تقييم لسياسة الحزب الشيوعي العراقي بعد ثورة 14 تموز/الجزء الاخير


فاضل عباس البدراوي
2021 / 7 / 19 - 23:46     

الجزء ألاخير
بعد ان رفض وزير الارشاد السيد صديق شنشل، القيادي البارز في حزب الاستقلال ذو التوجه القومي من منح الحزب الشيوعي رخصة اصدار جريدته، التجأ الحزب الى الزعيم طالبا منه التدخل لمنح الحزب رخصة اصدار جريدته أسوة بالاخرين، استجاب الزعيم لطلبه وأوعز الى وزارة الارشاد بمنح الحزب رخصة اصدار جريدته. بناء عليه صدرت جريدة اتحاد الشعب الناطقة بأسم الحزب الشيوعي اواسط شهر كانون الثاني من عام 1959لا أتذكر بالضبط يوم صدورها.
بعد أيام قليلة من صدور الجريدة قدم ستة وزارء استقالتهم من حكومة الزعيم، وقبلها الزعيم فورا، اربعة من هؤلاء كانوا من القوميين، وهم السادة، الدكتور عبد الجبار الجومرد، صديق شنشل، ناجي طالب، والوزير البعثي فؤاد الركابي، والكردي بابا علي الشيخ محمود، وهو لم يكن يحض بتأييد الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأحل عبد الكريم قاسم محلهم وزراء اخرين، بعد ذلك التعديل الوزاري تعزز موقع الحزب الوطني الديمقراطي في الوزارة، حيث شغل سكرتيره العام السيد حسين جميل منصب وزير الارشاد وشغل الشخصية الاقتصادية المقربة من الحزب الدكتور طلعت الشيباني منصب وزير الاعمار.
في اليوم الثاني من استقالة هؤلاء الوزراء صدرت جريدة اتحاد الشعب وهي تحمل على صفحتها الاولى مقالا أفتتاحيا يتضمن نقدا لاذعا أقرب الى الاتهام والتقريع تجاه هؤلاء الوزراء المستقيلين، متهما اياهم، بمحاولة عرقلة مسيرة الثورة فما كان من وزير الارشاد السيد حسين جميل الا ان اصدر قرارا بتعطيل الجريدة، مرةأ خرى التجأ الحزب الى الزعيم شاكيا قرار تعطيل جريدته، اصدر الزعيم تعليمات الى وزارة الارشاد بأستمرار اصدار الجريدة، جاء قرار الزعيم صدمة لحسين جميل واعدّه تجاوزا على صلاحياته دفعه الى الاستقالة من منصبه.
في الحقيقة كان مقال جريدة اتحاد الشعب مكتوبا بلهجة شديدة، كان بالامكان التخفيف من لهجتها بحيث يتضمن عتابا بدلا من تلك اللغة القاسية، والطلب من المستقيلين اعادة النظر في موقفهم خدمة للصالح العام وعدم تعريض الثورة الى مثل هذه الهزة . كما ان الموقف المتشنج والمتسرع للسيد حسين جميل كان يتناقض مع مبادئ حرية النشر وهو أحد مقومات النظام الديمقراطي، خصوصا ان السيد حسين جميل كان أحد أقطاب الحركة الديمقراطية في العراق والسكرتير العام للحزب الوطني الديمقراطي الذي من صلب اهدافه حرية الصحافة والنشر، كان عليه بدلا من قرار تعطيل الجريدة ان يوجه تنبيها او حتى انذارا لها بدلا من قرار التعطيل.
من بداية شهر شباط من عام 1959 بدأ الحزب الشيوعي بالتنسيق مع المنظمات الشعبية التي يقوم بقيادة معظمها كوادره، (حركة أنصار السلام، اتحاد الطلبة، الشبيبة الديمقراطية، رابطة المرأة)، بالقيام بمهرجانات سميت مهرجانات السلام، تقام في كل اسبوع في أحد ألالوية (المحافظات) جاء دور مدينة الموصل الذي تقرر أن يقام فيها مهرجان السلام في يوم 8/3 / 1959 ، عند انتشار الخبر في الموصل حضر الى بغداد العقيد الركن عبد الوهاب الشواف امر الحامية وقابل الزعيم طالبا منه عدم اقامة المهرجان في الموصل لخصوصية المدينة، الا ان الزعيم رفض طلبه بل أصر على اقامة المهرجان في يومه المقرر، أكثر من ذلك أمر بتخصيص قطار يقوم بنقل المشاركين من بغداد الى الموصل مجانا. ان ذلك الموقف من الزعيم يدعو للعجب، لماذا أصر على اقامة المهرجان، هل كا الغرض منه وضع الشيوعيين والقوى القومية والرجعية أحدهم بمواجهة الاخر ليتصادما بالتالي لاضعاف الطرفين؟، ان كان تحليلي هذا صحيحا فان هذه الفكرة لم تكن من بنات افكاره ربما جاء بمشورة من بعض المقربين منه، سياسيون مدنيون أو عسكريين. كان يجب ان لا يقام ذلك المهرجان أصلا في الموصل، لأن نفوذ القوى القومية والرجعية والاسلامية والاقطاعيين كان يفوق بكثير نفوذ الشيوعيين والقوى الديمقراطية في المدينة. لو لم يتم اقامة ذلك المهرجان لجنبنا البلاد الكثير من المشاكل وقللنا من اراقة المزيد من الدماء من كل الاطراف.
في نهاية شهر نيسان من ذلك العام بدأ الحزب والنقابات العمالية والمهنية والمنظمات الشعبية، بالتهيئة لاقامة الاحتفالات بمناسبة يوم الاول من أيار عيد العمال العالمي.
في صبيحة الاول من أيار انطلقت مسيرة جماهيرية كبرى لم يشهد لها تاريخ العراق مثيلا لا من قبلها ولا من بعدها، قدر عدد المشاركين فيها بمليون مواطن وكان هذا العدد كبيرا نسبة الى عدد السكان انذاك. كان الزعيم واقفا من على منصة نصبت على شرفة من شرفات وزارة الدفاع مطلة على بداية شارع الرشيد، بعد ان شقت المسيرة طريقها في شارع الرشيد تتخللها رقصات فولكلورية وهتافات بحياة الزعيم والثورة والجمهورية الوليدة، يرتدي شابات وشبان ملابس تعكس التنوع الديموغرافي للشعب العراقي، بدأ بعض المتظاهرين، من منتصف طريق المسيرة ومن منطقة سيد سلطان علي، وبشكل مفاجئ، بترديد شعرات وهتافات (عاش زعيمي عبد الكريمي حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمي) عم هذا الهتاف المسيرة كلها ولما وصلت طلائع الذين يرددون هذا الشعار مبنى وزارة الدفاع، وعند سماع عبد الكريم قاسم هذا الهتاف ترك منصة التحية منزعجا.
عند قراءة المرء لمذكرات قادة الحزب في تلك الفترة يجمعون تقريبا، بان ذلك الشعار لم يكن من ضمن الشعارات التي حددها الحزب للمسيرة، انما انطلقت اما من قبل عدد من المتظاهرين بطريقة عفوية او من جهة مجهولة!!.
انا أقول ان هؤلاء الرفاق لم يذكروا الحقيقة كما هي، دليلي على ذلك، كيف يرفع هذا الشعار الحساس غير المدروس من قبل مجهولين حسب ادعاؤهم؟ ان لم يكن صادرا عن الحزب، اذ ان معظم قادة الحزب من اعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية كانوا يتصدرون المسيرة؟ ثم لماذا لم تصدر منهم تعليمات الى قادة المسيرة بوقف ترديد هذه الهتافات وهذا الشعار؟ اضافة الى ان الرفيق الشهيد سلام عادل كان يشرف على المسيرة من على شرفة من احدى عمارات شارع الرشيد؟ والدليل ألاخر هو كتابة عدة افتتاحيات في جريدة الحزب اتحاد الشعب في اليوم الثاني والايام التي تلت تلك المسيرة
تكرس فيها لهذا المطلب، اضافة بقيام الحزب بتنظيم تجمعات في المقاهي والساحات العامة يقوم فيها أعضاء الحزب بترويج أهمية اشراك الحزب في الحكومة، (كنت شخصيا أحد المساهمين فيها بطلب من الحزب) كيف يتبنى الحزب مثل هذا الشعار ويطالب الزعيم بتنفيذه وهو لا يعلم مصدر هذا الشعار؟.جاء رد عبد الكريم قاسم على مطلب الحزب الشيوعي في الاشتراك بالحكم بخطاب له القاه بداية شهر حزيران من ذلك العام أعلن فيه، تجميد النشاطات الحزبية وعدم السماح للاحزاب بممارسة نشاطهم لحين أصدار قانون للاحزاب. سارع الحزب الوطني الديمقراطي بأعلان تجميد نشاطه بغياب رئيسه السيد كامل الجادرجي الذي كان في رحلة علاج في الاتحاد السوفيتي، وقد كان يقود الحزب انذاك السيدان محمد حديد وحسين جميل. (عند مجيء الجادرجي من رحلة العلاج بعد أشهر من ذلك التاريخ وجه انتقادا لرفيقه في قيادة الحزب ألسيد محمد حديد على خطوة تجميد الحزب). أحدث قرار الزعيم وموقف الحزب الوطني الديمقراطي صدمة للحزب الشيوعي واصبح بمواجهة مع عبد الكريم قاسم وكان هذا هو الغرض من قرار تجميد الاحزاب هو احراج الحزب الشيوعي ووضعه امام الامر الواقع. لم يرضخ الشيوعي للقرار حيث قام بتشجيع مجموعة من اعضاء الصف الثاني مع اصدقاء للحزب الوطني الديمقراطي بأصدر بيان يعلنون فيه استمرار الحزب في نشاطه وعدم الالتزام بقرار تجميد الحزب كان من اهم الموقعين على ذلك البيان. السادة، ناجي يوسف، الدكتور أحمد جعفر الجلبي، الدكتور عبدالله البستاني وعبد المجيد الونداوي وعلي جليل الوردي وسليم الحسني وعدد اخر لا تحضرني أسماؤهم، لكن هذا البيان لم يجد له صدى في صفوف الوطنيين الديمقراطيين ولم يتمكن اصحابه من أحداث شرخ في الحزب ولم يتجاوب أحد من فروع الحزب معه.
في اواسط حزيران، صدرت جريدة اتحاد الشعب وهي تحمل على صفحتها الاولى بيانا يتضمن اعلانا بقيام جبهة وطنية موحدة، موقعة من الحزب الشيوعي والمجوعة الانفة الذكر بأسم الوطني الديمقراطي، وعدد من أعضاء في المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني، وهم السادة حمزة عبدالله وصالح الحيدري وخسرو توفيق ونجاد أحمد عزيز، علما بأن هؤلاء تم أبعادهم عن قيادة الحزب من قبل السيد مصطفى البرزاني قبل أشهر من ذلك التاريخ متهما اياهم باليسارية وموالاة الحزب الشيوعي. أذيع بيان تلك الجبهة من دار ألاذاعة الذي كان مديرها الضابط اليساري المعروف، المقدم الركن سليم الفخري، اثار اذاعة البيان من دار الاذعة غضب الزعيم، قام فورا باقالة الفخري واحالته على التقاعد، وتبخرت تلك الجبهة المصطنعة بنفس السرعة التي اعلنت عن قيامها.
بعد تراكم الاحداث وتسارعها، عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعا موسعا حضره عدد من الكادر المتقدم للحزب ذلك في شهر اب أو نهاية تموز من عام 1959، نشر على اثره الحزب بلاغا فيه نشر لغسيله على الملأ أكثر مما هو نقد ذاتي، كان دوافع النشر هو جبر خواطر الزعيم ومحاولة ترميم الجسور بينهما، أكثر منه كممارسة مبدأية للنقد الذاتي، لكن الحزب لم يفلح في ذلك، تغيرت سياسة الحزب منتقلا من اقصى اليسار الى اقصى اليمين، رافعا شعار تضامن كفاح تضامن، كلما كان الحزب يحاول التقرب من عبد الكريم قاسم كان هو يزداد ابتعادا، بحيث عدّ الشيوعيين الخصم الاول له، فتح ابواب المعتقلات والسجون لتضم مئات الشيوعيين والنقابيين (كنت من بين الذين شملتهم موجة اعتقالات الكوادر النقابية في شهر حزيران من عام 1962 حيث أمضيت سبعة أشهر في معتقل الموقف العام في بغداد وخرجت بكفالة قبل الانقلاب الاسود بعشرة أيام) وفصل المئات من الموظفين والتربويين والعمال من وظائفهم، بينما أخذ الزعيم يسلك سياسة استرضاء البعثيين والقوميين والقوى الرجعية المناوئة للثورة وله شخصيا، كلما كان يشتد تامر هؤلاء، كان الزعيم يتراجع الى الخلف.حتى وصل التامر ذروته يوم تنفيذ قوى الردة بقيادة البعث الفاشي انقلابها الاسود يوم 8 شباط من عام 1963.
هناك مسألتان ، ربما لم يتطرق أحد لهما قبلي، اولهما لمّّّّّا لاح في الافق رائحة التامر وكان الحزب الشيوعي على علم به وكل المذكرات التي كان يقدمها الحزب للزعيم تحذره من المؤامرة وفي اخرها ذكر الحزب اسماء بعض الضباط المتامرين، لكنها لم تجد لها اذن صاغية من الزعيم، لماذا لم يبادر الحزب بعمل استباقي لقطع الطريق على المتأمرين وكان حتى ذلك الوقت له تنظيم عسكري لا يستهان به بالاخص في بغداد وقاعدة حزبية ما زالت واسعة؟، لا أستطيع تخمين نوع تلك المبادرة وكيفية وشروط القيام بها.
أما الثانية، هل ان دعوة الحزب لرفاقه وجماهير الشعب لمقاومة المؤامرة بالسلاح كان ذو جدوى خصوصا ان المتامرين كانوا المبادرين في الميدان، اذ سيطروا على الجو بطائراتهم وعلى الارض بدباباتهم ومدرعاتهم اضافة لسيطرتهم على دار الاذاعة، بينما ترك قادة الجيش عبد الكريم قاسم وعدد قليل من رفاقه وحدهم يقاتلون في وزارة الدفاع، حتى ان صهره وابن عمته اللواء عبد الجبار جواد الذي كان قائدا للفرقة الخامسة ومقرها بغداد لم يستجب لدعوته والتزم بيته. لو كان الحزب قد اكتفى باصدار بيان يشجب فيه المؤامرة ويفضح اهدافها، وقام بعملية انسحاب منظم بتوزيع قادته عل المدن والارياف خارج العاصمة، في الفرات الاوسط الذي كان له فيها تنظيمات قوية، كذلك في مدن كردستان التي لم يكن للبعثيين فيها موطئ قدم، ربما لقلل من وطئة الضربة التي الحقت به والخسائر التي مني بها، هذا مجرد رأي ربما لا اكون مصيبا فيه.
هكذا طويت صفحة ثورة 14 تموز ومنجزاتها وحكومتها الوطنية ودخل العراق نفقا مظلما امتد امده ليومنا هذا.
انتهى