العرب والعربانية تداخل في الدلالة وتشارك في المدلول


عباس علي العلي
2021 / 7 / 16 - 03:28     

من أهم إشكاليات العقل والفكر العربي بالذات ليس الانتماء للبداوة كنمط أجتماعي واقتصادي منتشر في بقاع كثيرة من العالم وقد تحولت الكثير من المجتمعات تبعا لقانون العمل الأقتصادي من نمطية إلى نمطية ومن خلال الوعي بالزمن ، الإشكالية ليست في هذا الجانب إنما في عدم قدرة المجتمع العربي عموما من أن يتجاوز أنتماء عقله للعربانية الفكرية أي أن يتحول الإنسان من إعرابي إلى كائن إيجابي يفهم أن الزمن قيمة مطلقة ومؤثرة وقائدة وعليه أن يتماهى مع الزمن روحا وليس ظاهرة فقط .
عليه أن يتخلص من عربانيته التي يؤمن بها على أنه مركز الكون وأن الله ما خلق شيء إلا لأجله وأجل ناقته وأن قيمه هي الحقيقية وأن ثقافته هي الأصل لذا لم يجد الله أفضل منه ومن ثقافته حتى يرسل أخر الرسالات ، على الإعرابي أن يعي أن العرب شيء والأعراب شيء أخر أما أن يختار الزمن والتطور والتجديد الجوهري بمـأخذ المعطيات أو أن يجلس في خيمته ينتظر أن ينزل الله له ويقول أن الأعراب ليس أشد كفرا ونفاق بل وأشد جهلا وتخلفا وسذاجة من كل الخلق .
العربان يأخذون النص الفكري والمنتج المعرفي كما هو دون أن يتمعنوا أن الولادات الفكرية لا تأتي من فراغ ولا من عبث ممن أرسلها أنها منظومة مرتبطة برؤية كونية من أول الوعي التأريخي وانتهاء بالقدر الخلقي ، وأنها أيضا مرتبطة بسلسة من العلل والأسباب والمؤديات وأن هناك معطيات لا بد أن ترتبط بالنص وهناك غايات العامل الذي يجمع هذه الحقائق كلها هو الزمن الذي يمر ويحمل معه التغيير والتحديث وعلى الفكر أولا أن يتغير في كل لحظة من خلال القاعدة التي ينطلق منها العقل والوعي بالعقل قبل الوعي بالزمن ، على الإعرابي أن يعي في كل مرة أنه ضمن سلسلة طويلة ومتعددة ومتشعبة من الارتباطات ومنتظمة وفق إيقاع كلي متى ما تخلف عنه لفظته خارجا .
هو لا يعي أن النص الفكر والمعرفي أو أي منتج أخر ى ينتمي له بل ينتمي لرؤية كلية أنتجته بمعزل عن مراعاة حال محدد، الكليات لا تلحظ الجزئيات إلا من خلال تتبع الأخيرة للأولى ، أي أن المنتج المعرفي لم يأت اختراع مسخر له بل استجابة لواقع محكوم بالحاجات والضرورة والمماهات مع حركة الوجود كله التي نختصرها بالحركة بالزمن بالمستقبل ، هم يأخذون كأعراب النص المعرفي حكم منعزل عن الواقع وعن الوقائع ويتم حشوه بالدماغ دون تدبر ولذا فان كثيرا من النصوص القرآنية ذمت هذا الوضع كما جاء بمثل الكلب أن تحمل عليه يلهث أو أن تتركه يلهث أو الحمار يحمل أسفارا ولا يعلم أنه يحمل خلاصة الحكمة وجوهر المعرفة لأنه قد أمن بعقله عقل حمار لا تعنيه المعرفة ولكن يعنيه الحمل أكثر في اشارة إلى حمل ما لا تعرف ما فيه .
الأعراب اليوم في ظل عالم مادي مدعوم بقوة مادية مؤثرة وفي ظل حرب مستمرة وجودا وعدما يريدوا فقط أن يعيدوا حكاية قصة حدثت منذ الف وخمسمائة سنه بكل تفاصيلها فقط المتغير الوحيد فيها أن يستبدلوا الخيمة ببرج خليفة والسيف والرمح بالقاذفة والصاروخ ، زعماء الأعراب اليوم هم نفسهم أمس بل أكثر غباء لأن الأولين كانوا خاضعين لحكم عالم محكوم بالتخلف ونقص المعرفة وسكون طبيعي بيئي وواقعي، أما زعماء الأعراب اليوم كل شيء بمتناول اليد ويمكنهم أن يفحصوا عقولهم ومؤدياتهم الإيمانية بكل بساطة وبمنتهى الدقة والشفافية وهم يعلمون أنهم مجرد عالة على التاريخ وعلى الحاضر وأنهم مرض المستقبل ومتأكدون من ذلك ومع هذا وذاك يصرون أن يجتمعوا في سقيفة الأعراب هناك عند ضواحي مكة المتربة وفوق الرمال بعنوان مخادع هو الأصالة والتجذر .
الفكر والمفكرون العرب وعقدة الضد والضديد
المنظومة الفكرية العربية والتي صاغتها السلطة في كل مراحل تأريخها تقوم على الثنائية القطبية التي لا تقبل أن تقيس الأمور والقضايا إلا بمنظار الضد والضدية، فليس في قاموسهم غير العمران والبداوة والليل والنهار والحلال والحرام والأبيض والأسود ، هذه الثنائية ترى في علاقة الإنسان بالمجتمع ينظر لها من خلال عقدة السلطان فإن كان مع السلطان فهو مع المجتمع وإن خرج ضده أصبح المجتمع عدوه ، هكذا تحولت العقيدة التي يحملها العربي سلاح بيد السلطة وسخرتها لضرب الفكر والعقيدة والمجتمع من خلال هذه النظرية، فلا عجب اليوم نرى نخب عراقية من المحسوبين على الثقافة والفكر ولأنه يخاصم السلطة فيصب كل غضبه على المجتمع ويتبنى خيارات فردية من نظرية الضد، لم يستوعب حقيقة أن بين المشرق والمغرب هناك مراحل ومسميات وبين الحلال والحرام مفاهيم وأفكار وأن بين الحق والباطل شبيه ودليل ونقطة حرجة تساوي صفر مطلق .
من هذه المنظومة الضيقة التي تخلص منها الفكر الغربي منذ ثلاث قرون ينطلق بجناحيه النظري والعملي على أعادة صياغة مفهومه للأشياء جميعا بدون أستثناء، لم يترك للمطلق والتمسك به مجال أن يكون حاضرا في التقسيم المعرفي ولا ركن إلى هواجس الثبات وأستحقاقات اليقين ، كان كل شيء خاضع للتحرك والتعدد والتلون فقط ما يمكن الثبات أمامه هو حق العقل في تجريد الأشياء من واقعنا والمحاولة بزجها بواقعها ، هنا أنطلق الفكر ليبحث عن هوية جديدة هوية خارج الخصيصة وخارج الأنتماء للواقع والممكن والمعقول حتى في مراحل ما من مسيرة الفكر الإنساني تم توظيف الخيال لفهم الوجود .
لم يهمل العقل الإنساني المتعدد والمتحرك في كل جزئيات نظامه المعرفي حقيقة أن الحركة لا تبقي شيء في محله وبالتالي على الإنسان المفكر العاقل المتجدد أن لا يؤمن بالثبات لأن كل شيء غير قابل له ، فكيف له أن يبقى ثابتا في واقع لا يؤمن ولا يسلم بالثبات ، فقط الفكر العربي وما شابهه من أفكر فاقدة للهوية بصراع الأنتماء والضياع بين عناوين متناقضة لم يجرؤ بجد أن يدخل سباق الحركة وإن دخل في بعض المفاصل فأنه يحمل معه خيمته وبعيره كاحتياط فيما لو لم يتقبل موضوع الحركة وموضوعية التبدل والتلون والتعدد ، فضاع وضيع معه الأمل بالاشتراك في الرؤية الكونية لا كصانع ولا مشارك ولا حتى متقبل لفكرة أن الزمن يتحرك .
مثلا غير موضوعية الحق والخير والصراع الأولي إنسانيا يعترض البعض من الناس على أن الصراع الدائر الآن هو صراع باطل ضد باطل لأنه يرى كل شيء ما عدا ما في عقله باطل ، ولأنه وحده يمتلك حقيقة الحق المطلقة فمن واجبه أن يلصق الباطل على الجميع لينصر جهة ضد اخرى بهذه المساواة المزعومة ، الفكر الذي يجعل من نفسه عنوان فقط لأنه فقط يؤمن بعدم وجود مسافات بين نقاط على خارطة العقل كل نقطة تمثل له معنى وتتحمل أن تكون هذه النقاط متحركة تقترب وتبتعد حسب ما تفصح عنها مواضيعها لأنه أساسا مؤمن بنقطتين فقط أبيض مطلق وأسود مطلق ونسي تدرج بقية النقاط بينهما .
في ذلك قد يكون محقا في ذلك ولكن عندما يمثل وجه الحق والحقيقة بالكامل على الأرض روحا وتجسيدا وينظر من هذه النقطة ليرى نقاط منتشرة على طول الطريق الفاصل بينه وبين ضديده الذي قد يكون في أقصى ما يمكن وقد يعود ليقترب منه حد التجاور الذي يمثله قول بين الحق والباطل شعرة ، عليه أذن أما أن يبسط مشروعه ويعمل عليه بأي علة أو سبب ويتبنى خيار العقل فلا يحق له أن يضع العالم جميعا في خانة الباطل وفي نقطة ثابتة لا تتحرك ويضع حاله هو أيضا في نقطة متشابه ويحكم على الثبات ويزكي نفسه ، الحق ليس كلمة تقال وإنما هو كل مشروع الحياة المتجددة المتطورة السائرة مع الزمن بتعجيل ليس ثابتا ولا منضبطا بقانون محدد وصارم ولكنها تتعامل مع فهم من في الحياة لحقيقة الحياة ذاتها بجمالها وسلامها وبحرية الإنسان أن يختار خندقه بالكيف والكون الذي يريد، الحق يعرف بنتائجه ومعطياته وبه تعرف الرجال والمواقف، فهو الموضوع والمعيار الذي يقاس به ويقاس عليه .