من أجل سياسات راديكالية ومشروع مقاومة يؤسس للتغيير الجذري


بشير الحامدي
2021 / 7 / 22 - 19:33     

الأحداث والمواجهات التي وقعت ضد نظام بن علي في السنوات 2008 و2009 و2010 كان لها دور كبير في الوصول للحدث الكبير الذي نعرف ووقع في ديسمبر وجانفي 2010 ـ 2011. وفي الحقيقة ولئن ظهرت هذه الأحداث في شكل سلسلة متقطعة إلا أنها كانت في وعي الناس وأثناء كل حدث منها تظهر مترابطة متصلة تراكم لحدث أكبر لم يكن لأحد وقتها أن يتكهن به أو بطبيعته أو بامتداداته أو بما يمكن أن يتزامن معه من معالجات خصوصا من الطبقة المسيطرة ومن القوى الخارجية المرتبطة مصالحها بها وماهي طبيعة الصراعات التي يمكن أن يفضي إليها أو يفجرها.
وكان 17 ديسمبر بكل عنفوانه هو هذا الحدث الكبير الذي حمل رسالة كانت جد واضحة ومفهومة من قبل أصحاب المصلحة في نظام بن علي قبل غيرهم ومفادها: "يرحل بن علي" وأن لا مجال لبقائه مهما كان الثمن.
"يرحل بن علي" أو "الشعب يريد..." أو ترسانة الشعارات الأخرى بكل ما حملته من زخم تعبوي لا سابق له في تاريخ مواجهات الأغلبية سواء لبورقيبة أو لبن علي بعده هي في الحقيقة بقيت مجرد شعارات ولم تتجاوز الشعار القديم القديم "خبز وماء ونويرة لا" الذي صار بعد انقلاب 1978 "خبز وماء وبن علي لا".
وللتاريخ فبورقيبة الذي امتدت ديكتاتوريته من 1956 إلى 1987 لم يواجه وأثناء الأحداث الكبرى التي عرفتها تونس سواء أثناء الإضراب العام سنة 1978 أو أثناء انتفاضة الخبز بشعار "الرحيل" عن الحكم عدا بعض محاولات الانقلاب على حكمه في سنواته الأولى التي كانت نتيجة الصراعات التي تعود لما قبل 1956 بينه وبين التيار اليوسفي ولم تكشف إلى حدّ اليوم الكثير من حقيقة أحداثها وملابساتها.
كذلك فلا المعارضات اليسارية بكل تياراتها ولا حركة الاتجاه الإسلامي ولا القوميين كانت أطروحاتهم المتعلقة بالنظام البورقيبي صريحة واضحة في الدعوة لرحيله وأقصى ما كانت تطالب به هو الاعتراف بها والسماح لها بالنشاط القانوني والبحث عن دمقرطة الحياة السياسية بما يسمح لها بالتأسس كمعارضة قانونية إصلاحية.
ويمكن إجمالا القول بأن السمة الغالبة لكل معارضات بورقيبة كانت سمة إصلاحية لا تنشد غير الاعتراف بها شريكا في الحياة السياسية (نحن هنا ننظر للاتجاه العام لأطروحات هذه المعارضات ولا نتوقف عن بعض المواقف التي تظهر حينا وتختفي حينا آخر وتحتمها الأوضاع المتغيرة دوما) ولم تكن يوما واضحة في الاطاحة بالنظام البورقيبي.
مع بن علي لم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للمعارضات الثلاث حيث شاهدنا حركة الاتجاه الإسلامي تمضي مع بن علي بعد انقلابه على وثيقة الميثاق الوطني كما كانت تحضر لمصالحة معه أشهرا قبل انطلاق أحداث ديسمبر 2010 واستمرت مجموعات اليسار على موقفها الأول المسيج بنظرية الثورة على مراحل والنضال المباشر من أجل الحريات السياسية عدا بعض المجموعات الصغيرة وبعض الأفراد غير المنظمين ساعتها والذين كانوا يقفون على مسافة من هذه الأطروحات اليسارية الإصلاحية دون تأثير كبير منهم في مجرى الأحداث وتاه القوميون بين المنادي باستغلال الانفتاح الديمقراطي لنظام بن علي والالتحاق بحزب الاتحاد الديمقراطي الوحدوي خصوصا زمن رئاسة السيد أحمد الإينوبلي وبين من يرفض ذلك وينطوي على نفسه منتشيا بالفكر القومي منتظرا حدوث انقلاب عسكري يضع كل الشأن في البلاد بين يدي الحذاء العسكري تبين بعد سنوات أنه لن يأتي مطلقا وهو ما دفع بكثير من هؤلاء بعد 2011 للالتحاق ببعض الأحزاب التي تقول عن نفسها قومية وصارت تدعو للجمهورية الاجتماعية دون أن تتخلى عن نظرية الانقلاب العسكري التي بقيت لدى كثير من أنصارها "نوستالجيا" شبيهة بمرض لا فكاك منه.
وللتاريخ فشعار "يرحل بن علي" "Dégage ben Ali" كان ظهوره لأول مرة في منشور من منشورات مجلة قوس الكرامة التي تأسست بمبادرة من بعض الرموز اليسارية (تروتسكيين ووطد) سنة 2002 وقد حمل عددها الأول في صفحته الأولى شعار "بن علي 14 سنة يكفي" وكانت توزع يدويا في الشارع وبلغ عدد المشتركين فيها اكثر من 4 آلاف مشترك حسب المسؤول وقتها عن الاشتراكات وكتب فيها كثيرون (شكري بلعيد جلال الزغلامي طارق محضاوي بشير الحامدي) وعديدون آخرون نسيت الآن أسماءهم ونشرت 4 أعداد وتوقفت بعد إشتداد عملية القمع على القائمين عليها وعلى الحلقة الواسعة التي تسندها.
مما تقدم يمكن أن نستخلص بعض الاستنتاجات السريعة وهي:
ـ 17 ديسمبر حدث في أوضاع لم تكن فيها حركة المعارضة لا راديكالية ولا تأسيسية بمعنى لا تستند لمشروع للتغيير الجذري ولا لسياسات راديكالية وأقصى ما كانت تتطلع له هو أن تحقق حرية التنظيم وحرية الصحافة والرأي وبعض الحريات الشخصية والعامة.
ـ شعارات "الشعب يريد ..." "التشغيل استحقاق ..." "شغل حرية كرامة وطنية" والشعارات الأخرى هي شعارات الحركة الاجتماعية العفوية التي أنتجتها المواجهة المباشرة مع نظام بن علي خصوصا من 17 ديسمبر 2010 لـ 14 جانفي 2011 وتراجع تأثيرها في حركة الجماهير ما أن بدأ تنفيذ الانقلاب ونشطت بقايا النظام في استراتيجيا ترميمه ويظهر ذلك جليا في عجز أصحاب هذه الشعارات تحويلها لأسس مشروع تأسيسي مستقل وسياسات راديكالية واضحة.
ـ ارتباط المعارضة المنظمة (يسارـ خوانجية ـ قوميين ـ اصلاحيين لبراليين محافظين) ببقايا النظام والانفصال عن الحركة الاجتماعية في أعلى درجات انتفاضها بالقبول بالتواجد في هيئة الانقلاب العليا المسماة "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي" التي حاصرت كل إمكانية للتأسيس للتغيير الجذري وللسياسات الراديكالية المستقلة وحالت دون تقدم الجماهير "لتصفية حسابها مع النظام" عبر ايهامها بالمشاركة في القرار عبر الانتخابات والبدء في الاعداد المباشر لذلك وتقريبا لم يكن لهيئة بن عاشور سيئة الذكر من مهمة غير التشريع لهذا للانقلاب عبر التخطيط لانتخابات المجلس التأسيسي وكلمة رشيد عمار وقتها في اعتصام القصبة كانت بليغة في هذا الشأن " خلو الحكومة تخدم " حيث هيأت عمليا ولتخطي المرحلة الأولى من الانقلاب عبر حكومة الباجي قايد السبسي التي أعلن عنها في مارس 2011 .
ـ بالملموس لم تتبن اتجاهات اليسار شعارات "الشعب يريد ..." "التشغيل استحقاق ..." "شغل حرية كرامة وطنية" التي كانت يمكن أن تكون تأسيسية للتغيير الجذري بل عادت لطبيعتها "ما دون الإصلاحية" ولفكرة الثورة على مراحل وانخرطت في مشروع الانقلاب بتبني مهمة انتخاب مجلس تأسيسي على القاعدة التي وضعتها هيئة بن عاشور وشرعت في الاستعداد لخوض انتخابات أكتوبر 2011 التي أعطت السلطة لحركة النهضة التي ستلعب فيما بعد وخصوصا بعد 2013 الدور الرئيسي في تنفيذ خطة ترميم النظام عبر وقافها مع نداء تونس وعبر تحويل المحاسبة إلى مصالحة لتظهر وبعد عشر سنوات من ديسمبر 2010 أنها لم تفعل غير وراثة نظام بن علي وهي تعمل جاهدة وخصوصا في السنوات الثلاث الأخيرة على إقناع البرجوازية التونسية أو جزئها الحداثي أن لا غيرها قادر على ضمان مصالحه وتواصل نفوذه وهو ما يفسر سر صراعها المتواصل مع قيس سعيد وحزب عبير موسي التي بدورها لا تخفي اتجاهها في دفع البرجوازية التونسية لترفع يدها عن حركة النهضة وتخيفها بأصولية ومعاداة هذه الحركة للحداثة والحرية والديمقراطية وهو خطاب مقنّع مفاده أن حزبها وحده القادر على استمرار مصالح الطبقة البرجوازية في وجه ما يمكن أن يعصف بها.
ـ العشر سنوات الأخيرة بينت أن أطروحة الحريات السياسية التي غابت عن أطروحات اليسار وعوضتها أطروحة الانتقال الديمقراطي التي يتقاسم اليوم الجميع (يسار لبرالي، خوانجية، قوميين، حداثيين بمختلف أحزابهم. إصلاحيين ديمقراطيين محافظين) التمسك بها انتهت إلى فشل وأن كل ما مكنت منه لم يكن إلا مواصلة نظام بن علي بغير بن علي مع هامش لحرية التعبير تغيب فيه أي حرية حقيقية للتعبير بهيمنة جهاز إعلامي مرتبط راسا بمافيات المال والنفوذ حركته كلها مرتبطة باستراتيجيات ونفوذ هذه المافيا.
ـ أثبتت العشر سنوات الأخيرة أيضا أن استراتيجيات تغيير النظام من داخله أطروحة فاشلة أيضا فبحكم فساد البرجوازية التونسية وترابط مصالح فئاتها لا يمكن التعويل على جزء منها للإطاحة بجزء آخر فعمليا ما نشاهده وما نعيشه هو أن نظام الفساد ما فتئ يتعمم ليشمل كل الأجهزة والإدارات والمصالح والمؤسسات (برلمان قضاء بوليس بنوك وزراء أحزاب نقابات جمعيات...).
ـ عملية التغيير الجذري صارت مقترنة بإسقاط منظومة الانتقال الديمقراطي برمتها فكما ثبت أن شعار “يرحل بن علي" رحل ببن علي ولكنه لم يرحل بنظامه كذلك فشعار ترحل النهضة أو ترحل عبير موسى أو ترحل الحكومة لا يعني رحيل نظامهم فقد يرحلون ولكن نظامهم سيستمر ولا أظن أنه يمكن أن يخفى عن صاحب عقل أن الانتقال الديمقراطي صار منظومة فساد ونظام حكم أزمة دائمة أزماته تفضي لأزمات دوما جديدة ويحكم متنفذوه بواسطة تعميم الفوضى والفساد.
ـ العشر سنوات الماضية أثبتت كذلك أن الأزمة ليست في الفوق فقط فمنظومة الانتقال الديمقراطي قد عممت الأزمة حتى صارت في الفوق وفي التحت. في البدائل وفي الأطروحات وفي السياسات وفي التنظيم فقد صار الجميع بلا رؤي ولا بدائل وصارت السياسة في وجه من وجوهها مشغل الفاسدين والمهربين والمنقلبين والمتسلقين والانتهازيين وكفت عن أن تكون مسألة تدبير الشأن العام في كل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ـ الحسم مع الأزمة المعممة اليوم وفشل الانتقال الديمقراطي صار يتطلب أن تسير الأغلبية في اتجاه التأسيس لمشروعها الطبقي الخاص بها القائم على سياسات راديكالية لا مجال فيها للوفاق مع قوى الانتقال الديمقراطي كل قوى الانتقال الديمقراطي عبر طرح بديل واضح للجماهير من داخلها ومعها بديل تشرع عبره الأغلبية معطلين شباب خدامة مزارعين فقراء موظفين معدمين ربات البيوت قطاعات وانتظامات معلنة عن راديكاليتها في المقاومة لأسقاط منظومة الانتقال الديمقراطي وفرض التغيير الجذري الذي يسمح بسيادة هذه الأغلبية على قرارها ومحاسبة الذين أجرموا في حقها طيلة العهود الثلاثة.
لذلك فما لم تتسع رؤية الأغلبية صاحبة المصلحة في التغيير الجذري وما لم تستخلص من تجارب الحكم الثلاثة التي عرفتها بلادنا ما يجب استخلاصه ستبقى الحياة السياسية تعيد إنتاج نفس التكتلات ونفس السياسات وبالتالي تعيد إنتاج نفس مازقها السياسي والتنظيمي مجردة من أي قدرة على المقاومة بصورة جذرية تأسيسية وبسياسات راديكالية وحدها يمكن أن تراكم في اتجاه تغيير فعلي في موازين القوى لصالحها تغيير قد يضع حدا لظهور الدعوات التي على شاكلة دعوات ما يسمى بـ "المجلس الأعلى للشباب" أو مناورات حركة النهضة للاستمرار في الحكم أو هرطقات قيس سعيد لتغيير النظام من الداخل أو معالجات محمد عبو ودعوته الصريحة للجيش لأخذ السلطة أو مزايدات عبير موسى بمجتمع التنوير أو مزايدات حركة الشعب بالجمهورية الاجتماعية أو أوهام حمة الهمامي حول إصلاح كل الأوضاع حين يكون هو وحزبه وحلفاؤه في السلطة.

22 جويلية 2021