بين سلطة العلم و سطوة الهوى خيطٌ رفيع ..!


محمد عبد الشفيع عيسى
2021 / 7 / 19 - 21:45     

سادت في السنوات الأخيرة ادعاءات كثيرة قد تكون مجافية للعلم؛ ادعاءات في كافة المجالات : ثقافية عامة ، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية ، بل وتاريخية وجغرافية وغيرها، ولم تجد من يفنّدها بما فيه الكفاية والكفاءة اللازمة .
ويتم تزييف الحقائق من كل طرف وفى كل جانب تقريباً، دون وازع من الوعى الذاتيّ والجمعيّ العميق؛ و إذا بالحقائق الزائفة تلك، التي لم تعد يصدق عليها وصف "الحقيقة" ، تلقى من الذيوع ما يجعلها في أعين الجمهور بمثابة الحقيقة، بل "الحقيقة المنزلة" أو "المنزّهة" ، أو ما يقرب من ذلك .
وفى العلاقات بين الدول وبعضها البعض ، وبين "الفاعلين" فى المجتمع المحلّي و العالمي عامةً، يتحدث من يريد بما يريد و (يهرف بما لا يعرف)، محاولاً إقناع جمهوره الخاص المستعد للتصديق مسبقا و دون معقِّب تقريبا. ذلك ما ندعوه "الديماجوجيا" وما يشبهها، بمعنى النزعة الدعائية (الدعوية) و ربما (التضليلية) المناهضة للعلم والمنهج العلمي.
التاريخ ما عاد هو التاريخ، كعلم له صفة "الموضوعية" و "الحيادية" المفترضة، وإنما صار أقرب إلى "االتأريخ" الذى تمارسه نخبات موظفة لهذا الغرض أو غير موظفة. و "الجغرافيا" لم تعد الجغرافيا، إذ وُظّفت لأغراض عقائدية أو اجتماعية أو سياسية، بدءً من الحدود المساحية المرسومة وانتهاءً بعلوم الأجناس والجغرافيا البشرية.
وقل مثل ذلك عن علم الاقتصاد، الذى يراد له من قبل البعض أن يتحول – تحت عنوان الاستفادة من الأساليب الكمية و الّنمذجة – إلى علم لفك الألغاز و الأحاجي الرياضية و الإحصائية والقياسية للتغطية على حقيقته الاجتماعية. ثم علم الاجتماع و الأنثروبولوجيا اللذين تزحف عليهما عاصفة "تجزيئ العلم" باسم "الأبحاث الميدانية". وكذا علوم السياسة الي تكاد تصبح ساحة للحروب وتصفية الحسابات الظرفية.
"البيانات" التى هى المعطيات الأولية المستقاة من رصد الوقائع المختلفة فى المجالات المتنوعة للحياة البشرية، يتم اختطافها مباشرة (من المنبع) ثم إعمال مقصّ " العقل" فيها، العقل الموجه اجتماعيا بطبيعة الحال ، فيتدخل في عملية الترتيب والتصنيف والتحليل ومن ثم التعليل، دون احتراس. ثم إذا بها توظف لأغراض السيادة والسياسة، وتبنى عليها "المعلومات" .. وهذه لا ينطبق عليها الوصف الحقيقي للمعلومات أو "الإعلام" بمعناه الدقيق، بل قد تكون في حالات عديدة من قبيل "الدعاية". و لمّا يتم جمع البيانات يجري بناء قواعد المعلومات، و توضع لها في التصنيف والتحليل قواعد وصفية و كمية، وتقدم جاهزة أو شبه جاهزة، معلّبة عن طريق "البرامج الناعمة" (السوفت وير) لتتخذ أساساً لتحديد المواقف واتخاذ القرارات (العليا) ووضع السياسات، وفق من يهوى و كما يشاء .
ومن البيانات المختلفة المجموعة، و المعلومات المتناثرة لمحلَّلة، يتم بناء
(حقائق) أو ( أنصاف حقائق) و رصْفها جنباً إلى جنب ، (وصفياً) و (تحليلياً) كما أشرنا، ليتكون منها جسد علميّ، و ما هو بعلم مكتمل الأركان، وإنما "شبه علم" في أفضل الأحوال؛ تلك هي ما تسمى "المعرفة".
من ثلاثيّة البيانات المعلومات والمعرفة تولد ثقافة أو ثقافات كاملة، تنغلق كل منها حول ذاتها، أو (تتقوقع) في شرنقة قلّ أن تفتح، وعزّ أن يكشف جوهرها المكنون .
ومن حول الكيان الثقافي الضخم والعملاق للبيانات و المعلومات والمعرفة، يتم تحديد اتجاهات تطور العلوم، انطلاقاً من مصالح اجتماعية مختلفة (طبقية و قومية ضيقة غالبا.. إلخ) عكستها ثم طورتها تلك الثقافات في عديد الأحيان . ومن "المصالح" التي تمثلها "الشركات" الخاصة في ( الدول المتقدمة)، تتحدد اتجاهات البحث العلمي (غير المستقل ..!!) ، بكل دقة، ضمن التوزيعات القطاعية للبحث، كما تعبر عنها هذه المصالح "المفكرة" أو تلك .
و إن ما نجده في عالمنا وعصرنا، في التحليل الأخير، إلى حدّ بعيد، هو أنه حتى العلم الطبيعي والطبي، بل والرياضي، يميل إلى أن تتحدد فيه اتجاهات البحث والتطوير، بالمصالح الاجتماعية وبالأهواء السياسية، في غالب الأحيان. وهذا ما نراه من حولنا الآن، حيث (فيروس كورونا) يلتهم الجميع وهم ينظرون ...! وما كان أحرى بهم أن يتوقعوا ذلك القابل للتوقع، بل و غير المتوقع، ثم أن يوجهوا الإنفاق المالي ومخزون رأس المال البشرى الذى (طنطنوا) به سنين عدداً، نحو اكتشاف غير المكتشف وتقديم الترياق الشافي للسم الزعاف، والبلسم الواقي من قبل انتشار العدوى. كل ذلك بدلاً من التركيز المادي والمالي والبشرى الهائل على تصنيع (الآلات المفكرة بالذكاء الاصطناعي) وأسلحة الحروب الفتاكة بين تدمير شامل أو شبه شامل و تدمير غير شامل للبشرية المعذبة في عصر هيمنة الرأسمالية العالمية الراهنة.
هكذا، فإن العلم الطبيعي والرياضي بات يقوم على بيانات من الوقائع، يحولها "المنهج" العلمي إلى معلومات فمعارف ، ولكنه "مُوجّه" فى النهاية بغايات محددة اجتماعية/طبقية و "قومانية" ، ضيقة في أغلب الأحايين .
أما العلم الاجتماعي ، فقد أصبح بين شقّىْ الرحى، إلا من رحم، ما بين الوقائع التي ترصدها قواعد البيانات، انتقائياً للأسف، وما يتلوها من معلومات ومعارف، و قد تحدوها الأهواء والغرض، كما أشرنا غير مرة. و ربما تزيد "جرعة" " العقائد المسبقة أو "الإيديولوجيا" في العلوم الاجتماعية، حتى لتتغلب على سمات العلم المتبقية، فتصل إلى حدود "مناهضة العلم" في طرفها الأقصى.. وتلك هى "الديماجوجيا" – استخدام "سلطة التهييج" للوصول إلى تحقيق الغرض.
ومع "الديماجوجيا" تنتشر "الدعاية"– أو"البروباجندا"- التي تبثّها "جماعات المصالح" و "الشركات الخاصة" و الأحزاب السياسية، والجماعات المنتفعة، بكافة تلويناتها، ولكن إلى حدود متفاوتة.
فهل غابت سلطة العلم أمام سطوة الهوى..؟ نعم، إلى حدّ معين. و لكنّا نرجو أن يتغلب العلم الحق، عبر الزمن، على أغراض الهوى. و ما هذا الزمان ببعيد في ميزان التاريخ الاجتماعي على كل حال..!