حاضر يستحضر الماضي -6


سعيد مضيه
2021 / 7 / 22 - 14:08     

خطوة للأمام.. ثلاث للوراء

لكى يحافظ الكاتب على اتزانه العقلى حين يغيب الحوار ويعلو صوت القوة والزجر، تصبح العودة إلى الماضى طريقا للبحث عن الأمل. وتنشط كتابة المذكرات فى فترات الإحباط العام. وتلح على الشعوب نزعة اجترار ذكرياتها كلما أعياها واقعها عن العيش فى ظل العدل والحرية. والتاريخ هو المرجل الذى يتم فى أتونه تراكم القوة الدافعة لتغيير المستقبل نحو الأفضل. والكتابة والقراءة طريقان للتغيير.
محمد نور فرحات _ فقيه دستوري مصري


لعل قيادة حزب الشعب الفلسطيني قد وعت في وقت مبكر عطب الفراغ الثقافي في أوساط الحزب؛ فدعت عام 1996لجنة ضمت عددا من الرفاق للشروع في نشاط تثقيفي بين صفوف الحزب. تداولت اللجنة في جلستها الأولى مهام التثقيف السياسي والنظري، وأقرت اورقة عمل رفعتها الى قيادة الحزب، ولم تتلق ردا. كانت تلك الجلسة هي الفريدة. ربما أن التركيز على الفكر الماركسي في مشروع التثقيف المقترح هي التي أوحت بالعدول عن فكرة التثقيف. بعد سنوات عبر لي الدكتور حسين البرغوثي، وقد جمعتنا عضوية الهيئة الإدارية لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، عن مرارة في نفسه لأنه "استبعد" من اللجنة، صححت له ظنه وأعلمته الحقيقة المرة.
تشكلت في ذهني قبل العودة من الإبعاد صورة عن رِدة في نشاط حزب الشعب. فقد أعلنت بنتائج مؤتمره الثاني، متضمنة تغيير اسم الحزب وتعدد مصادره الفكرية. كنت قد واجهت ردة مماثلة في اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأردني؛ فقد أعلن فريق عن نوايا التخلي عن الماركسية الإيديلوجية الفريدة للحزب ، والتوجه نحو نمط حزب اشتراكي ديمقراطي؛ عارضنا ثلاثة بقوا في الاجتماع هذا التوجه. كان الدكتور يعقوب زيادين وآخرين قد انسحبوا من اجتماع اللجنة المركزية فجأة ودون سابق إنذار؛ ربما انهم اشتموا رائحة العزوف عن الماركسية. وجدنا انفسنا ، عبد العزيز العطي وأحمد جرادات وكاتب هذه السطور اننا قلة غير مؤثرة لعرقلة التوجه التصفوي. النقاش الفكري في مثل هذه الحالات لا يجدي . فالتيار إحدى ظاهرات ما بعد الانهيار؛ الذي حدث بجريرة الابتعاد عن الماركسية. في ظروف انهيار الاتحاد السوفييتي انهارت الاشتراكية الديمقراطية على الصعيد الدولي . فرضت الامبريالية على أحزابها تصفية جميع المكاسب التي حصلتها للطبقات العاملة إبان الحرب الباردة ؛ استغنت الراسمالية عن خدمات تلك الأحزاب إثر الانهيار العظيم.
لم يحن اوان التقاعد اوالانعزال . توجهنا الى الدكتور يعقوب زيادين، ورحب بنا .
يبدو أن مرض عراب التيار التصفوي قد ألزم أنصاره على التراجع بصمت وطي التجربة التعيسة وتركها للنسيان .
كنت اوصل جريدة الحزب الشيوعي الأردني الى مكتب خاص بالحزب الفلسطيني الشقيق ؛ كان ذلك بعد فترة قصيرة من المؤتمر الثاني للحزب، وقبل أوسلو. وجدت بالمكتب الرفاق بشير وسليمان وتيسير وآخرين. سألني بشير رأيي بالتوجه الجديد للحزب الفلسطيني، وأجبته أنكم أحرار في ما تذهبون اليه؛ علق: توجه حاسم لن نتراجع عنه.
صباح اليوم التالي لوصولي البلدة، في نيسان/ إبريل 1994 بعد إبعاد طال مدة ربع قرن، لا أنسى بشاعة ما فاجأني أول صباحات الإقامة في مسقط الرأس. على جدران المباني وحيثما توجهت في الشوارع وواجهات المحلات التجارية. تنقبض النفس لخطوط باحجام وألوان متنافرة، تعلن عن شعارات سياسية مرشومة، تشي بأن الانتفاضة لم تتوجه تحديا للاحتلال بقدر ما تجلت تنافسا بين الفصائل ومزادات علنية ، تشي بإعلانات ولا تنبئ عن ثقافة وذوق. الجماهير المشاركة في تغيير الواقع تستوعب ثقافة تحلل الواقع المراد تغييره، وترسم هيكلا للمجتمع المنشود، تندفع الى نضال التغيير بقدر اقتناعها بالأفق الجديد المرسوم ، وتتوثق ثقتها بالحزب صاحب العرض الثقافي الملهم. تتوثق صلات الأحزاب بالجماهير وتتم حملات تربية سياسية وفكرية؛ هي أيضا تغذية وتغذية ارتجاعية يطلع الحزب أو الأحزاب على النبض الجماهيري ، ويستدلون على التكتيك الملائم للنشاط السياسي، مع تبدلات الواقع . ليس الشعار السياسي ما يرشد الجماهير ، بل التحليل السياسي الموضوعي . في الحقيقة ، دوما يتبدل الشعار الملموس مع تبدل الظرف الملموس؛ وقد يتغير الشعار سريعا الى نقيضه نظرا لنشوء ظرف طارئ.
المجتمعات العالقة بقيم العصر الوسيط وعلاقاته الاجتماعية ونماذج التسلط الأبوي، التي لم تتصلب في النضال الوطني الديمقراطي تغرم بالإيديولوجيا وبالشعارات تختزل بها الواقع في مضامين مبهمة. صنمية الشعارات تعوض الوعي بالواقع، وتردد شعارات يمكن أن تولج الجماهير في متاهات تعصف بحاضرها ومستقبلها فداء شعارات خائبة. إستُعيض عن التربية السياسية من خلال النشاط العملي بشعار مشفر خُط كيفما اتفق. أحد الشعارات كان نصه على ما أذكر "سحقا لأطفال العالم ما دام أطفال فلسطين يعانون!" أهكذا يتم الترويج لعدالة قضيتنا وإنسانيتها؟ وهل التضامن العالمي فرض واجب على أطفال العالم؟ أم أن التضامن مهمة مرسومة لفصائل جاهزة غب الطلب ؟.في حمى المبارزة بالشعارات لم يفطن أحد كيف سارع الرأسمال الصهيوني في ظل مراقبة أمنية صارمة إلى إنشاء مصانع الدهانات وتعليبها لتوفير وسائل سهلة لتجريد المقاومة الفلسطينية من فاعليتها .
تشير الدلائل الى هبوط منسوب التضامن مع العدالة في فلسطين ، حيث راجت الظنون بانتهاء المشكلة أو انها في طريق الحل. وتباطأ النشاط الشعبي ، إذ بدأت مرحلة التفاوض وتشكيل السلطة الوطنية والأمال الخلب، وشرعت تفعل فعلها الأمال الخلب المعقودة عليها . الأمال المعلقة على السلطة حجبت ممارساتها القمعية. كما لو أن الوالد حضر بعد غياب واخلد الأبناء للراحة وتقبل اوامره النازلة باتجاه واحد. وباعتراف عنصر قيادي بالمنظمة ان السلطة أهملت الجمهور. والحقيقة أنه تشكل إجماع على إخماد الحراك الشعبي دفعا للإزعاج.
كان شمغون بيريز مخادعا ومتآمرا حين دعا الى المفاوضات . بادر بيريز بالدعوة لمفاوضات في أوسلو أسفرت عن اتفاق أغفل قضية الأرض، موضع الصراع الرئيس مع الاستيطان الكولنيالي الإسرائيلي. انقضى العقد الأول من السلطة الوطنية بمفاوضات عقيمة ، وضعت القضية الفلسطينية في متاهة النسيان؛ إذ اعتقد العالم بانتهائها او أنها في طريق الحل. بينما كان رابين ، رئيس الحكومة، جادا في التوصل الى تسوية يقبلها الفلسطينيون، حين اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا لكيان فلسطيني. ودليل خداع بيريز انه ، وهو المفاوض على الاتفاق، وفرته الرصاصات القاتلة، وكان بجانب رابين في ميدان الاحتفال بتوجه السلام. يؤكد هذا التقدير ما كتبه الرئيس الأميركي، كلينتون ، في مذكراته(الصفحة 545)
Bill Clinton: My Life-Alfred A.Knopf New York-2004
أشار الى محضر لقائه مع رابين على فطور عمل، وكتب في مذكراته: "... قال لي أنه توصل للاعتقاد بأن الأراضي التي احتلت عام 1967لم تعد ضرورية لأمن إسرائيل، وفي الحقيقة غدت مصدر تهديد للأمن". وبعد سرد أسباب توقيع اتفاق اوسلو في باحة البيت الأبيض انتقل رابين الى سرد عواقب ضم المناطق لإسرائيل فقال: "إذا قدر لإسرائيل الاحتفاظ بالضفة الغربية للأبد فعليها أن تقرر هل ستمنح الفلسطينيين حق التصويت للانتخابات الإسرائيلية، شان أولئك الذين يعيشون ضمن حدود إسرائيل السابقة. إذا حصل الفلسطينيون على حق الاقتراع، ففي ضوء نسبة الإنجاب العالية، لن تبقى إسرائيل عبر بضعة عقود دولة يهودية. اما إذا أنكر عليهم حق المشاركة في الانتخابات فلن تعود إسرائيل دولة ديمقراطية، إنما دولة أبارتهايد". لذلك ، مضى رابين الى القول، " إسرائيل يجب ان تتخلى عن المناطق ، لكن فقط إذا ما جلب ذلك السلام الحقيقي وعلاقات طبيعية مع الجيران، بما في ذلك سوريا".
يدعم شهادة كلينتون شهادة قدمها ضابط مخابرات أميركية عمل مستشارا للملك حسين مدة أربعين عاما، هو جاك اوكنيل. وضع كتاب مذكراته بعد رحيل الملك بعنوان"مذكرات عن الحرب والتجسس والدبلوماسية في الشرق الأوسط" ، وفيه تحدث عن اتصالات أجراها رابين مع صدام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا بصدد التوصل الى سلام، يدعمه في ذلك رئيس الدولة حينذاك، الجنرال عيزرا وايزمن.
أما بيريز فقد واصل بشراسة واندفاع استثنائيين، من بعد رابين سياسة الاستيطان. وأثناء الحملة الانتخابية عام 1996 إثر اغتيال رابين عام 1995، واصل النهج الصهيوني التقليدي لاكتساب أصوات الناخبين على ايقاعات الحرب واغتيال أكبر عدد من العزل، فامر بيريز باقتراف مجزرة قانا ذهب ضحيتها اكثر من مائة من الأطفال والنساء لاذوا بمقر تابع للأمم المتحدة. تشكلت لجنة تحقيق دولية، وسارع أمين عام الأمم المتحدة آنذاك، بطرس بطرس غالي، بنشر تقرير اللجنة ، وعاقبته على تصرفه الإدارة الأميركية بالامتناع عن انتخابه لدورة ثانية. وعلق بطرس غالي على الموقف الأميركي في كتاب مذكراته بالقول،" لم تكن الامبراطورية الرومانية بحاجة الى الدبلوماسية ، ولا الولايات المتحدة تحتاجها. الديبلوماسية ينظر اليها من قبل قوة امبريالية مضْيعة للوقت والهيبة، وعلامة ضعف". أجل، السياسة الخارجية الأميركية تستعمل الهراوة الغليظة - الإكراه وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية.
لكن الناخبين في إسرائيل سجلوا المجزرة مأثرة للتطرف الفاشي، وانتخبوا داعية الكراهية العرقية والفاشية نتنياهو الليكودي. وكنت قد توقعت النتيجة في مقال نشر قبل إجراء الانتخابات. قارنت التطرف اليميني في إسرائيل بالسلفية في المجتمعات الإسلامية ، إليها يعود خراج أي ممالآة للتدين الشعبي، من خلاله تنشد جهة سياسية كسب ود الجمهور .
كما ورد سابقا تنبهت قيادة الحزب في بتقريرها الصادر نهاية عام 2015 الى اختلالات فكرية وسياسية في صفوف الحزب واخذت على عاتقها مهمة "أن نتوجه بعمق أكثر نحو تحديد هوية الحزب الفكرية دون تردد او تباطؤ، فالتجربة التي عاشها حزبنا منذ التغيير الذي أحدثه (مؤتمره الثاني) عام 1991 وحتى الآن لم تسعفنا في تحقيق الهدف الذي توخيناه في التحول لحزب جماهيري متميز له قدرة على إدارة الصراع على كافة المستويات بمنهجية وإرادة موحدة، والاشتباك الفعلي مع قضايا الجمهور بكل الأبعاد الطبقية والاجتماعية والفكرية. وأضاف تقرير اللجنة المركزية " لقد بتنا بحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى للتحلى بالشجاعة والمسؤولية في تعزيز هوية الحزب الفكرية والإيديولوجية بما يمكننا من تعزيز وحدة الحزب السياسية والتنظيمية انطلاقا من ذلك. وعليه تصبح القضية المركزية أمام حزبنا ونحن نجرى التحضيرات لعقد مؤتمره الخامس، هو إعادة بنائه كحزب للشيوعيين الفلسطينيين، ذي مضمون طبقي وفكري واضح...".
نقد ذاتي جريء يدعو للتفاؤل بالرجوع الى اعتماد طبيعة الحزب الطبقية وإيديولوجيته الماركسية.