حوار حول افاق الماركسية واليسار في العالم العربي


سعود قبيلات
2021 / 7 / 24 - 13:21     

حوار مع قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب حول افاق الماركسية واليسار في العالم العربي


س1 – في زمن هيمنة الأنظمة النيو ليبرالية في العالم، حيث توجد ديمقراطية والناس تختار من يمثلها عبر صناديق الاقتراع، غير أن الحال لا يتغير!! لماذا وماذا يحصل بالضبط؟ وما هو المخرج من هذا الوضع كله؟

نحتاج، أوَّلاً، أن نحدِّد ماذا نقصد بالدِّيمقراطيّة..

الدِّيمقراطيّة – كما يحاول أن يوحي الليبراليّون – عمليّة محايدة، ولها معنى واحد محدّد هو بالتَّعيين الدِّيمقراطيّة البورجوازيّة؛ حيث صندوق الاقتراع (وما قبله وما حوله) مصمَّم ليحصر تداول السّلطة بالشَّرائح العليا من الطَّبقات البورجوازيّة ويخدم مصالحَها، على حساب الطَّبقات الشَّعبيّة ومصالحِها الأساسيّة.

الدِّيمقراطيّة في الواقع ديمقراطيَّات.. وما يحدِّد شكلَها ونوعَها، ويحدِّد مَنْ يستفيد بها وعلى حساب مَنْ (وهذا هو الأهمّ)، هو مضمونُها الاقتصاديّ الاجتماعيّ.

وعلى سبيل المثال، الدِّيمقراطيّة البورجوازيَّة تقوم على قوننة الاستغلال الطَّبقيّ والتَّهميش السِّياسيّ لأوسع فئات الشّعب؛ ولذلك، فالمستفيد بها هو الأقلِّيَّة البورجوازيَّة فقط، وأمَّا غالبيّة الشَّعب فخاسرة سلفاً ودائماً بالضَّرورة.

والغاية مِنْ هذا النَّمط من الدِّيمقراطيّة هي تنظيم التَّناقضات وترشيد الصّراعات بين شرائح الطَّبقة البورجوازيَّة الحاكمة، مِنْ أجل الحفاظ على بقاء السّلطة محصورةً في يدها، وإدامة تهميش الغالبيّة السَّاحقة من الشَّعب وإبعادها عن دفّة السّلطة.

وهنا، يكون تداول السّلطة مقيّداً وزائفاً؛ في الولايات المتَّحدة، على سبيل المثال، ينحصر تداول السّلطة منذ زمنٍ بعيد في حزبين يمثِّلان شريحتين من الأقلِّيَّة الطَّبقيّة الحاكمة. إنَّهما في الواقع حزبا النِّظام والمؤسَّسة الحاكمة. وهذا ينطبق أيضاً على بريطانيّا، وقد انتقلت العدوى في العقود الأخيرة إلى العديد مِنْ دول أوروبّا.

وهنا، يُسخِّف الليبراليّون الأمر، فيذمّون نظام الحزب الواحد بينما هم يغضّون النَّظر عن نظام الحزبين (نظام الأقلِّيَّة الطَّبقيَّة)، ويعتبرونه نموذجاً للدِّيمقراطيّة المنشودة.

في هذا النَّمط من الدِّيمقراطيّة، يكون الوضع هادئاً وسلساً ما دامت الأغلبيّة الشَّعبيّة مستسلمة أمام واقع قهرها واستغلالها من البورجوازيّة، وما دامت راضيةً بالقسمة الضّيزى بينها وبين البورجوازيَّة.. حيث لا يبقى لها، بعد كلّ ما تستولي عليه هذه الأخيرة، سوى الفُتات وما يضمن بقاءها على قيد الحياة والاستمرار في خدمة مصالح الطَّبقة المهيمنة.

أمَّا إذا ظهرتْ أيّ بادرة مِنْ بوادر الرَّفض الشَّعبيّ الجدِّيّ، فإنَّ العنف والبطش هما الوجه الَّذي ستُظهره الطَّبقة الحاكمة عندئذٍ.

في روايته «العقب الحديديّ» الصَّادرة في مطلع القرن الماضي، يكشف الكاتب الأميركيّ الشَّهير جاك لندن، عن النَّزعة الفاشيّة الكامنة في «الدِّيمقراطيَّة» الأميركيّة. فما إن تصبح الأغلبيّة الشَّعبيّة المستَغَلَّة قادرةً على الحضور بقوّة وتعبِّر عن نفسِها ومصالِحها بوعيٍ وفي إطارٍ منظَّم، حتَّى تضع البورجوازيَّة الحاكمة قفَّازاتها النَّاعمة جانباً وتلجأ إلى القبضة الحديديَّة، لتسحق بها بلا رحمة كلَّ المدافعين عن مصالح الأغلبيّة الشَّعبيّة.

وقد رأينا نبوءة جاك لندن، هذه، تتحقَّق بوساطة سياسة المكارثيّة ذات النَّزعة الفاشيّة، بعد بضعة عقود مِنْ صدور روايته تلك. آنذاك، لوحق بقسوة الكثير من النَّاس، وتمَّ التَّفتيش في ضمائرهم، وعُوقِبوا على أفكارهم الَّتي لا تنسجم مع مصالح الأقلِّيَّة الحاكمة، وسُحِقَ كثيرون.

يمكن الرّجوع في هذا الشّأن إلى أكثر مِنْ مقال لي عن المكارثيّة منشور في مدوَّنتي أو في موقعي الفرعيّ لدى «الحوار المتمدّن».

أُذكِّر، هنا، أيضاً بالتَّعامل الوحشيّ مع المتظاهرين في سياتل الَّذين خرجوا إلى الشَّارع للاحتجاج ضدَّ نمط الرَّأسماليّة المتوحِّشة قبل حوالي عقدين.

وفي النِّهاية، النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ، بمجمله، ليس نظاماً ديمقراطيّاً.. حيث تُنصِّب «مجموعةُ السَّبعة الكبار» نفسَها وصيَّةً على العالم كلّه، بل يبلغ بها الأمر حدَّ أنَّها كثيراً ما تستخدم مصطلح «المجتمع الدَّوليّ» لتقصد نفسها حصراً. وهذه وقاحة ما بعدها وقاحة؛ فكأنَّ باقي الدَّول والشّعوب غير موجودة ولا حساب لها!

أمَّا «الدِّيموقراطيَّة» الَّتي تُحبِّذ المراكز الرَّأسماليّة الدّوليّة وجودَها في هوامش النَّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وتدعمها بقوّة، وسط ضجيجٍ وصخبٍ كبيرين عن الحرّيّة وحقوق الإنسان، فهي تلك الَّتي تضمن حصر السُّلطة في يد الكمبرادور وعملاء النّفوذ، ويُستبعَد منها أيُّ برنامجٍ للتَّحرّر الوطنيّ والاشتراكيّة (أو حتَّى ما يُسمَّى العدالة الاجتماعيّة).

وفي هذه الحالة، فثمَّة سؤال ضروريّ ملحّ هو: كيف يكون لشعبٍ أن يمتلك حُرّيَّته إذا كان بلدُه ليس حُرّاً؟!

في السّنوات العشر الماضية، سعى الغرب، بقوّة، تحت مسمَّى «الرَّبيع العربيّ»، إلى إيصال أكثر مِنْ بلدٍ عربيّ إلى مثل هذا النَّمط من «الدِّيمقراطيّة» المزعومة، لكي يجدِّد دماء الأنظمة العربيّة التَّابعة الَّتي بلغت مرحلةَ انتهاء صلاحيَّتِها، وأيضاً لكي يستعيد الأنظمة المستقلّة الَّتي لديها مستويات متفاوتة مِنْ برامج التَّحرّر الوطنيّ (سوريا، ليبيا، الجزائر.. الخ) إلى حظيرة التَّبعيّة، تحت مسمّى الحرّيّة والدِّيمقراطيّة.

إنَّها محاولة للعودة إلى نمط الأنظمة الليبراليّة الَّتي كانت سائدة خلال النِّصف الأوَّل من القرن العشرين في عددٍ من البلدان العربيّة. ويراهن أصحاب هذا المشروع على احتمال أن تكون الشّعوب العربيّة قد نسيت أنَّ هذا النَّمط من الأنظمة قد فشل تماماً في السَّابق، وأنَّ فشله استدعى في حينه انتفاضَ الشّعوب العربيّة ضدّه وإطاحتَها به.

الجديد في هذه العملية هو ما سُمِّي بـ«خطّة أوباما» الَّتي كانت تهدف إلى تسليم «الإخوان المسلمين» دفّةَ السّلطة في الأنظمة العربيّة التَّابعة (والمستقلّة أيضاً، بعد تتبيعها) لتعطي التَّبعيّة طابعاً دينيّاً قُدسيّاً وتمدّ بعمرها؛ حيث يصبح الرِّبا «مرابحة»، والنَّمط الاقتصاديّ لليبراليّة المتوحِّشة «اقتصاداً إسلاميّاً»، وحُبُّ التَّملّك «فطرةً ربَّانيَّة»، والتِّجارةُ نشاطاً اقتصاديّاً مباركاً، وفائضُ قيمة العمل «رزقاً حلالاً» للرَّأسماليين، وحُرِّيَّةُ رأس المال (والسّوق) وما ينجم عنها مِنْ تمايز طبقيّ وظُلم اجتماعيّ قدراً ربَّانيّاً لا رادّ له، ولكن يمكن التَّخفيف (التَّخفيف فقط) مِنْ جورها وظلمها بوساطة أعمال الإحسان والتَّصدّق وما إلى ذلك.

هذا المسار وصل إلى طريقٍ مسدود بفضل صمود سوريا في وجهه، وبسبب انتفاضة 30 حزيران/يونيو 2013 الَّتي أطاحت به في مصر، وانكشاف حقيقة أنَّ «الإخوان» عند وصولهم إلى السّلطة ليس لديهم أيّ برنامج لتحقيق المطالب الشَّعبيّة، وأنَّ برنامجهم الحقيقيّ هو «التَّمكين» لإقامة دولة ثيوقراطيّة أشدّ بؤساً واستبداداً من الأنظمة الَّتي تمَّت (أو تتمّ) الإطاحة بها.. وسوى ذلك يظلّ كلّ شيء على حاله وأسوأ.

في أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وهوامشه، القضيّة المركزيّة هي قضيّة التَّحرّر الوطنيّ. واستبعاد برنامج التَّحرر الوطنيّ، في عمليّات التَّغيير الَّتي جرت خلال العقد الماضي في عددٍ من البلدان العربيّة، ثمَّ توهّم أنَّه يمكن بعد ذلك الفوز بالحُرّيّة والدِّيمقراطيّة – أدَّى إلى هذه المراوحة وإلى هذه الحلقة المفرغة الَّتي تفضَّلتِ بالإشارة إليها في سؤالك.. حيث أنَّ ما جرى فعليَّاً هو تغييرات شكليّة.. في حين بقي النِّظام التَّبعي على حاله. وهذا هو الأمر الجوهريّ.


س2 – التزاوج بين أصحاب رؤوس الأموال ورجال السلطة يولد عنه الفساد وخصخصة القطاعات العامة، وفي ظل الأزمات المالية التي تحاصر الشعوب العربية برأيك هل هناك أمل في اصلاح سياسي يولد من رحم كل هذه الفوضى العارمة؟

العمود الفقريّ للسّلطة في الأنظمة التَّابعة هو الفئات الطُّفيليَّة من الكومبرادور وعملاء النّفوذ. وهي فئات تعتمد في ثرائها على التَّنفيع.. التَّنفيع مِنْ ما تجود به عليها الدّوائر الرّأسماليّة الدّوليّة مِنْ رشى وأعُطيات لبعضها، وما تبيحه لبعضها مِنْ فرص الكسب الاقتصاديّ الخارجيّ بكلّ أنواعه، وكذلك ما تبيحه لها داخليّاً مِنْ أعمال النَّهب والسَّلب واللصوصيّة.

ولذلك، فرغم أنَّها تتحدث طوال الوقت عن الخصخصة والقطاع الخاصّ وما إلى ذلك، إلا أنَّها تحرص على الالتصاق بشدّة بجهاز الدَّولة، كما نرى نوعاً من التَّداخل والمرونة في التَّنقّل بين الكومبرادور وبين المراتب العليا من الجهاز البيروقراطيّ؛ الموظَّف الكبير في الجهاز البيروقراطيّ يمكن بسهولة أن يتحوَّل إلى برجوازيّ كومبرادوريّ، والبورجوازيّ الكمومبرادوري يمكن أن يتبوأ وظائفاً عليا في الجهاز البيروقراطيّ ويعزِّز مصالحَه الخاصّة عن هذا الطَّريق.. الخ. الأمر الَّذي حوَّل دوائرَ السّلطة والقرار في بعض البلدان العربيّة التَّابعة إلى ما يُشبه العصابات.. ولا أقول المافيات.. فالمافيات لديها قيم ومعايير تحكم عملها.. بخلاف هؤلاء.

والفساد والاستبداد ملازمان لليبراليَّة المتوحِّشة في الأنظمة التَّابعة الآن؛ لأنَّه لا يمكن فرض مصالح الأقلِّيّة البورجوازيّة الطّفيليّة الحاكمة على حساب مصالح الأكثريّة الشَّعبيّة المسحوقة مِنْ دون أن يتفشَّى الفساد نتيجة ذلك ومِنْ دون أن يتمَّ اللجوء إلى الاستبداد لإتمام ذلك.

بالخلاصة، لا مخرج مِنْ هذا المأزق إلا ببرنامج جدِّيّ وجذريّ للتَّحرّر الوطنيّ والتّحوّل الدِّيمقراطيّ (الدِّيمقراطيّ بالمعنى السِّياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والثَّقافيّ). لذلك، لا أرتاح لمفردة «الإصلاح»، ولا أعتقد أنَّ «الإصلاح» ممكن في هذه الحالة. الكلام عن «الإصلاح» يتجاهل حقيقة أنَّ المشكلة بنيويّة؛ فالتَّبعيّة بنية اجتماعيّة اقتصاديّة كاملة متكاملة وتتجاوز الواقع المحلِّيّ لتصل إلى ما تمثِّله هذه البنية في إطار النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ.

الأمر، إذاً، لا يتعلَّق بمجرَّد خلل سطحيّ جزئيّ أو عَرَض طارئ يمكن إصلاحُه.

إذا كانت هناك نيَّة لحلّ المشكلة حلّاً حقيقيّاً – وأنا هنا أنطلق مِنْ واقع بلادي الأردن – فلن يجري الحديث عن «الإصلاح»، بل عن عمليّة تغيير عميقة تشمل إنهاء التَّبعيّة وإعادة بناء الدَّولة على أسس الاستقلال والتَّنمية الوطنيَّة المتمحورة على حاجات البلاد وحاجات الشَّعب، وإعادة توزيع الدَّخل والثَّروة لصالح أوسع القطاعات الشَّعبيَّة، وإقامة نظام سياسيّ ديمقراطيّ، وإشاعة الحُرِّيَّات العامّة والشَّخصيَّة، وتجهيز البنية التَّحتيّة الخاصَّة بالنّهوض بمختلف شروطها..

وهذا لا يمكن أن يُسمَّى إصلاحاً.

وفي السِّياق نفسه، فأنا لا أتَّفق أيضاً مع الرَّأي القائل إنَّ الأزمات الَّتي تحاصر الشّعوب العربيّة الآن هي مجرَّد أزماتٍ ماليّة؛ كلّا؛ إنَّها أعمق مِنْ ذلك بكثير، كما سبق أن رأينا.


س3 – أي نوع من الحراك السياسي وأي يسار مطلوب ليقف بوجه هذا الانحدار السياسي؟

الحلول (والأدوات الَّتي ننجز بها هذه الحلول) ليست جزافيَّة، بل تقرِّرها طبيعة المشكلة. وكما سبق أن أوضحتُ، المشكلة الأساسيّة في بلادنا العربيّة هي التَّبعيّة. وما دام الحال كذلك، فإنَّ الحلول الحقيقيّة تُستَمدّ مِنْ هذا الواقع الماثل.. هذا الواقع، الَّذي يُغيِّب استقلال البلد التَّابع، ويُعطِّل تنميته الوطنيّة، ويُغرقه في مستنقع الفساد، ويمنع نهوضه، ويُخضِعه للجور والاستبداد.. سواء أكان بقالب ليبراليّ زائف أم بقالب أوتوقراطيّ فاضح، ويُفقِر أوسع القطاعات الشَّعبيّة ويحرمها مِنْ حاجاتها الأساسيّة ومِنْ شروط الحياة الإنسانيّة السَّويَّة.

الحلّ، إذاً، هو في برنامج دقيق يعالج هذه المعضلات، ويتجاوزها. وهذا بالضَّرورة برنامج يساريّ، بغضِّ النَّظر عن مسمَّى الجهة الَّتي تتبنَّاه وتقوم بتنفيذه. وفي هذا تكمن وجاهة سؤالكِ عن اليسار المطلوب.

ونجدنا هنا بحاجة ملحّة إلى إعادة تعريف اليسار..

لقد تعرَّض مفهوم اليسار، خلال العقود الأخيرة، للكثير من التَّشويش والإزاحات المضمونيّة. أُذكِّر، على سبيل المثال، بأنَّ يلتسين وجماعته، كانوا في البداية يطلقون على أنفسهم مسمَّى «اليسار» ويسمّون الشّيوعيين يميناً!

آنذاك، كان اليسار، بالنِّسبة ليلتسين وجماعته، يعني العداء للقطاع العامّ، والدّعوة إلى بيع ممتلكاته للّصوص الَّذين كانوا يُسمّون «رجال أعمال»، وتفكيك الدَّولة السّوفيتيّة وانتقال أجزائها من الاستقلال إلى الدَّوران في فلك الغرب.. وخصوصاً الولايات المتَّحدة.

كانوا، في تلك اللحظة، مضطرّين للتَّحايل على الثَّقافة السَّائدة الَّتي كانت تنظر إلى مفهوم اليسار بإيجابيَّة، فسمّوا أنفسهم يساراً ليُجروا تحت هذه اليافطة تغييراً يمينيّاً جذريّاً.

وبعد انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ، تحوّل كثير من الشّيوعيين عن أفكارهم السَّابقة وتبنّوا أفكار الليبراليّة المتوحِّشة؛ ومع ذلك، فقد استمرّوا بتصنيف أنفسهم كيسار!

هذان نموذجان فقط لما تعرَّض له مفهوم اليسار مِنْ تحويرات تفتقر إلى الأصالة والمشروعيّة.

وهنا، أرجو أن لا يُفهَمَ أنَّني أزعم بأنَّ اليسار مفهوم جامد ولا تاريخيّ. كلّا؛ مفهوم اليسار مرن ومتحرّك.. بحسب الظّروف التَّاريخيّة الَّتي تحيط به، وبحسب جدول أعمال التَّاريخ في اللحظة التَّاريخيّة المعنيَّة؛ لكن، ثمَّة فرق كبير بين مرونة المفهوم وبين انزلاق مضامينه إلى الفوضى أو إلى نقيضها.

حسناًّ إذاً!

نحن نعيش في العصر الرَّأسماليّ. وفي العصر الرَّأسماليّ، لا نستطيع أن نتعامل مع الواقع السيّاسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ في بلدٍ ما بمعزلٍ عن محيطه الإقليميّ والدّوليّ. فالنِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ عولميّ منذ بداياته. وأمَّا ما حدث منذ بداية تسعينيّات القرن الماضي وشاعت تسميته بالعولمة، فهو أمركة هذا النِّظام، كما دأب صاحب هذه الكلمات على التّوضيح في أكثر مِنْ مقالٍ له منذ بداية هذا التّحول.

في هذا النِّظام الدَّوليّ الماثل يتَّخذ الصِّراع الطَّبقي مستويين:

1. مستوى الصِّراع الطَّبقيّ، بين الطَّبقات الشَّعبيّة المستَغَلَّة وبين الطَّبقات البورجوازيّة المستغِلَّة في كلّ بلدٍ أو دولةٍ على حدة؛

2. مستوى الصِّراع الطَّبقي في النّظام الدَّوليّ ككلّ، بين دول الأطراف (أو الهوامش) وبين المراكز الرَّأسماليّة الدَّوليّة.

ومع أنَّه صحيح أنَّ وقائعَ الصِّراع الطَّبقيّ تختلف مِنْ بلدٍ إلى آخر، إلا أنَّ الصِّراع الطَّبقيّ في الأطراف والهوامش بعمومها يختلف عنه في مراكز النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ بعمومها. في الأطراف والهوامش، الصِّراع الطَّبقيّ له طابع مركَّب؛ حيث يكون الاستغلال داخليّاً وخارجيّاً معاً، وفائض قيمة العمل والثَّروة يذهبان إلى مستويين من الطَّبقات المستغِلَّة؛ الأوَّل هو الطَّبقات البورجوازيّة المحلِّيَّة؛ والثَّاني هو الطَّبقات البورجوازيّة في المراكز الرَّأسماليّة الدَّوليَّة الَّتي تحصل بوساطة شركاتها (ووكلائها) على حصَّة الأسد مِنْ هذا الفائض.

ومِنْ هنا، فإنَّ مسار النِّضال اليساريّ في بلدان الأطراف يمضي على النَّحو التَّالي:

1. العمل مِنْ أجل تحسين أحوال الطَّبقات الشَّعبيّة والحدّ مِنْ قدرة الطَّبقات البورجوازيّة على استغلال الكادحين. وهذه العمليَّة، بالنِّسبة للشّيوعيين، تتَّجه في النِّهاية نحو الاشتراكيّة، ولا يمكن لها أن تحقِّق أهدافها إلا بالاشتراكيّة؛

2. العمل مِنْ أجل التَّحرّر الوطنيّ.. والتّحرّر الوطنيّ هنا هو نوعٌ من الصِّراع الطَّبقيّ. فالتَّبعيّة – كما سبق أن أوضحنا – بُنية اجتماعيّة اقتصاديّة وليست مجرّد قرارٍ سياسيٍّ رغبويّ. وهي تعتمد على طبقات محلِّيَّة طُفيليّة مستفيدة بها. وإلى هذا يعود جانب من الكلام عن أنَّ التَّحرّر الوطنيّ هو صراع طبقيّ. أمَّا الجانب الآخر، فيعود إلى الصِّراع بين المصالح الوطنيّة ككلّ وبين مصالح الشّركات الكبرى عابرة الجنسيّة أو متعدِّدة الجنسيّة ومصالح المراكز الرَّأسماليّة الدَّوليّة؛

3. العمل مِنْ أجل الدِّيمقراطيّة.. الدِّيمقراطيَّة بوصفها حُكم الشَّعب ولخدمة مصالح الشّعب، وليس بوصفها صندوقَ اقتراعٍ مصمَّم ليحصر تداول السّلطة بالطَّبقات البورجوازيّة وليتجاهل حقوق الطَّبقات الشَّعبيّة ومطالبَها الأساسيّة.. كما هو الحال في الدِّيمقراطيَّة الليبراليَّة.

وهذه المسارات الثَّلاثة مترابطة؛ فمِنْ دون الدِّيمقراطيّة والتَّنمية المتمحورة على المصالح الوطنيّة ومصالح أوسع الفئات الشَّعبيّة، ومِنْ دون إعادة توزيع الدّخل والثَّروة لصالح الفئات الشَّعبيّة، فإنَّ التَّحرّر الوطنيّ يكون بلا مضمون حقيقيّ (سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ)، وسرعان ما تتوقّف حركته وتنتكس سيرورته.. كما رأينا في الكثير من التَّجارب في العالم العربيّ وفي أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ وهوامشه الأخرى. ولكن، أيضاً، لا ديمقراطيَّة، ولا تنمية وطنيّة، ولا إعادة توزيع للدّخل والثَّروة، مِنْ دون انتظام ذلك كلّه في سياقِ برنامجٍ جذريٍّ للتَّحرّر الوطنيّ.

الليبراليّون يحاولون دائماً أن يوحوا بأنَّ مسألة الدِّيمقراطيّة منفصلة عن كلّ العناوين الأخرى، وخصوصاً عن التّحرّر الوطنيّ وإعادة توزيع الثّروة ومكاسب التَّنمية.

برأيي، اليسار الحقيقيّ والمطلوب الآن في العالم العربيّ (وفي أطراف النِّظام الرَّأسماليّ الدّوليّ وهوامشه عموماً)، هو الَّذي يحمل مثل هذا البرنامج ومثل هذه الهويّة، ويعمل مِنْ أجلهما بدأبٍ وثبات وحزم.


س4 – الشّيوعيّون مبعثرون، منهم من تنحى منهم من هو معارض لسياسة الأحزاب الشيوعية، برأيك كيف يمكن جمع هذا الشتات وإعادة الحياة لحراكها المتجذّر؟ أو بالأحرى هل هناك أمل في إعادة دورهم المتجذّر في الساحة السياسية والاجتماعية؟

يُفتَرض باليسار، وخصوصاً الشّيوعيّ منه، أن يمتلك نظريَّة ثوريّة، ينطلق منها ويبنى على أساسها ممارستَه الكفاحيّة؛ لكن، في الواقع، اليسار العربيّ لم يمتلك نظريّة ثوريّة؛ بل كان يستعير تطبيقات هذه النَّظريّة مِنْ بلدان أخرى؛ الأكثريّة استعارت التَّطبيقات السّوفييتيّة، والبعض استعار التَّطبيقات الصِّينيّة الماويّة.

والطَّريف أنَّ العديد من الأحزاب والتَّيَّارات الَّتي قامت بهذه الاستعارات كانت تنسب نفسها إلى اللينينيَّة؛ وهذا في حين أنَّ اللينينيّة هي التَّطبيق الخلّاق للماركسيّة في بلدٍ معيَّن وفي ظرفٍ تاريخيٍّ بعينه وليست بأيّ حالٍ من الأحوال استعارة تجربة بلدٍ آخر وتطبيقها في بيئة ليست بيئتها وفي ظرفٍ تاريخيٍّ ليس ظرفَها.

ومن الأخطاء الفادحة في هذا المجال، استعارة بعض تطبيقات السِّياسة الخارجيّة للاتِّحاد السّوفييتيّ وتبنِّيها.. كما لو أنَّها لم تكن سياسة بلدٍ بعينه وتستند إلى مصالح ذلك البلد وظروفه الخاصّة، بل سياسة للحركة الشّيوعيّة بعمومها وتعبِّر عن مصالحِها جميعِها.

مثال ذلك، استعارة بعض الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة للموقف السّوفييتيّ مِنْ «قرار التَّقسيم» المتعلِّق بفلسطين والَّذي صدر في العام 1947.

الاتّحاد السّوفييتيّ – آنذاك – كان خارجاً مِنْ أهوال الحرب العالميّة الثَّانيّة، وكان لا يزال متأثِّراً بأجواء تحالفاتها ودعايتها الَّتي قام قسطٌ كبير منها على فكرة الهولوكوست النَّازي ضدّ اليهود. ومع ذلك، فلم تكن موافقة الاتّحاد السّوفييتيّ على قرار التَّقسيم مبنيَّةً على تقييمه كقرارٍ جيّدٍ أو عادلٍ، بل بوصفه «أحسن الحلول السَّيِّئة»، كما عبَّر أندريه غروميكو، المندوب السّوفييتيّ – آنذاك – في الأمم المتَّحدة.

الموقف السّوفييتيّ الأصليّ والماركسيّ حقّاً، هو موقف المؤتمر الثَّاني للأمميّة الشّيوعيّة (الكومنتيرن) الَّذي انعقد في موسكو في العام 1920، برئاسة لينين.. لقد رفض ذلك المؤتمر قيام دولة يهوديّة في فلسطين، واتَّخذ قراراً بالإجماع ينصّ على ما يلي: «إنَّ المنشأة الفلسطينيَّة للصّهاينة والصّهيونيَّة بوجهٍ عامّ الَّتي تضع السّكَّان الكادحين في فلسطين، حيث يمثِّل فيها الكادحون اليهود أقليَّة لا تذكر، ضحيَّةً فعليَّةً للاستغلال الإنجليزيّ تحت زعم إنشاء دولة يهوديَّة في فلسطين، لَمِثالٌ ساطعٌ على خداع الجماهير الكادحة في الأمَّة المقهورة بواقع الجهود المشتركة لإمبرياليَّة الحلفاء وبورجوازيَّة الأمَّة المعنيَّة».

لقد كان تبنِّي بعض الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة للموقف السّوفييتيّ مِنْ قرار التَّقسيم خطأً جسيماً؛

أوَّلاً، لأنَّه لا يجوز إخضاع قضيّة وطنيّة عادلة، بحجم القضيّة الفلسطينيّة ونوعها، لتقلّبات السَّياسة الخارجيّة لبلدٍ آخر، مهما كان؛

وثانياً، لأنَّ القضيّة الفلسطينيّة كانت – آنذاك – في بداياتها، والأصل في تلك اللحظة هو تثبيت الحقوق الوطنيّة وليس الشّروع في تقديم التَّنازلات.

وبالنَّتيجة، ذلك التَّنازل المجّانيّ، الَّذي تمَّ تقديمه باسم الواقعيّة، كان سابقةً بُنيَ عليها لاحقاً باسم الواقعيّة أيضاً، وظلّ يُبنى عليها إلى أن وصلنا إلى «أوسلو».

ومثل هذا يمكن أنْ يُقال أيضاً عن حلّ الحزب الشّيوعيّ المصريّ، في ستينيَّات القرن الماضي، الَّذي كان – كما هو معروف – استجابةً لرغبةٍ سوفييتيَّة.

هذا أدَّى، عند انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ، إلى الضَّياع والتَّشتُّت في العديد من الأحزاب الشّيوعيّة؛ فهذه الأحزاب تعودَّتْ أن تكون لها مرجعيّة موثوقة تبادر بالنِّيابة عنها، وتفكِّر بالنِّيابة عنها، وتنصحها وتُرشدها.

وأنا، بالمقابل، لا أوافق على الفكرة القائلة إنَّ السّوفييت كانوا يُملون آراءهم وأفكارهم وتوجّهاتهم على الأحزاب الشّيوعيّة.. الحقيقة أنَّ البعض كان يتطوَّع لاتِّخاذ مثل هذا الموقف مِنْ تلقاء نفسه. فأنا أعرف بدقّة أنَّه حين كان الأمر يتعلَّق بالانقسامات الدَّاخليَّة والانشقاقات الحزبيّة – حتَّى في أحزاب شيوعيّة في بلدان صغيرة – لم يكن بإمكان الحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ أن يوفَّق دائماً في استخدام مكانته الكبيرة للجمع بين المتخاصمين والمنقسمين.

على النَّقيض من العديد من الأحزاب الشّيوعيّة في البلدان العربيّة، انتهج شيوعيّون في بلدان أخرى نهجاً مختلفاً؛ فبنوا سياساتِهم وخطَطَهم الكفاحيّة وبرامجَهم عامّة على ظروف بلدانهم، وعلى شروط المرحلة التَّاريخيّة الَّتي كانوا يعملون خلالها، والظّروف الدّوليّة والإقليميّة المحيطة بهم.

وهذه هي اللينينيّة في الحقيقة.

الشّيوعيّون الفيتناميّون، على سبيل المثال، أصرّوا على الكفاح بحزم وضراوة ومهما كانت التَّضحيات لتحرير جنوب بلادهم الَّذي احتلّه الأميركيّون ونصَّبوا عليه بعض أدواتهم حُكّاماً له. وكان السّوفييت – آنذاك – ميَّالين للتَّهدئة والبحث عن تسويات سلميَّة واقعيّة للقضيّة الفيتناميّة. لكنّ الفيتناميين رفضوا ذلك، وفي النِّهاية حرَّروا الجزء المحتلّ مِنْ بلدهم.. حتَّى إن كان الثَّمن باهظاً (أربعة ملايين شهيداً خلال حوالي عشر سنوات).

ورغم خلاف السّوفييت ذاك مع الفيتناميين إلا أنَّهم لم يستنكفوا عن دعمهم ومساندتهم، بل قدّموا لهم كلّ ما كان بإمكانهم تقديمه من المعدّات والمعونات والكوادر والخبرات.

وهذا ينطبق على كوبا أيضاً وبلدان أخرى.

لهذا السَّبب، كان إنتاج النَّظريّة الثّوريّة والفكر الثَّوريّ، في البلاد العربيَّة، يتمّ خارج أحزاب اليسار والأحزاب الشّيوعيّة (سمير أمين، على سبيل المثال، مع أنَّ دوره وإنتاجه الفكريّ أبعد من العالم العربيّ بكثير).

الاستثناء الأبرز، في هذا المجال، هو الشَّهيد مهدي عامل، الَّذي كان عضواً في الحزب الشّيوعيّ اللبنانيّ وظلّ كذلك إلى أن استُشهِدَ.

بالطَّبع، ثمّة مثقّفون كُثُر، كانوا يعملون في الأحزاب اليساريّة والشّيوعيّة أو على هامشها، لكنَّهم لم يكونوا ينتجون أفكاراً، بل كانوا في غالبيَّتهم يعيدون تفصيل الأفكار السّوفييتيّة لتكون على مقاس الأوضاع المحلِّيَّة في بلدانهم، مثل فكرة «التَّطوّر اللارأسماليّ»، على سبيل المثال، الَّتي أطلقها السّوفييت في مطلع ستينيّات القرن الماضي؛ وكذلك فكرة «التَّعايش السِّلميّ» (في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته).

وهذا ينطبق كذلك على إعادة تفصيل الأفكار الماويّة أو الغيفاريّة على الأوضاع العربيّة.

هذا كلّه لا يُقلِّل، بالطَّبع، مِنْ حقيقة بسالة الأحزاب الشّيوعيّة العربيّة المثيرة للإعجاب، والتَّضحيات الباهظة والمجيدة الَّتي قدَّمتها مِنْ أجل القضايا الوطنيّة والقوميّة، والدَّور التَّنويريّ والتَّعبويّ والتَّحريضيّ الكبير الَّذي لعبته في بلدانها.. ضدَّ الرَّجعيّة والإمبرياليّة والصّهيونيّة والتَّسلّط والاستبداد والقهر والاستغلال والتَّبعيّة.


س5 – بعد انهيار الاتِّحاد السّوفييتيّ، تخلَّى العديد من المثقّفين المحسوبين على الأحزاب الشّيوعيّة أو القريبين منها عن أفكارهم الشّيوعيّة وتحوّلوا إلى الليبراليّة.. ما هو رأيك بهذه الظّاهرة؟

أغلب هؤلاء هم مِنْ أولئك الَّذين كانوا يمتهنون إعادة تفصيل الأفكار السّوفييتيّة على مقاس الأوضاع المحلِّيَّة. فما إن انهار الاتّحاد السّوفييتيّ، حتَّى عانوا هم أيضاً من الضَّياع، ثمّ تحوَّلوا إلى الليبراليّة.

وكانت حجّتهم، لتبرير هذا التّحوّل من النَّقيض إلى النَّقيض، هي أنَّ الشّيوعيّة خسرت في صراعها مع العدوّ الرّأسماليّ!

وبرأيي:

أوّلاً، تجاهل هؤلاء حقيقة أنَّ الرَّأسماليّةَ نفسَها شهدت، عبر تاريخها الطّويل، الكثيرَ من الهزائم والانتكاسات.

ولنتذكّر، على سبيل المثال، هجمة الرَّجعيّات الأوروبيّة على الشّعوب الأوروبيّة، في أواسط القرن الثَّامن عشر، وإعادة سلطة آل بوربون الأوتوقراطيّة بالقوّة.

وحتَّى الآن فإنَّ أحوال النِّظام الرَّأسماليّ الدّوليّ لم تستتبّ، رغم أنَّه مهيمن.

وهكذا، فمَنْ كان يظنّ أنَّ الاشتراكيّة – على الخلاف مِنْ ذلك – كانت ستكسب الصّراع بضربةٍ واحدة قاضية، فهو واهم.

أمّا ثانياً، فالمعيار الَّذي استخدمه هؤلاء للحكم على الأفكار إنَّما يصلح للتّجّار ولا يصلح للثّوّار أو المشتغلين بالفكر؛ فبرأيهم الأفكار صحيحة ما دامت تؤدِّي إلى الكسب، وغير صحيحة إذا لم تكسب أو خسر المراهنون عليها! لو كان هذا المعيار النَّفعيّ صحيحاً؛ لكان التَّاريخ قد انتهى منذ حَسْمِ أوَّل حالة صراع شهدها.

والأصل أنَّ المناضل الثّوريّ حاملٌ لمبادئ وقيم نبيلة راسخة تجعله ينحاز إلى الشَّعب المستَغَلّ والمقهور، وتجعله مستعدَّاً دائماً للتَّضحية ولدفع أفدح الأثمان وتكبّد أكبر الخسارات مِنْ دون أن يتزحزح عن قيمه ومبادئه. وإذا ما فشل في بعض تكتيكاته، وأخفق في بعض خططه وأساليب عمله الهادفة إلى نصرة هذه المبادئ، فإنَّه يغيِّر التكتيكات والخطط وأساليب العمل ولا يغيِّر المبادئ.

الهزيمة، في الغالب، هي هزيمة للتَّكتيكات والخطط وأساليب العمل، وتُنتجها الظّروف الموضوعيّة والذَّاتيّة أحياناً، لكنّها ليست بالضّرورة هزيمة للمبادئ.. المبادئ تعبِّر عن الانحياز لقوى اجتماعيّة اقتصاديّة معيَّنة في صراعها مِنْ أجل طموحاتها ومصالحها، وهي بالنسبة للمناضل الثّوري في العصر الرَّأسماليّ تعبِّر عن الانحياز لمصالح الأغلبيّة الشَّعبيّة المقهورة والمسحوقة تحديداً؛ فإذا انهزمت القوى الثّوريّة في مرحلة ما، فهل يعني هذا أنَّ قضيّة الثّورة لم تعد عادلة؟

وعلى سبيل المثال، هل قادت هزيمة ثورة سبارتاغوس، أوَّل وأشهر ثورة للعبيد، إلى الاستنتاج بأنَّه لم يكن على حقّ في ثورته ومبادئه؟ أم أنَّها قادت إلى الاستنتاج بأنَّ الظَّرف التَّاريخيّ لم يكن يخدم هذه المبادئ وهذه الثّورة؟

وفي النِّهاية، فإنَّ ثورة سبارتاغوس، وثورة الزّنج بعدها، لم تذهبا هدراً، فهما – على الأقلّ – أشَّرتا بوضوح إلى ما يُضمِرهُ المستقبل؛ حيث أصبح الرِّق بشكله السَّافر من الماضي الآن ومحرّماً بموجب مبادئ وعهود حقوق الإنسان المقرّة عالميّاً؟

وهذا ينطبق أيضاً على ثورة القرامطة ودولتهم العظيمة، الَّتي يرى كثيرون أنَّها كانت أوَّل دولة اشتراكيّة في التَّاريخ. تلك الدَّولة دامت حوالي قرنين، وبسطت سلطتها على رقاع واسعة من البلاد العربيّة، وكان لها مجلس حكم منتخب نصفه من النِّساء، وكان حُكّامها يذهبون بأنفسهم إلى الأسواق ليتسوَّقوا مثل سائر المواطنين، كما أنَّها كانت تنتصر لحقوق المستضعفين، وقد كُتِبَ على راياتها: «المستضعفون في الأرض هم الوارثون».

ولكنَّها، في النِّهاية، كانت تجربة لها حدودها التَّاريخيّة؛ بيد أنَّ هذا لا يعني الحكم عليها انطلاقاً مِنْ لحظة هزيمتها وانهيار مشروعها، بل يجب أن ننظر إلى ما أنجزته في زمانها وما أشَّرتْ عليه مبادئها وأطروحاتُها وممارساتُها مِنْ تحوّلاتٍ ضروريّةٍ في المستقبل، حيث يسعى الكثير من الشّعوب الآن إلى تحقيق ما كانت تتبنَّاه تلك التَّجربة الإنسانيّة الرَّائدة وما حقَّقته وما كانت تسعى إلى تحقيقه.

ونعود إلى واقعة تحوّل العديد من المثقّفين، الَّذين كانوا محسوبين على الشّيوعيين، إلى ليبراليين متحمّسين، بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ.. كأنَّ الله قد هداهم إلى الليبراليّة فجأة مع أنَّها كانت موجودة دائماً أمام أنظارهم!

لقد راح هؤلاء يتحدَّثون بكثرة – آنذاك – عمّا سمّوه «الأحزاب البرامجيّة» كبديل لما سُمّوه «الأحزاب العقائديّة». وهذه فكرة متهافتة ومبتذلة.. فلا يوجد حزب جدّيّ بلا برنامج؛ كما أنَّه لا يمكن إعداد برنامج لحزب ما مِنْ دون الاستناد إلى خلفيّة فكريّة نظريّة معيَّنة. والادّعاء بخلاف ذلك إنَّما هو كذب وتحايل سببه أنَّ البعض يخجل بمنطلقاته النَّظريّة والعقائديّة ولا يريد أن يُظهرها. وخصوصاً أولئك الَّذين تحوّلوا من اليسار إلى الليبراليّة، بذريعة نبذ الأيديولوجيا، رغم أنَّ الليبراليّة المتوحِّشة الآن أيديولوجيا متشدِّدة، بل متعصِّبة ومتزمِّتة وتقترب من الدِّين بإيمانيَّاتها.

وفي هذا السِّياق نفسِه، راح هؤلاء يتحدَّثون – آنذاك – عن أنَّ الطَّبقة العاملة بالمعنى الَّذي تحدَّث عنه ماركس وأنجلز لم تعد موجودة؛ ما يعني أنَّ الفكرة الَّتي كانوا يناضلون مِنْ أجلِها لم يعد لها أساس واقعيّ، الأمر الَّذي رأوا فيه مبرِّراً قويّاً لانتقالهم من النَّقيض إلى النَّقيض؛ لكنَّهم، بالمقابل، لم يقولوا إنَّ البورجوازيّة لم تعد موجودة، ولم يفطنوا إلى المفارقة الكبيرة الَّتي ستنشأ من افتراض أنَّ الطَّبقة العاملة قد انقرضت بينما الطَّبقة البورجوازيّة لا تزال موجودة!

كيف.. ما دام وجود هذه مشروطاً بوجود بتلك؟!

ثمّ راحوا يتحدَّثون عن تغيُّر البورجوازيّة (بل والنِّظام الرَّأسماليّ الدّوليّ، بمجمله، أيضاً) تغيّراً عميقاً! وتجاهلوا حقيقة أنَّ البرجوازيَّة أصبحت أكثر ميلاً إلى المركزة والاحتكار (كما سبق أن تنبَّأ كلّ مِنْ ماركس ولينين)، وأنَّ النظام الرَّأسماليّ الدَّوليّ راح يتَّجه إلى استعادة طبيعته الوحشيَّة الَّتي كانت سائدة في القرنين الثَّامن عشر والتَّاسع عشر.

وفي كلّ الأحوال، فلننظر إلى هذا المفارقة الصَّارخة؛ البورجوازيّة، بنظرهم، تغيَّرت (طبعاً، تغيّراً إيجابيّاً، كما حاولوا أن يوحوا)، أمَّا الطَّبقة العاملة فلم تتغيَّر؛ كأنَّها جوهر ثابت ولا تاريخيّ؛ فإمّا أن تبقى كما كانت في القرن التَّاسع عشر، أو فإنَّها لا تعود موجودة بالمطلق!

إنَّه تفكير بائس لناس كانوا يعتبرون أنفسهم ديالكتيكيين؛ فقد ظلَّت الطَّبقة العاملة في أذهانهم هي عمّال المصانع والعمّال محدودو المهارات. ومن الواضح أنَّهم، وهم يتحدَّثون عن الطّبقة العاملة بمفهوم ماركس وأنجلز، فإنَّهم يفضحون جهلهم بهذا المفهوم. وقد سبق أن كتبتُ عن ذلك مقالاً بعنوان «عندما اختفت الطَّبقة العاملة»، وهو منشور في مدوَّنتي وفي موقعي الفرعيّ لدى «الحوار المتمدِّن».

يقول أنجلز في ملاحظةٍ له على الطَّبعة الإنجليزيَّة من «البيان الشّيوعيّ» الصَّادرة في العام 1888:

«نعني بالبرجوازيَّة طبقة الرَّأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعيّ الَّذين يستخدمون العمل المأجور. ونعني بالبروليتاريا طبقة العمّال الأجراء المعاصرين الَّذين لا يملكون أيَّة وسائل إنتاج فيضطرّون بالتَّالي إلى بيع قوّة عملهم لكي يعيشوا».

أي أنَّ المعيار الماركسيّ لتصنيف الإنسان في عِداد الطَّبقة العاملة هو عدم امتلاكه لأيّ نوعٍ مِنْ وسائل الإنتاج، واضطراره بسبب ذلك إلى بيع قوّة عمله لمالكي وسائل الإنتاج (أي البورجوازيّون) لكي يتمكَّن من العيش. ولا علاقة لهذا بمكان العمل أو مقدار الأجر الَّذي يتلقَّاه العامل أو الشَّكل الَّذي يباشر به بيع قوّة عمله.

ولذلك، حين يتحدَّث أنجلز، في المرجع المشار إليه نفسه، عن خطط الشّيوعيَّة بالنِّسبة للمِلكيَّة، يوضِّح قائلاً: «إنَّ الشّيوعيَّة لا تسلب أحداً القدرة على تملّك منتجات اجتماعيَّة، إنَّها لا تنزع سوى القدرة على استعباد عمل الغير بوساطة هذا التَّملّك».

وبناء عليه، يُلفت «البيان الشّيوعيّ» النَّظر إلى نوع من المفارقة المأساويّة الفاضحة، إذ يقول: «في المجتمع البرجوازيّ، الرَّأسمال مستقلّ وشخصيّ في حين أنَّ الفرد العامل تابع لغيره ومحروم مِنْ شخصيَّته».

وبهذا المعنى، الطَّبقة العاملة اتَّسعتْ كثيراً ولم تتقلَّص أو تختفي.. ولكن، أداتها السِّياسيّة أصابها الشَّلل، ووعيها تعرَّض للكثير من التَّزييف؛ حيث تمَّ (ويتمّ) صرف أنظار العمّال عن قضيَّتهم العادلة، عن طريق «الإسلام السِّياسيّ» في البلاد العربيّة والإسلاميّة، واليمين الشّوفينيّ في المراكز الرَّأسماليّة الدّوليّة، اللذين يعملان مِنْ أجل تغييب الوعي بالصِّراع الطَّبقيّ، وإحلال أنماط من الصِّراع الثَّقافيّ المفتَعَل محلّه. وبالنتيجة، بدلاً مِنْ أن تكون البورجوازيّات المستغِلَّة هي العدوّ، يصبح العمّال من الشّعوب الأخرى والبلدان الأخرى و«الثَّقافات الأخرى» هم العدوّ، وتصبح الحلول الرَّأسماليّة عاملاً مشتركاً لا خلاف عليه ولا يرقى إليه الشَّكّ.. سوى أنَّها تُعطى مسمَّيات دينيّة أو ثقافيّة مختلفة.


س6 – يكثر الحديث في العقود الأخيرة عن «أزمة اليسار».. ما هي هذه الأزمة مِنْ زاوية نظرك؟

إنَّها، برأيي، أزمة أحزاب اليسار وقواه وليست أزمة اليسار. مفهوم اليسار يشمل المبادئ والأفكار والعاملين مِنْ أجل تحقيقها وأساليب العمل الرَّامية لتحقيقها.. أمَّا أحزب اليسار وقواه، فهي فرع مِنْ هذا المفهوم وليست المفهوم كلّه. إنَّها أداة فقط لتحقيقه. وهذه الأداة عانت من القصور الذَّاتيّ في النِّهاية وتراجعت قدرتها على الحركة.

والمسألة، في النِّهاية، مسألة صراع. والصِّراع يحتمل التَّقدّم والتَّراجع، والكرّ والفرّ.. الخ.

أمّا في ما يخصّ مفهوم «الأزمة» هنا، فأقترح – بدلاً مِنْ ذلك – مفهوميْ «الحدود التَّاريخيّة» و«الموجات التَّاريخيّة»؛ هذا أدقّ وأقرب إلى التّحليل العلميّ.

جاء في ورقة لي بعنوان «الاشتراكيّة وثورة أُكتوبر.. بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ»، قدَّمتُها في «احتفاليّة مئويّة ثورة أكتوبر» الَّتي أقامها الحزب الشّيوعيّ الأردنيّ في العام 2017، ما يلي:

«تقوم المقاربة الأكثر رواجاً لانهيار الاتّحاد السَّوفييتيّ على النَّظر إليه كإعلانِ فشلٍ مدوٍّ ومطلقٍ لثورة أكتوبر/ تشرين الأوّل السّوفييتيّة. وبعد ذلك، لا يبقى للباحث أو الدَّارس إلا استعادة المفاصل الأساسيّة لتاريخ الاتّحاد السّوفييتيّ (وثورة أكتوبر/ تشرين الأوَّل) وترجمتها إلى لغةٍ ملائمة لهذا السِّياق.

المقاربة التي أتقدَّم بها هنا تقوم على النَّظر إلى ثورة أكتوبر/ تشرين الأوّل بوصفها جزءاً مِنْ سياقٍ تاريخيٍّ طويل وتدشيناً له، وليس بوصفها حدثاً طارئاً ومقحماً على التَّاريخ ومعزولاً عن سياقه.

وإذا تجاوزنا بنظرنا حدود اللحظة التَّاريخيّة الَّتي نعيشها الآن، ونظرنا إلى التَّاريخ نظرةً بانوراميّةً شاملةً وليس كمَشاهِد متناثرة لا صلة بينها، فإنَّنا سنرى أنَّ المسار الَّذي دشّنته ثورة أكتوبر/ تشرين الأوّل لا يزال يتفاعل وأنَّ جدول الأعمال المطروح على البشريّة لا يزال في خطوطه الرَّئيسة هو نفسه».

وبينما نحن نتحدَّث الآن عن أزمة اليسار، نجد موجةً جديدةً من اليسار تنطلق في أماكن مختلفة من العالم؛ حيث تجدِّدُ أحزابٌ يساريَّة وحركاتٌ يساريَّةٌ نفسَها وتزدهر وتتَّسع قاعدتُها الاجتماعيّة وتصل إلى السُّلطة محمولةً على أكتاف الجماهير.. في أميركا اللاتينيّة، على سبيل المثال.

وهكذا، لا نستطيع أن نتحدَّث عن أزمة اليسار بالمطلق وفي كلّ مكان.


س7 – ما هو دور المثقف العربي في تغيير واقع الحال ورفع وعي المواطن ليتصدى لكل ما يجري من فساد سياسي واداري واقتصادي؟ وهل زمن الثورات انتهى أم أن هناك شيء يلوح في الأفق؟

لا نستطيع أن نتحدَّث هنا عن المثقَّف بالمطلق؛ بل تحديداً عن «المثَّقف العضويّ» بالمفهوم الغرامشيّ. فبرأيي، الثَّقافة ليست مجرَّد كشكول معلومات، بل هي موقف يستند إلى نسق معرفيّ مترابط.

في العقود الأخيرة، نعى البعضُ «المثقَّفَ العضويَّ» مِنْ ضمن أشياء كثيرة نُعِيَتْ مع طغيان عصر الأمركة.

المثقَّف العضويّ لم ينقرض، لكنَّه أصبح بأعدادٍ قليلة. وفي الحقيقة، المثقَّفون العضويّون كانوا دائماً قلّة؛ لكنَّهم الآن أقلّ. وذلك لأنَّ التَّاريخ خلال العقود الأخيرة كان يعاني مِنْ حالة انسداد.. المسار التَّاريخيّ الَّذي كان سائداً في السَّابق توقَّف في أحد المنعطفات ولم يعد بعد إلى متابعة سيره، كما لم يظهر بعد مسارٌ جديد.

لا يوجد الآن مشروع للنّهوض، قوميّ أو أمميّ، مطروح بقوّة. والمثقّف العضويّ هو بالأساس حامل مشروع. ولذلك، تسود الآن في هذا الثُّقب التَّاريخيّ الأسود أفكارٌ ماضويّة.. إسلامويّة وليبراليَّة متوحِّشة يحملها دُعاةٌ ومعلنون.. لا مفكِّرين ومنتجي أفكار.

والاختلافات، بين الفكرة الإسلامويّة وبين الفكرة الليبراليّة العلمانيّة، إنَّما هي اختلافات شكليّة؛ ففي ما يخصّ الأساس المادِّيّ الجوهريّ.. أي النِّظام الاقتصاديّ الاجتماعيّ الَّذي تنشده كلٌّ منهما، فهو نفسه.

على أيَّة حال، حالة الانسداد التَّاريخيّ هذه حالة مؤقّتة.. هي، بالأحرى، نوع من المراوحة في الفراغ الفاصل (أو الواصل) بين مرحلتين. إنَّها مرحلة التَّحضير للتَّحميل.. إذا أردنا أن نستخدم مصطلحاً إلكترونيّاً حديثاً. أمَّا الموجة الثَّوريَّة، الَّتي سيتمّ «تحميلها» في النِّهاية، فيصعب أن نتنبَّأ الآن بما ستكون عليه.

بيد أنَّ هذا لا يعني مطلقاً أن نجلس وننتظر ما يجود به التَّاريخ. فالتَّاريخ هو محصّلة للممارسة الجماعيّة (والفرديَّة أيضاً) لملايين البشر. وإذا كانت هذه الممارسة واعية، فإنَّ حركة التَّاريخ ستكون راشدةً؛ أمَّا إذا كانت تفتقر للوعي، فإنَّ حركته ستكون ضرباً من التَّخبّط في الظَّلام، وستكون آثاره خبط عشواء.

بقي أن أقول: الحركة الشّيوعيّة العربيّة، وحركة التَّحرّر العربيّة، حملتا على كتفيهما الكثير من المثقَّفين النَّفعيين والانتهازيين.. هؤلاء لم يكونوا مثقَّفين عضويين أو مناضلين ثوريين حقيقيين؛ فقد تبيَّن، بعد انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ، أنَّهم كانوا مجرَّد موظَّفين في الحركة الشّيوعيّة وحركة التّحرّر العربيّة، وأنَّ المبادئ الثّوريّة كانت آخر اهتماماتهم؛ ولذلك، فما إنْ انهار مشروع ربّ عملهم السّابق، حتَّى انتقلوا إلى العمل عند ربّ العمل الآخر المنافس له وبأجرٍ أكبر وامتيازاتٍ أكبر وأكثر.

وتبيَّن أيضاً أنَّ بعض الأحزاب «الثَّوريَّة»، كان مجرّد ظلٍّ للحزب الشّيوعيّ السّوفييتيّ؛ فما إن انهار الأصل حتَّى انحسر الظِّلّ.

****************************
رابط الحوار
https://www.youtube.com/watch?v=iBB5IUVu_10