تونس في ذكرى مجزرة بنزرت


الطاهر المعز
2021 / 7 / 19 - 10:51     

تونس من بنزرت 1961 إلى القيروان 2021
هوامش من أخبار تونس في الذّكرى السّتّين لمجزرة بنزرت

ظُرُوف الإستقلال المنقوص:
تفاوضت الحكومة الفرنسية التي كان يقودها الحزب الإشتراكي (الفرع الفرنسي للأممية الثانية) مع الأجنحة اليمينية في حركات التحرر الوطني بتونس والمغرب، بداية من 1954، لتمنحها، سنة 1956، استقلالا شكليًّا، منقوصًا، من أجل عزل المقاومة المُسلحة (جبهة التحرير الوطني) في الجزائر، وأبْقت فرنسا على قاعدة عسكرية جوية وبحرية ضخمة في مدينة بنزرت الساحلية (شمال تونس)، وليس من باب الصّدفة أن كثفت حكومة "غي موللّيه" ("اشتراكي") القمع في الجزائر، سنة 1956، أي سنة الإستقلال الشّكْلِي للمغرب وتونس، كما كانت سنة 1956، سنة العُدوان الثلاثي على مصر (بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني) واختطف الجيش الفرنسي (26 تشرين الأول/اكتوبر 1956) فوق أجواء تونس طائرة قادمة من المغرب، كانت تقل بعض العناصر القيادية لجبهة التحرير الوطني...
عند "مَنْح" الإستقلال لتونس، اشترطت فرنسا تعويضات هامة للمُسْتعمِرِين الذين استولوا على الأراضي الزراعية وعلى العقارات وممتلكات الشعب التونسي، كما اشترطت بقاء جيش الطيران والبحرية في القاعدة العسكرية بمدينة بنزرت، وهي منصّة للعدوان على الشعب الجزائري، وكذلك على الشعب التونسي، بذريعة تَعَقُّب جيش التحرير الوطني الجزائري، وكان سُكّان قرية ساقية سيدي يوسف ضحية غارات الطائرات الحربية الفرنسية انطلاقًا من قاعدة بنزرت، ما خلق أزمة بين جبهة التحرير الوطني والنظام الجديد بتونس.
في هذا الإطار الإقليمي العربي، والدّولي، وفي خضم العداء للقومية العربية وللنظام المصري (الذي يدعم بدوره جبهة التحرير الوطني بالجزائر)، والدّعم الأمريكي الذي يفتخر به بورقيبة، حدثت هذه "الأزمة" مع فرنسا التي كان يرأسها الجنرال شارل ديغول (1890 – 1970)، حيث طالب بورقيبة بإخلاء القاعدة العسكرية، ورفضت فرنسا، بل تَصَرّفَ جيشُها وكأنه على أراضيه، أو في بلد محتلّ، ينصب الحواجز في الطّرقات، ويُفتّش المارّين، ويُطلق النّار على من يقترب من القاعدة، أو على من يتجرأ على مُعارضة وُجوده على أراضي دولة "مُستقلّة" (شكلاً على الأقل)، وأسفرت معركة بنزرت عن هزيمة عسكرية ثقيلة جدًّا، وانتصار دبلوماسي تونسي، بدعم أمريكي.
تُعتَبَرُ "أحداث" بنزرت أخطَرَ أزمة أثّرت على العلاقات بين النظام التونسي المنبثق عن اتفاقية 20 آذار/مارس 1956، والقُوّة المُستعمِرَة (فرنسا)، واستغل بورقيبة الحادثة داخليا لتصفية كافة أشكال المعارضة، كما كانت إيذانًا بالإصطفاف وراء الإمبريالية الأمريكية.

ظروف المجزرة ونتائجها:
يصادف يوم 19 تموز/يوليو2021 الذكرى الستين لبدء "معركة" بنزرت، بخصوص القاعدة الجوية والبحرية التي يحتلها الجيش الفرنسي بتونس، واستخدم بورقيبة هذه الحرب، غير المتكافئة، لتأكيد سلطته ضد المعارضة التي اعتبرت اتفاقية 20 آذار/مارس 1956 مع الإستعمار الفرنسي، استقلالا شكليا منقوصًا، وخيانة للشعب الجزائري الشقيق، وطعنًا لمصر التي تدعم الثورة الجزائرية، وأكّدت الإستفزازات الفرنسية ذلك، من خلال اختطاف طائرة كانت تنقل قيادات جبهة التحرير الوطني (أحمد بن بلّة، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، محمد خِيذر ومصطفى الأشرف) من المغرب إلى تونس، ومن خلال قَصْفِ الطيران الحربي الفرنسي قرية "ساقية سيدي يوسف" على الحدود الجزائرية التونسية، في الثامن من شباط/فبراير 1958، وقَتْلِ ما لا يقل عن مائة شهيد مَدَنِي تونسي وجزائري. أما في الجزائر فقد تكثفت حملات القتل والإعتقال، في إطار خطة الجنرالات الفرنسيين، بقيادة "جاك ماسو" 1908 - 2002 ( Jacques MASSU )، "لتجفيف منابع الدعم" الشعبي لجبهة التحرير الوطني، بداية من سنة 1956، في ظل حكومة "اشتراكية"، ثم في ظل حكومة الجنرال شارل ديغول...
كان النظام التونسي يعاني من أزمات اقتصادية وسياسية، ومن معارضة سياساته الداخلية والخارجية، حتى داخل حزب الدّستور الحاكم، وكان بورقيبة يفتخر بخدمة الإمبريالية وبمساندة العُدوان العسكري الأمريكي على شعب لبنان (1958) أو فيتنام، ما أدّى إلى إطلاق أزمات عديدة، مع النظام المصري المنبثق عن حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر، وكذلك مع جبهة التحرير الجزائرية التي اعتبرت الإستقلال الشكلي لتونس والمغرب، خيانة عربية، ومحاولة فرنسية لخنق الثورة الجزائرية التي تريد الإمبريالية الفرنسية الإستفراد بها وحرمانها من دعم الشّعْبَيْن المُجاوِرَيْن، تونس والمغرب...
أرسل النظام التونسي آلاف المدنيين للتظاهر في بنزرت ضد الاحتلال، وفي التاسع عشر من تموز/يوليو 1961، تَجَمَّعَ حوالي عشرة آلاف مواطن من النساء والرجال، قُبالة الحواجز التي أقامها الجيش الفرنسي الذي أطلق النار على المتظاهرات والمتظاهرين، في شوارع مدينة تونسية، بعد خمس سنوات ونيّف من "الإستقلال" المُزَيّف، واستمرت المجزرة يومَيْن كاملَيْن، أسفرت عن ما لا يقل عن ألف قتيل من التونسيات والتونسيين، ولم تنشر الدولة التونسية أي تقديرات أو تفاصيل عن عدد الضّحايا الذين أرسلهم نظام الحكم إلى المجزرة...
أما "النّصر" الدبلوماسي الذي كان يتَبَجَّحُ به النّظام، فتمثل في إدانة فرنسا، من قِبَلِ الجمعية العامة للأمم المتحدة (وليس مجلس الأمن)، يوم 25 آي/أغسطس 1961، بفضل الدّعم العربي والأمريكي، مع الإشارة أن تونس كانت ترأس الجمعية العامة آنذاك، مُمَثَّلَةً بالمنجي سليم، ولكن لم تُعِرْ فرنسا أي اهتمام لقرار الأمم المتحدة، ولم يُغادر الجيش الفرنسي قاعدة بنزرت الجوية والبحرية، سوى سنة 1963، وفقًا لمخطّط الجنرال شارل ديغول، أي بعد استقلال الجزائر، وسدّدت تونس ثمنًا مرتفعًا جدّا بعنوان تعويضات للمُستعمِرين عن "فقدان" الأراضي والعقارات التي استولوا عليها بالقوة.
على الصعيد السياسي الدّاخلي، استغل بورقيبة فُرصة التعبئة الشعبية ضد فرنسا، لإحداث تغييرات في بُنْيَة السُّلْطة، ونَظّم عملية اغتيال المُعارض صالح بن يوسف (الأمين العام السابق لحزب الدّستور الحاكم)، الذي كان يحظى بدعم جمال عبد الناصر وقيادات جبهة التحرير الوطني (الجزائر)، يوم 12 آب/أغسطس 1961، في فرنكفورت بألمانيا.
بنهاية العام 1962، أعلنَ النظامُ إحباطَ محاولةٍ انقلابيةٍ، نظّمها ضُبّاطٌ داعمون لصالح بن يوسف، وغير راضين عن الإهانة التي لحقت الجيش التونسي، جراء قرار سياسي، في بنزرت 1961، واغتنم النظام الفُرصة لحَظْر نشاط أحزاب المُعارضة (أهمها الحزب الشيوعي) وسيطر حزب الدّستور الحاكم والوحيد على وسائل الإعلام، في بداية العام 1963، وأسفرت المُحاكمة السّريعة وغير العادلة للمتهمين بالإعداد للإنقلاب، عن إعدام إحدى عشر مُتّهمًا في آذار/مارس 1963...

من مجزرة بنزرت إلى جائحة "كورونا":
بعد ستة عُقود من مجزرة بنزرت، أصبحت الدّولة تحت هيمنة "الإخوان المسلمين"، الذين يُعاديهم بورقيبة باسم "الحَداثة"، وليس باسم التّقدّمية، وأصبح راشد الغنوشي، الذي أراد بورقيبة إعدامَهُ، أقوى رجل في الدّولة، وفاق نهْبُ الإخوان المسلمين لموارد البلاد، خلال عشر سنوات، النّهب الذي مارسه الدّساترة (الذين لا يزال قسم منهم مُشاركًا في الحكم) طيلة خمسة عُقُود، وأعاد الإخوان المسلمون بناء منظومة القمع والإستغلال والإضطهاد والإستبداد التي دفعت الشعب إلى الإنتفاض ضدّها، مرات عديدة، أهمها انتفاضة 2010/2011، ليُصبح الإخوان المسلمون أكبر قُوّة سياسية بالبلاد، تُهَيْمِنُ على جميع المؤسسات، بالتحالف مع بعض القوى التي تُمثل المكونات الأخرى للبرجوازية الكُمْبرادورية، وتقلّصت الحريات شيئًا فشيئًا، وتقلصت معها بعض المكتسبات، خاصة منذ انتخابات سنة 2014، ولم تتردّد مليشيات الإخوان المسلمين أو القوى الإرهابية التي تتلاعب بها "النهضة" (الحزب الحاكم ) في اغتيال رموز المعارضة، منذ سنة 2013، وأشهرهم شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وفي مهاجمة المتظاهرين ومحلات نقابة الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل) والإعتداء على الصحافيين والأطبّاء والفنانين وغيرهم، وتمتع مُنفّذو الإغتيالات (في وضح النهار) وعناصر المليشيات والقوة الموازية للشرطة والجيش، والاجهزة الرسمية للدولة، بالدّعم الحكومي والمُؤسّساتي للإفلات من العقاب، فيما تحولت تونس إلى ملتقى للدّعاة والمُشعوذين والمُجرمين المُتكلّمين باسم الدّين، المدعومين ماليا وسياسيا من مَشْيَخَة قطر (تحتل قاعدة أمريكية واحدة نصف مساحتها) وتركيا الأطلسية، وتحولت إلى بؤرة للتطبيع مع الكيان الصهيوني (برعاية مشيخة قَطَر وتركيا الأطلسية) وللعدوان الإمبريالي على الشعوب العربية، ونقطة انطلاق عدد هام من الإرهابيين نحو ليبيا وسوريا...
دعم الإخوان المسلمون بتونس (كما بمصر)، ما يسمى بقانون "المصالحة"، الرّامي إلى إعفاء الأثرياء الفاسدين واللصوص والمُرتشين، من أي محاسبة، مقابل تقاسم "غنيمة" السّلطة والموارد المادّية للبلاد، عبر ما سُمِّيَ "التعويضات" (مبالغ خيالية صُرِفَت للإخوان المسلمين تعويضًا على الحرمان المُفترض خلال فترة حُكْم بورقيبة وبن علي)، وعبر استحواذ رُموز الإخوان على أراضي وشركات القطاع العام، وعلى الشركات التي تمّت مُصادرتها من المُقَرّبين لزين العابدين بن علي، بينما تعيش البلاد أزمة مالية خانقة، كما قطعوا أشواطًا في التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولهم في تركيا الإخوانية والأطلسية قُدْوة، وتحالف الإخوان المسلمون مع رُمُوز النيوليبرالية، ليُطبّقوا "إصلاحات" صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، مع الإبقاء على نموذج التنمية الذي انتفض الشعب ضده، منذ كانون الثاني/يناير 1984، لأنه يتميز بتعميق الفجوة الطبقية وبالتبعية للإمبريالية عبر الدّيون وعملية التبادل غير المتكافئ، واستحوذت كُتْلتان رجعيتان (بقيدة النهضة والحزب الدستوري) على الفضاء السياسي والإعلامي بالبلاد، وقد تتحالف القُوّتان لتقاسم السّلطة، مثلما تحالف الإخوان المسلمون مع نداء تونس، ثم مع قلب تونس، ومع أي مجموعة تضمن لهم السيطرة على مجلس النواب والحكومة، لتصح تسمية حزب الإخوان بالحرباء...
بعد ستة عقود على مجزرة بنزرت، حلت بالشعب التونسي كارثة أخرى، تمثلت في انتشار وباء "كورونا" الذي حَصَد حياة الآلاف من المواطنين، بسبب التخريب المُستمر لقطاع الصحة العمومية، منذ أكثر من أربعة عقُود، وهجرة حوالي 800 طبيب تونسي سنويا، في المتوسط، نحو ألمانيا وفرنسا، بشكل أساسي، وتجاوز معدّل الإصابات أربعمائة شخص عن كل مائة ألف ساكن، في بعض الولايات (المُحافظات)، وتجاوز عدد الوفيات 15 ألف بحسب إحصاء نُشِرَ يوم 25 حزيران/يونيو 2021، لتصبح تونس (اعتمادًا على البيانات الرّسمية) في المرتبة الأولى إفريقيا، بعدد الوفيات لكل مليون نسمة، فيما لم تهتم قيادات حزب الإخوان المجرمين سوى بصرف "التّعويضات" وباغتنام الفُرَص للتصويت (بعد منتصف الليل) على قوانين تُشَرْعِنُ وتُعزّز هيمنتهم على البلاد ومواردها.
تُظْهر وسائل الإعلام الموازي صورًا ووثائق عن الإكتظاظ في المستشفيات، وعن الإرهاق الذي أصاب الطاقم الطبي وشبه الطبي، الذي يعمل باستمرار، طيلة الأسبوع بدون انقطاع ما أدّى إلى وفاة العديد من الأطباء والمُمرّضين، وشكلت ولاية ومدينة القيروان (ذات الدّلالات التاريخية والحضارية الهامة) نموذجًا لإهمال الدّولة، في مجال الصّحّة (أعلى معدّل وفيات "كورونا") وفي كافة المجالات، حيث تمتلك أعلى معدّل لحالات الإنتحار، وتجاوزت نسبة الفقر 30% من السكان، ومعدّل البطالة 18% من القادرين على العمل، وأعلنت وزارة الصحة، يوم 22 حزيران/يونيو 2021، أن 50% من الاختبارات "إيجابية"، لكن المستشفيات لا تمتلك سوى جهاز إنعاش واحد لتسعة مرضى، في عاصمة الأغالبة، أقدم مدينة إسلامية في شمال إفريقيا، في ظل حكومة يُشرف عليها من يَدّعون تمثيل الإسلام.

الوضع الإقتصادي:
تُعاني البلاد، سنة 2021، وما قبلها أيضًا، أزمة اقتصادية خانقة، تميّزت بركود الإقتصاد وارتفاع قيمة الدّيون وفوائدها، بالتوازي مع أزمة سياسية، وصحية، ولم تطرح الحكومات التي تعاقبت، منذ 2011، نموذجا تنمويا بديلاً، بل بدّدت المال العام، لتوزيعه على قيادات الإخوان المُسلمين بعنوان "تعويضات" على ما فات، باعتبار السّلطة "غنيمة" يتقاسمها الغانمون، وتوظيفهم في أجهزة الدّولة والقطاع العام، دون احترام شروط التوظيف (المؤهلات والخبرة والسّن واجتياز مناظرة وطنية...)، وأعلنت الحكومة عجزها عن شراء اللقاح وأجهزة التّنفّس، لكنّ الحزب الحاكم استحوذ على مليارات الدينارات، بذرائع مختلفة، من الأموال المُقْتَرَضَة من البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي والمصرف الإفريقي للتنمية والمُؤسسات المالية لِمشْيَخَةِ الغاز النّتِنَة (قَطَر) والإتحاد الأوروبي وغيرها، ما رَفَعَ قيمة الدّيْن العام من حوالي 45% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2010 إلى نحو 100% سنة 2021، واقترحت قيادات الإخوان المسلمين "إنقاذ اللِّيرة التركية من الإنهيار"، ولكنها لم تنقذ الدينار التونسي، بل أدت سياساتها إلى انهياره، وتتفاوض الدولة مع صندوق النقد الدّولي، للحصول على القَرْض الرابع، خلال عشر سنوات، بينما ازدادت احتجاجات فئات عديدة من المواطنين، لأن أجهزة الدولة فضّلت إعفاء الشركات والأثرياء من الضرائب، وتوزيع المال العام على الإخوان المسلمين وأرباب العمل، بدل زيادة الرواتب ودعم الفُقراء والمُعَطّلين عن العمل، و"شراء السلم الاجتماعية"، وفي ذروة المفاوضات مع صندوق النقد الدّولي للحصول على قرض بقيمة أربعة مليارات دولارا، تم تخفيض التصنيف السيادي لتونس من قِبَل وكالات التصنيف الإئتماني (ومعظمها أو كلها أمريكية)، ما يُشير إلى اقتراب تونس من حالة "الإفلاس" (وهي حالة "عَجْز" في واقع الأمر)، أي التّخلّف عن سداد الدّيون التي حلَّ أجَلُها، وسبق أن وقع خفض تصنيف اقتصاد البلاد ثماني مرات على مدى العقد الماضي، ويتعيَّنُ على الدولة تسديد نحو مليار دولارا (على دُفْعَتَيْن) من قُروض السّندات التي يحلُّ أجلها خلال صائفة 2021، ولا تزال الحكومة، حتى منتصف سنة 2021، تستجْدِي الدّائنين لاقتراض 3,6 مليارات دولارا، ليس من أجل استثمارها في مشاريع منتجة، وإنما من أجل تسديد الدّيُون القديمة، وتغطية عجز ميزانية الدّولة، ومن أجل تسديد المبالغ الضخمة لما سُمِّي "تعويضات" الإخوان المسلمين، الذين لم يُناضلوا من أجل مبادئ وقناعات ومن أجل بديل لحكم بورقيبة وبن علي، وإنما من أجل الإثراء "غير المشروع" (وهل ثمة إثراء "مشروع"؟)، عبر تقاسم موارد الدّولة، ولو أدّى ذلك إلى التّأخير في تسديد رواتب موظفي القطاع العام، التي تُقتَطَعُ منها نسبة مائوية مُخَصّصة للتعويضات، أو أدّى إلى التخلف عن السداد والتفاوض من أجل إعادة جدولة الدُّيون، وزيادة حجم خدمة الدَّيْن، وإشراف الدّائنين على موارد البلاد، أي بمثابة وضع البلاد تحت الوصاية...
نشر البنك العالمي تقريرًا يوم الثلاثاء 08 حزيران/يونيو 2021، وذكَّرَ التقرير بتراجع نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى - 8,8% (سالِبَة) سنة 2020، وقد ترتفع إلى 4% سنة 2021، وهي نسبة غير كافية لاستيعاب العاطلين الجدد (فضلاً عن القُدامى)، وقد تتراجعُ النسبة إلى 2,6% سنة 2022 و إلى 2,2% سنة 2023، بحسب نفس التقرير الذي ذكّرَ بتراجع أداء الإقتصاد التونسي خلال الرّبع الأول من سنة 2021، وبزيادة انتشار الوباء، بدل تراجُعِهِ. من جهة أخرى تعمّق العجز التجاري التونسي، بنسبة 17,5%، بين النصف الأول من سنة 2020، والنصف الأول من سنة 2021، بحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء التي نُشِرت في الخامس من تموز/يوليو 2021.
أكّد تقرير نشَرَهُ المصرف الأوروبي لإعادة الإعمار، يوم الثلاثاء 29 حزيران/يونيو 2021، عن اقتصاد أوروبا والمنطقة المحيطة بها، نفس التّوقُّعات، مع بعض الإختلافات الجُزْئِيّة المتعلّقة بتطورات انتشار وباء "كوفيد 19"، وتوفير التّلقيح، وتأثيرها على حركة التجارة الدّولية والنّقل والسياحة، وما إلى ذلك، وبعد حوالي عشرة أيام، يوم الخميس الثامن من تموز/يوليو 2021، أعلنت وكالة "فيتش" للتصنيف الإئتماني، مراجعة تصنيف تونس من ب إلى ب سالبة، مع توقعات سلبية للمستقبل، ما يعني صعوبة اقتراض الدّولة، وارتفاع نسبة الفائدة على الدّيُون.
انعكس الوضع السيء للإقتصاد الشموالي ( macro-economy )على الحياة اليومية للمواطنين، وكشفت بيانات المعهد الوطني للإحصاء، يوم الإثنين 05 تموز/يوليو 2021، أن نسبة التضخم عند الاستهلاك سجلت ارتفاعا هاما بلغ نسبة 5,7%، في ظل انخفاض قيمة الدّينار، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والنقل والمطاعم والمقاهي، بعد استقرار بنسبة 5%، خلال الشهرين السابقين، فيما ارتفعت النسبة الرسمية للبطالة إلى أكثر من 18%...
تزامنت هذه التقارير السلبية والتوقعات المُتشائمة مع نهاية شهر رمضان واقتراب موعد عيد الإضحى، حيث بلغ متوسط أسعار الخرفان الحيّة (حوالي 45 كيلوغرام)، 600 دينارا، منتصف شهر حزيران/يونيو 2021، في مواقع الإنتاج، وليس في أسواق التجزئة، أو ما يعادل الراتب الشهري لموظف في أسفل السّلّم الوظيفي، وارتفع متوسط سعر الخروف إلى نحو 750 دينارًا، بداية من يوم السابع من تموز/يوليو 2021، ثم ارتفعت الأسعار كثيرًا خلال الأسبوع السابق لعيد الإضحى، وسبق أن نَظّم المُزارعون ومُربّو الماشية، احتجاجات عديدة، منذ بداية سنة 2021، ضد سياسة الحكومة، بسبب الإرتفاعات المُتتالية والمُشِطّة لأرسعار عَلف الحيوانات، وبسبب التّأثيرات السلبية ل"تَوْصِيات" (أوامر) صندوق النقد الدّولي بخصُوص الإنتاج الفلاحي، واستيراد الإنتاج الفلاحي التّرْكي، وإغراق السوق المحلية بإنتاج تركيا المَسْرُوق من سوريا، أو الذي أنتجه اللاجئون السوريون، وتدعمه الدّولة التركية، التي يُمثِّل الإخوان المسلمون مصالحها في تونس، بفتح فُرُوع لشركات تركية في مجالات الإنتاج الفلاحي، كما في مجالات أخرى كمقاولات الإنشاء والإعمار وصناعة النسيج والملابس والجلد التي تنافس الصناعة التونسية...

خاتمة:
أدّت انتفاضة 2010/2011 إلى تغييرات تمثلت في استبدال بعض الأشخاص أو الأسماء، في مناصب الرئاسة والوزارة، واستيعاب فئات جديدة في منظومة الحُكْم، ولم تُحدث الإنتفاضة تغييرًا في النّظام، بل بقي بعض بعض رُمُوز النظام السابق يشتركون في مواقع الهيمنة، مع الإخوان المسلمين، حتى انتخابات سنة 2019، ويحتل بعض المقربين من بن علي مناصب عُلْيا في الدّولة، كما لم يتغيّر نمط الإنتاج ولا نمط التنمية، وبقي النظام تابعًا وممثلا لمصالح القوى والشركات الأجنبية، بالتوازي مع تدهور حال الكادحين، من أُجَراء وحرفيين وصغار المُزارعين، فضلا عن ارتفاع نسبة الفقر والبطالة...
تواصلت احتجاجات فئات عديدة من المواطنين، في مُختلف مناطق البلاد، لكن تفتقد هذه التحركات والتظاهرات للتنسيق فيما بينها، ما أفْقَدَها التّأثير المطلوب والنجاعة، كما يفتقد الكادحون والفُقراء إلى إطار يجمعهم من أجل الدّفاع عن مصالحهم، ويفتقد التّقدّميون إلى جبهة أو ائتلاف، أو حزب قادر على استكمال إنجاز المهام التي لا تستطيع أي انتفاضة عفْوِيّة إنجازها، إذا لم تتحول إلى ثورة واعية، وذات أهداف ثورية، وليست إصلاحية، تستجيب لتطلعات الفئات الشعبية...
لا أحد يمتلك حلاًّ سحريًّا للمشاكل المطروحة "الآن وهنا"، لأن ذلك يتطلب سنوات من النضال والعمل في أوساط الطبقة العاملة والكادحين والفُقراء (الدّعاية والتّحريض والتّنظيم...)، لكن من المُستحسن بناء أُطُر وهياكل قادرة على التنسيق بين مختلف الحركات الإجتماعية، في جميع مناطق البلاد، وتحويل مطالبها إلى برنامج وطني، يفضي إلى تغيير نمط الإنتاج وتَبَوُءِ العاملين والكادحين مكانتهم في إدارة أجهزة الدّولة والإشراف على عملية إنتاج الثروات وإعادة توزيع ثمار الإنتاج، لكي لا يُعيد التاريخ نفسه، ولكي لا يستحوذ الرأسماليون والأثرياء والإنتهازيون على ثمار عرق الكادحين...