحزب ، وإعادة الاعتبار الى هذه الإرادة استنادا الى تعميق الوحدة الفكرية والسياسية والتنظيمية باعتبارها كلا متكاملا ، وذلك انطلاقا من تعميق هوية الحزب وطابعه ورؤيته الفكرية والاجتماعية من جهة ، وتعزيز بنيته التنظيمية وتماسكه على قاعدة العضوية الفاعلة والنشطة والمنضبطة من الجهة الأخرى". كيف طاوع الضمير الوطني استمرار الخطايا التنظيمية والفكرية ؟ لماذا الصمت طوال أعوام عن الاختلالات المشار اليها؟ الم تتفاقم الاختلالات مع تجاهلها، ما يشكل خطورة على كيان الحزب وعلى القضية الوطنية ؟ هل آفة الاستيطان قدر لا يرد ام أنه استثمار لميوعة المقاومة الفلسطينية وازمتها المستفحلة؟
الحزب ينبغي حضوره الدائم مجهزا أدواته الكفاحية كافة، يربي الكوادر الشابة تحاور وتتقف سياسيا وفكريا، وتنظم الأنشطة النقابية للمنظمات الجماهيرية من خلالها تلتصق بالجماهير وتكسب ثقتها، تلتقط أفضل العناصر المستعدة للسمو باهتماماتها لما هو أوسع من المصلحة الذاتية أو مصلحة الأسرة. جرى إحياء التقرير ومقترحاته بصدد تطوير أداء الحزب في نوفمبر 2019 ، حيث تقرر من جديد الإعداد للمؤتمر عام 2020.. تعطلت الحياة الحزبية؛ استعيض عنها بترقيات من لجان المركز والذي ادى الى عزوف رفاق عن العمل الحزبي، بالإضافة الى لا مبالاة قاتلة وإحباط. واخطر من هذا كله الفشل في تقديم كوادر شبابية خلال هذه الفترة من حياة الحزب والحياة السياسية للبلاد.
ورافق عدم انتظام النشاط الحزبي عدم انتظام دفع الرفاق لاشتراكاتهم وبالتالي فقد الحزب مصدرا هاما للدخل وعطل علاقة داخلية تشد الرفاق الى الحزب . قيل سابقا إما فقدان الحزب استقلاليته السياسية أو الشروع في الاعتماد الذاتي ماليا عن طريق العودة الى دفع الاشتراكات وجمع التبرعات! في نفس الوقت زيدت أعداد مكاتب الحزب وأعداد الرفاق المتفرغين دون أن يؤدوا مهام تنظيمية وعملية ورقابية . شرعت قيادة الحزب تبحث عن وسائل أسهل لتوفير نفقات الحزب .
حسب علمي وانا خارج الأطر التنظيمية، شأن المئات من المحسوبين على حزب الشعب، لم تنشر قيادة الحزب تقييمات او حتى تقارير عن الحياة الحزبية في المناطق ولا حتى نشرات داخلية للرفاق فقط، وقد ضاعف المشكلة أيضا، انعدام تدفق المعلومات عن نشاط الحزب في المناطق، ليتسنى للقيادة اتخاذ القرارات المناسبة لرفاق الحزب تعينهم في عملهم الجماهيري وتحافظ على دورهم القيادي الذي عرف عن الشيوعيين عبر تقلبات الأوضاع السياسية ، حيث وعت الجماهير ولمست الدور المهم للرفاق الشيوعيين.
وبتجميد النشاط التنظيمي جرى أيضا تجميد النشاط التثقيفي، وتفككت العلاقة الجدلية بين التنظيم والوعي. وهذا منشأ انحسار نفوذ الحزب في الجامعات والمعاهد التعليمية الأخرى ، علما أن الماركسية هي النظرية العلمية ، ويفترض في البيئة العلمية ان تجتذب الشباب الى الماركسية واستلهامها. الشاب يكتسب القدرات والمهارات الأساس لنشاطه العملي والسياسي في العشرينات من العمر . وعندما تنقضي حقبة أربعة عشر عاما بدون اكتساب مهارات او معارف ، او خبرات ندرك مبلغ الخسارة التي لحقت بحزب أخذ على عاتقه تربية الكوادر وتوسيع العضوية وتبية الجماهيرسياسيا وفكريا . باتت عضوية الرفاق في الحزب منشفية هلامية او مزاجية كعضوية الأندية الاجتماعية.
ضاعف من تعقيد الأمور أن فصائل يسارية برزت في ميدان الكفاح المسلح، واكتفت بتنظيمات مسلحة، متوهمة ان الكفاح المسلح ، يغدو بصورة آلية أرقى أشكال النشاط السياسي. إن استنهاض الجماهير الى النشاط العملي هو الرافعة للنشاط السياسي نحو ذروة الكفاح المسلح وفق النظرية الليننية. تصعيد النشاط الجماهيري يرفع سوية الوعي السياسي للجماهير لتغدو القاعدة لتحول الجماهير الى عامل فاعل وقوة اجتماعية لليسار. الماركسيون الجدد أغفلوا الجانب الهام والأساس في المقولة اللينينية ، بأن النشاط العسكري الناجح يرتكز الى نهوض شعبي عارم؛ إنهاض الجماهير شرط لابد منه للنشاط السياسي المحول للواقع.
غلب مظهر القيادة الأوامرية على علاقات التنظيم الداخلية، وانعكست تلك العلاقة الأوامرية في التعامل بلغة الإكراه مع الجمهور. التنظيم العسكري لم يحل دون حركات فلتان غير مسئولة وخروج البعض على النظام والقانون. الانضباط الحقيقي وليد الوعي الثوري، ولا يتحقق بالأوامر العسكرية. حقا ما خلص اليه المفكر الفلسطيني ، هشام شرابي، في كتابه النفيس المغْفل بمؤامرة صمت، "البنية الأبوية إشكاليات التخلف في المجتمع العربي"، باقتراح التحول عن أسلوب الكفاح المسلح للثورات الفييتنامية والكوبية ؛ الكفاح المسلح يفضي الى نظام أبوي؛ بينما الحراك الشعبي الديمقراطي يعزز شروط العلاقة الديمقراطية بالمجتمع. . فهي بيئة انتعاش الديمقراطية في الحياة السياسية والاجتماعية. قدم شرابي كمثال مفضل الانتفاضة الفلسطينية عام 1987.
أثناء تلك الانتفاضة سمحت طبيعة المقاومة الشعبية باستنهاض الجماهير وإكسابها مقادير متفاوتة من الوعي السياسي من خلال المشاركة في الأنشطة الجماعية. في خضم النشاط الجماعي تفجرت طاقات كفاحية لم تحسن الفصائل استثمارها وتطويرها. بالعكس تنامى النزوع الى العمل المسلح، وسيلة لانتزاع الشعبوية ، ومن ثم القيادة الوطنية من حركة فتح.
إن وظيفة الحزب الماركسي أن يعزز وحدة الإرادة الذاتية أولا و يضطلع بدور المنسق والمنظم لأنشطة مختلف الهيئات الشعبية الاقتصادية والسياسية والثقافية. إنه بذلك واسطة نقل الوعي الطبقي و قيم التقدم إلى الجماهير من خلال استدراجها إلى النشاط الاجتماعي المغير للواقع. الحزب الطليعي ينخرط بالضرورة في النضالات السياسية والاجتماعية ، وفي عملية بناء نواة مؤهلة للتأثير في الجماهير وتأطير تحركاتها ضمن حركة شعبية ديمقراطية من خلال روافع وعتلات ، هي عبارة عن منظمات أهلية مهنية ونقابية ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان وعن البيئة ومناهضة إفرازات نشاط الاحتكارات الرأسمالية .
الامبريالية، في صيغتها الليبرالية الجديدة، تركز جهودها في العدوان الثقافي، يتوجب التصدي له. ماركس لم يقتصر إنجازه على مجرد صنع أداة نقابية فعالة، وإنما دشن مشروعاً حضاريا ثقافيا جديداً يهدف إلى خلق نمط جديد رفيع من الحياة الإنسانية، وروحية ثقافية جديدة، ونظام قيمي جديد. لذلك، فإنه لا يمكن تنفيذ المشروع الماركسي لا بالسلاح وحده، ولا بالوعي التقليدي السائد ، الذي يعكس خضوع الكادحين لهيمنة الفكر البرجوازي. حتى الكفاح المسلح يشترط مستوى رفيعا من الوعي تتم من خلاله عملية تغذية مزدوجة بين الحراك الشعبي والعمل المسلح. بهذه الرؤية تنبع ديمقراطية لينين وغرامشي وإدراكهما لضرورة المشاركة المتنامية للجماهير العمالية في السياسة والثقافة عبر المجالس والمؤسسات الشعبية المتنوعة. هكذا تتملك الجماهير الفكر الماركسي العلماني التام العلمنة، وهكذا يتطور هذا الفكر.
ضضمن هذا الإدراك للعلاقة بين الوعي والتنظيم يمكن الاستدلال على ثلاث قضايا محورية أهملها الماركسيون :
القضية الأولى، نظام ابوي جامد ومتكلس يعادي العلم ويعجز عن حل المهمات ، يرفض المشاركة وهمه الاحتفاظ بالسلطوية المستبدة وإملاء الأوامر والتعليمات . اكتسب النظام الأبوي مزيدا من السيطرة إثر التداعيات المرتبطة ببروز الليبرالية الجديدة والتكييفات الاجتماعية واقتصاد السوق التي طرحتها.
الأبوية ترفض الديمقراطية والوحدة العربية ، وتتحدى القوانين ، حتى تلك التي تصيغها. معايير اختيار المسئولين، وعزلهم، تعتمد الولاء بديلا للكفاءة . الولاء في الأنظمة الأبوية مقدم على الإنجاز؛ وأصحاب الحظوة يخشون أصحاب الكفاءات ويقصونهم ، ومن ثم فالمجتمعات العربية طاردة للكفاءات منذ عقود. تسربت هذه الممارسات عن طريق عدوى العرف الفاسد إلى كثير من الشركات المساهمة فى القطاعين العام والخاص. لحقت العدوى بالهيئات الأهلية والأحزاب السياسية، فلا صوت إلا صوت رئيس أو المدير، ولا إرادة تعلو فوق إرادته. النظام الأبوي يرعى التخلف ويتمسك بالتبعية ، ولن يصل مجتمع عربي الى الحرية ويمضي على درب التقدم دون الإطاحة بالنظام الأبوي واجتثاثه من الأساس.
والقضية المنسية الثانية المترتبة عن شيوع الإدارة الأبوية أعطت الليبرالية الجديدة دفعة قوية للحركات السلفية التي نشطت في الأقطار العربية تنشر الدمار والقتل العشوائي بدون تمييز. لقد دفعت المجتمعات العربية غاليا جراء تسخير الدين لأغراض السياسة. وفي معرض التنصل من الوهابية اعترف محمد بن سلمان ان الوهابية سخرت لغايات سياسية بطلب من امبريالية الغرب. تصدت للشيوعية بمضمونها حركة تحرر وتقدم للمجتمعات العربية . التكفير الديني لا ينبع من قراءة لنصوص الدين ، بل ان مصدره اختلالات شخصية ناجمة عن نظام سياسي قهري يفرط بحقوق البشر. تستحيل النظرة العقلانية للدين بدون تغليب العقلانية في الوعي الاجتماعي والممارسة الاجتماعية عن طريق تطوير العملية التعليمية وإدخال العلم في الإنتاج الاجتماعي.
كابدت الشعوب العواقب الكارثية لدمج السياسة بالدين، وتسخير الدين لستر أغراض سياسية. الدين هو المحرك الأكبر للجماهير العربية، ومازال هو العامل الأهم فى تحديد سلوكها السياسي وتشكيل وعيها وطريقة تفاعلاتها مع نفسها ومع الآخرين؛ ومن ثم فإن فصل الدولة عن الدين – فصل الدين عن المجتمع لم يطرح على الإطلاق - ينبغي ان يستبدل بتجديد الخطاب الديني بتخفيفه مما لحقه من فتاوى فقه الظلامية والاستبداد والإقصاء الطائفي. غالبية دول العالم الحديث على درجات متفاوتة من التماس مع الدين ومؤسساته ورجاله. يراعي تأطير العلاقة مع الدين محددات الحرية الدينية وحياد الدولة بينما تضمن للجميع الحق في الوصول الى واستخدام ثمرات العلم واللجوء الى ترتيبات العقل والخبرة الإنسانية في المجالات الدستورية والقانونية والفلسفية والتربوية.
إن تطور انماط حياة البشر يتم بتأثير ثورات اجتماعية أو ثورات تقانية- صناعية أحدثت تمايزات وفروقات بين الكيانات الاجتماعية. يبرز في ضوء هذه الثورات مشاكل وأسئلة تقتضي التفكير بهدف الاستجابة السليمة لضروراتها ووضع التشريعات الجديدة لمواجهة تأثيراتها. إذن لا وجود لأنساق قانونية او قيمية سرمدية؛ ومقاربة القضايا الاجتماعية الطارئة بغير التفكر والتدبر إنما يخضعها للمزاج الشخصي الحامل بصمات التجربة الذاتية والسمات الخاصة ويناقض دعوة الدين للتفكر والتعقل.
اما القضية الثالثة المغْفلة في نشاط الفصائل فهي التربية والتعليم، ينظر أليها اختصاص تربويين، علما بأنها نشاط سياسي بامتياز تحتكره الأنظمة والسيطرة الكولنيالية لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية وتدعيم القهر والاستلاب في الحياة الاجتماعية. فالتعليم التلقيني ليس مجرد أسلوب متبع تقليديا؛ إنما هو توجه سياسي بامتياز، يقيم علاقة سيطرة وخضوع داخل المدرسة. المطلوب أن تسود علاقة احترام متبادل تحل التعليم الحواري بدل التعليم التلقيني، والتركيز على التطبيق العملي وعدم الاقتصار على التعليم النظري ؛ فما بين الثقافة الدارجة والعملية التعليمية علاقة تغذية وتغذية ارتجاعية ، وعلى التعليم رفد ثقافة الممارسة والإبداع والتفكير النقدي.
وخلافا للتقليد السائد حيث يبدأ اهتمام الآباء بتعليم الابن لدى انتهاء الدراسة الثانوية والتوجه للتعليم الجامعي؛ يتوجب الاهتمام بتعليم الطفل والاستثمار في الطفولة ، فهو يعود بأجزل عائد. يدرب الطفل على المطالعة ، ويقدم له ادب الخيال والخيال العلمي ، كما يحترم رأيه في اختيار ملابسه وألعابه، وعدم تعريضه للسخرية او للعقاب البدني. باتت تربية الأطفال علما وضرورة تخضعها لإشراف المجتمع وأصحاب الخبرة وعدم ترك الطفل تحت رحمة أولياء امور جهلة يقتصر رد فعلهم على العنف والقسوة لتقويم أخطاء الطفل.
قضايا تحتفظ بأهمية استثنائية في الظروف التي تتلمس فيها قوى التغيير الاجتماعي سبل الفكاك من المأزق؛ وهي وليدة تفكير جماعي وقضية خلاص .
لمن يسأل ماذا أنجزتم خلال هذه الحقبة الطويلة نقول ان النشاط السياسي جانب من صراع اجتماعي يتضمن التقدم والتراجع ، والنجاح والانتكاس، بينما تنغرس في التربة الاجتماعية قيم تنتظر موسمها . وخلال عقود من النشاط الحزبي سجلت النضالات الوطنية جولات ووقفات عز؛ أدخل في النشاط السياسي تقاليد التحدي والروح الصدامية في مواقف الاعتقال والتحقيق والمحاكمة والسجن، ودمجت الكفاح الشعبي بالتربية السياسية والفكرية للمناضلين؛ ميزت الوعي الثوري، عن المزاج الثوري: الثاني يتبدد بزوال ظرفه وملابساته؛ اما الوعي الثوري فهو أنيس المناضل دعامة صموده واشتداد عزيمته الكفاحية. أكد الشيوعيون بالممارسة أن نضالهم نوعي متميز بجهود إدخال الجماهير معمعان النضال بوعي واقتدار ، قوة اجتماعية تتميز بوعي الواقع المراد تغييره وتفتح الأفق على البديل .