تنوع أساليب الإضطهاد والقتل


الطاهر المعز
2021 / 7 / 21 - 21:08     

تجسُّس صهيوني "مُعَوْلَم"

لما نشر "جوليان أسانج"، سنة 2010، على موقعه "ويكيليكس"، وثائق عن حجم التّخريب والدّمار الذي تُلْحقه "وكالة الأمن القومي" الأمريكية بالعالم، من خلال التّجسّس، لم تُشكّك المؤسّسات الأمريكية بصحة الوثائق، ولكنها اعتبرتها تُلحق الضّرر بها، ولذا أصبح "أسانج" لاجئًا في سفارة إكودور بلندن، قبل أن يتغير رئيس إكوادور ويُقرر تسليمه لبريطانيا التي أودعته سُجونها، منذ سنة 2019، وتُهدد بترحيله إلى الولايات المتحدة التي تُلاحق كذلك "إدوارد سنودن"، وكل من ينشر حقائق تسندها وثائق عن التجسس الأمريكي (حتى على "الحُلَفاء"، و"الأصدقاء" ) وعن التخريب الأمريكي للعالم...
ساعدت الإمبرياليةُ الأمريكيةُ جيش الكيان الصّهيوني في مجالات عديدة، منها تطوير تكنولوجيا التجسس والتخريب، وأصبحت فروع بعض الشركات الأمريكية -العابرة للقارات- شركات شبه مستقلة، مثل "إنتل"، قريبًا من "يافا"، بجوار العديد من مؤسسات الجيش الصهيوني، الذي استغلّ كل عُدْوان على الشعوب العربية، من تونس إلى سوريا والعراق، مرورًا بليبيا والسودان ولبنان، لإظهار "نجاعة" الأسلحة وأجهزة التّجسُّس، ليتزايد الطّلب عليها وشراؤها من قِبَل العديد من الدّول، ونادرًا ما تتجرّأ المنظمات الدّولية للدّفاع عن حقوق الإنسان أو النقابات أو الأحزاب (في أي دولة من العالم) للتّذكير بالضّرر الذي يُلحقه الكيان الصهيوني، وشركاته المُرتبطة جميعها بالجيش، بشعوب العالم، وبالعديد من البرلمانيين والصحافيين والسياسيين في العالم، لأن من يُوجّه نقدًا، ولو خفيفًا و"حضاريًّا"، للكيان الصهيوني يُصبح "مُعاديا للسّامية"، مثل الأمين العام السابق لحزب العُمال البريطاني "جِيرمي كوربين".
كشفت منظمة العفو الدولية وستة عشر وسيلة إعلام دولية (بينها صُحُف "لوموند" الفرنسية و"واشنطن بوست" الأمريكية و"ذا غارديان" البريطانية) عن عملية تجسّس صهيونية، باستخدام برنامج أُطْلِقَ عليه إسم "بيغاسوس" ( Pegasus )، الذي تُسوقه مجموعة صهيونية مرتبطة مباشرة بالجيش ( إن إس أُو غروب )، في دول عديدة، منها المغرب والهند والمكسيك وأذربيجان وقازاخستان ورواندا والسعودية وتوغو والإمارات والبحرين والمجر وإسبانيا وفرنسا وكندا والولايات المتحدة، وغيرها، وتتمثل في الرقابة الإلكترونية المستمرة على هواتف (ولو كانت الهواتف مُغلقة) الصحفيين المتخصصين في التحقيق بجرائم الفساد وبالمناضلين السياسيين والنقابيين وكل من يُندّد بالفساد وبالإضطهاد، ما أدّى إلى تعرُّضِ العديد منهم إلى الملاحقات والمُضايقات والإعتقال والسّجن وحتى القَتْل في بلدان عديدة، منها المكسيك والمغرب والسّعودية والإمارات والبحرَيْن.
قدّرت إحدى الجمعيات الفرنسية عدد المُستهدَفِين بفرنسا بأكثر من ألف شخص من الصحافيين والمناضلين والأطباء والرياضيين والسياسيين، من مختلف الإتجاهات الفكرية في فرنسا، ونحو عشرة آلاف بالمغرب، وحوالي 15 ألف بالهند، وتشمل عملية التجسس، مراقبة جميع البيانات المرتبطة باتصالات ونشاط المُستَهْدَفِين، بما في ذلك التطبيقات المُشَفَّرَة، وأظهر التقرير المنشور يوم 18 تموز/يوليو 2021، تَعرُّض ما لا يقل عن خمسين ألف هاتف للصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والأكاديميين والنقابيين والدبلوماسيين والسياسيين (في الحكم أو المعارضة) في خمسين دولة من دول العالم، للمراقبة، منذ سنة 2016، بواسطة برامج التجسس التي طورتها شركة صهيونية متخصصة في أمن الكمبيوتر، ووقع، منذ سنة 2019، تطوير برنامج التّجسُّس، وتثبيته في الهواتف "الذكية" للأشخاص المستهدفين دون علمهم، والإطّلاع على الرسائل المتبادلة على التطبيقات المشفرة مثل "وتساب" أو "تيلغرام" أو "سيغنال"، ويستطيع برنامج التجسس التّحكّم عن بُعْد بجهاز الهاتف، وتشغيل الميكروفون وكاميرا الجهاز، ليتمكّن من الوصول إلى بيانات جهات اتصال الهاتف وتحديد موقع المُتّصِل، وبالتالي يتجاوز الأمر عملية القرصنة والتّنصُّت على المكالمات، ليتعاظم خَطَرُهُ على الأفراد (انتهاك "الخُصُوصية") وعلى الحُرّيات العامة للأفراد من الصحافيين والسياسيين ومُعارضي الأنظمة القائمة، ومُقاوِمِي الإستعمار والهيمنة، وخطرًا على الأمن القومي للدّول، وعلى أمن الشركات وعلى أسرار المهنة للصحافيين وللقُضاة والمُحامين والدبلوماسيِّين وغيرهم من الأفراد والمجموعات التي لا يُمْكِن اتهامها ب"الإرهاب" أو المتاجرة بالمخدّرات أو غير ذلك من التُّهَم التي كانت تُسْتَخْدَمُ لتبرير التّجسّس على مواطنات ومواطنين يشاركون في الحياة السياسية والاقتصادية لبلدانهم، ويحرصون على احترام الحُريات.
يكمن خطر مثل هذه البرامج في تخفِّيها وراء شركات خاصّة، مثل "إن إس أُو" المُرتبطة هيكليًّا بالجيش وبالمُؤسّسات الصهيونية الأخرى، أي خصخصة مجال الإستخبارات والتّجسُّس على مواطني العالم، واستعانة الحكومات بهذه الشركات الخاصة، مثل مجموعة "إ إس أُو" و "هاكينغ تيم" و "فين فيشر"، للتجسس على مواطنيها أو على مواطني ومؤسسات دول أخرى، ما يُعسِّر على هؤلاء المواطنين الدّفاع عن حُقُوقهم، خصوصًا مع صعوبة الكشف عن برنامج التّجسس "بيغاسوس" الذي يمكنه التّجسّس ولو كان جهاز الهاتف مُغْلقًا، ما يُيَسِّرُ عملية انتهاك الحُقُوق، وما يُعَسِّرُ عملية الإحتراز، ولربما لن يقع الكشف على عملية التّجسُّس هذه (لأن المتورّطين صهاينة) لولا استهداف الشركة الصهيونية الصحافيين المُختصّين بمجال التحقيقات حول الفساد وانتهاك الحُرّيات وبعض الأفراد المُرتبطين بمنظمة العفو الدّولية التي تمتلك خبرة فنية في كشف المنظومات الأمنية التي تستهدف المُدافعين عن حقوق الإنسان والمُتعاونين معهم.
قبل أيام قليلة من نشر تفاصيل هذه الفضيحة، أظْهَر الإتحاد الأُوروبي تَواطُؤًا تامًّا مع الكيان الصهيوني، بعد بضعة أسابيع من العدوان الصهيوني على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة سنة 1967، في غزة والقُدس والضّفّة الغربية، حيث استقبلت مؤسسات الإتحاد الأوروبي وزير الخارجية الصهيوني، بترحاب كبير وبتغطية إعلامية (إيجابية) واسعة، ردّدت خلالها معظم وسائل الإعلام الأوروبية أسطورة "حق الدولة الدّيمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط في الدّفاع عن نفسها"، هذه "الدّولة الديمقراطية" التي يعتقل جيشها الأطفال ويقتلهم بالرصاص عنوةً، وقَتل حوالي عشرين فلسطيني، بين 29 حزيران/يونيو، و11 تموز/يوليو 2021، وهدم 27 مبنى، بحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، ورحّب كل من المفوض السامي للشؤون الخارجية (بالإتحاد الأوروبي)، ووزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وهولندا وجمهورية التشيك والأمين العام لحلف "الناتو"( الدّمْيَة الأمريكية "ينس ستولتنبرغ")، بهذا الضّيف المرموق، مُمثل الإستعمار الإستيطاني الأوروبي في المشرق العربي. لقد كانت أوروبا (ولا تزال) مَهْد الرأسمالية والعُنصرية والإستعمار، وما الصهيونية سوى فرع أوروبي للإستعمار الإستيطاني.
رغم عمليات القمع والإعتقالات في كافة مناطق فلسطين المحتلة، أشاد البيان المشترك "بالقيم المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل"، وقد يعني ذلك التّجسُّس على المواطنين والإعدام خارج إطار القضاء، ومنع الأطباء والمُسعفين من معالجة المُصابين، والعقوبات الجماعية وهدم القُرى والمنازل، واعتقال وقتل الأطفال، والإعتقال الإداري لفترة غير مُحَدّدة، بدون توجيه تهمة والعنصرية والتّطرّف...
استخلاصات:
ادّعت وسائل الإعلام الأمريكية، ومجموعة من السياسيين الأمريكيين (خصوصًا من الحزب الدّيمقراطي) تدخُّل روسيا في الإنتخابات الأمريكية، عبر برامج تجسُّس وقَرْصَنة إلكترونية، دون تقديم أي دليل، لكن الأمر يختلف عندما يكون الكيان الصهيوني (أو وكالة الأمن القومي الأمريكي) متورطا في عمليات تجسس ثابتة وواسعة النّطاق، ولو كانت إيران أو كوريا الشمالية (على سبيل المثال) متورطة في عملية مُشابهة، أو أقل خطورة، لهددت الولايات المتحدة، وحلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي، بشن حرب، مع ما يُرافق ذلك من حصار اقتصادي وحَظْر تجاري وما إلى ذلك، لكن كل "المُحَرّمات" تُصبح جائزة، بل مُحَبَّذَة، عندما يتعلق الأمر بالكيان الصهيوني...
يستغل الكيان الصهيوني أي عدوان لإبراز قُدُراته التّخريبية، وبيع إنتاج المصانع الحربية، وبرامج التجسُّس، إلى العديد من الدّول، ومنها الدول العربية، ويمكن أن تؤدّي عملية كشف برنامج التجسّس "بيغاسوس" إلى زيادة مبيعات وأرباح شركة "إن إس أُو"...
تأسّست الشركة الصهيونية ( NSO ) سنة 2009، من قِبَل ضُبّاط سابقين في إحدى وَحَدات "النّخْبَة"، لتُصبح "مجموعة" تضُمُّ عدة شركات، تتداخل مهماتها ومصالحها مع الجيش الصهيوني، وذلك بعد أشهُرٍ من عدوان واسع على الفلسطينيين بقطاع غزة، لتصنيع وتسويق المعدات المتطورة كأجهزة الكمبيوتر والطائرات الآلية، لتتبع واغتيال المقاومين الفلسطينيين، بذريعة "مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وإنقاذ أرواح المَدَنِيِّين"، بحسب الصحيفة الصهيونية "يدعوت أحرونوت" بتاريخ 11 كانون الثاني/يناير 2019، وتم تطوير هذه المُعدّات بعد تجربتها من قِبَل الإستخبارات العسكرية للجيش الصهيوني، في الأراضي الفلسطينية المُحتلة وفي سوريا وإيران، قبل تسويقها إلى حوالي 55 دولة وقرصنة عشرات الآلاف من الهواتف والحواسيب، لتحديد موقع المُتّصِل والمُتَّصَل به، والإطلاع على الرسائل والصّور والمكالمات، دون تدخّل بشري مُباشر، ودون ترك أثر، في هواتف وحواسيب الصحافيين والمحامين والأطباء ورجال الأعمال والرياضيين، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والسياسيين، من بينهم 13 رئيس دولة، منها دول "صديقة" للكيان الصهيوني وللولايات المتحدة، وسبق أن تجسّست الولايات المتحدة على رؤساء حكومات دول من "الحُلفاء" ومن أعضاء حلف شمال الأطلسي...
ليس من قبيل المصادفة أن معظم الدّول الزّبائن لشركة ( NSO) في "مشروع بيغاسوس"، خلال السنَتَيْن الماضيَتَيْن، من الدّول التي تدعم الكيان الصهيوني (فرنسا وكندا ) أو طبّعت علاقاتها معها أو شجّعت على التطبيع كالمغرب والهند والسعودية وتوغو ورواندا، وساعد الكيان الصهيوني (بموافقة، وربما بإشراف الولايات المتحدة) الأنظمة الحاكمة بهذه الدّول للتخلُّص من مُعارضيها...
أظهرت هذه الفضيحة عدم وجود حُدُود فاصلة بين الجيش والشركات "المدنية"، فهما يعملان على تحقيق نفس الأهداف الإستعمارية الصهيونية، إذ تعمل وحدات الاستخبارات الإلكترونية التابعة للجيش الصهيوني كشبكة استكشافية للشركات المحلية الخاصة في مجال التجسس الإلكتروني، مقابل تقديم هذه الشركات خدمات يحتاجها الجيش، داخل فلسطين المحتلة أو خارجها في المكسيك وإندونيسيا وبنغلاديش وتايوان والصين وفيتنام، وعدد من الدول التي تستورد أسلحة من الكيان الصهيوني الذي يُصدّرُ أيضًا (بمقابل مالي وسياسي) الخبرة العسكرية والأمنية، وأنظمة المراقبة الإلكترونية، وتدريب موظفين متخصصين في مراقبة وقَمْع "المجموعات المُعادية"، ويُشرف آلاف الخبراء العسكريين الصهاينة (من خلال الشركات الخاصة في قطاع التكنولوجيا) على خدمات تصدير التكنولوجيا العسكرية والأمنية، وفك تشفير الشفرات، وتحليل الصور الجوية التي توفرها الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع أو طائرات المراقبة بدون طيار ، ومعالجة المعلومات المُجَمّعة من الدول العربية، وعلى تدريب خُبراء الدّول الزبائن على استخدام الأسلحة وأنظمة الإتصالات وأجهزة الكمبيوتر، وتُقدّرُ رواتب هؤلاء الخبراء العسكريين (الذين يعملون لدى الشركات الخاصة) بنحو سبعة أضعاف الدّخل المتوسط للموظفين الصهاينة، وقد تصل إلى عشرة أضعاف...
أظهرت هذه الفضيحة كذلك، زيف ادّعاء شركات صناعة البرمجيات "المُتَطَفِّلَة" أو "الخبيثة" (برامج التجسس) العمل على "الوقاية من حدوث الجرائم، وإنقاذ أرواح المدنيين"، بينما ثَبَتَ استخدام هذه المنظومات الأمنية يوميا، في العديد من البُلدان، لسرقة المعلومات الشخصية وللتجسس على أشخاص مَدَنِيِّين، مُسالمين، يمارسون أنشطة قانونية، من صحافيين وأطباء وسياسيين ونقابيين وغيرهم، عبر التّحكّم الكامل، عن بُعد في أجهزتهم الإلكترونية الخاصة التي اشتروها بأموالهم ويُسدّدون ثمن اشتراكاتهم في الشبكات الإلكترونية، أو ذات الإستخدام المهني، ويمكن التّأكيد أن الحكومات وأجهزة الدّولة وشرطتها تستغل المعلومات الخاصة المسروقة (من قِبَل الشركات الخاصّة) للضغط على المعارضين وتهديدهم واعتقالهم وإيداعهم السّجن، أو اغتيالهم بواسطة طائرة آليةن تُطلق صاروخًا على سيارتهم أو محل سكنهم، إذا كانوا فلسطينيين أو عراقيين أو يمنيّين، يقاومون الإمبريالية...