حركة 8 تموز في السليمانية هل هي حركة تصحيحية أم ردة تشرينية


بهروز الجاف
2021 / 7 / 14 - 19:17     

في يو م الثامن من تموز الحالي حصلت حركة مفاجئة في قمة قيادة حزب الأتحاد الوطني الكردستاني، الذي يهيمن على الوضع السياسي والعسكري والأمني والأداري في محافظة السليمانية وأطرافها، تضمنت تغييرا قسريا في قيادة جهازي المخابرات (زانياري) و مكافحة الارهاب التابعين للحزب لصالح الرئيس المشترك للحزب بافل الطالباني النجل الأكبر للرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني على حساب الرئيس المشترك الآخر لاهور الشيخ جنگي والذي هو نجل الشيخ جنگي الطالباني شقيق جلال الطالباني. وقد تبعت تلك الحركة اجراءات عديدة لأنجاح وترسيخ الحركة تضمنت السيطرة على اجهزة اعلام الحزب ومؤسساته الاقتصادية و العمل على اجراء تغييرات في المناصب الأدارية ربما تستهدف بعضها وزراء في حكومة الأقليم.
ولفهم الواقع الذي نشأت في كنفه الحركة فاننا نرى تطابقا تاما لها مع حركة الثامن عشر من تشرين الثاني في عام 1963 في قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق والتي ادت الى ابعاد الحزب عن السلطة وانفراد عبدالسلام عارف بها.
فبعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 على الزعيم عبد الكريم قاسم وتنصيب القيادي البعثي احمد حسن البكر رئيسا للوزراء واسناد منصب رئيس الجمهورية التشريفي الى عبدالسلام عارف، بدأ التصدع مبكرا في قيادة حزب البعث على خلفيات ايديولوجية وحكومية. استطاع الجناح المتشدد برئاسة علي صالح السعدي أن يهيمن على تنظيمات الحزب وتشكيلاته العسكرية (الحرس القومي) وكذلك على الحكومة من خلال العدد الكبير من الوزراء التابعين للجناح، أما الجناح المعتدل، والذي كان بزعامة حازم جواد ورفاقه، فقد عارض التوجهات المتشددة لجناح علي صالح السعدي مستفيدا من الدعم الخفي لعبدالسلام عارف ومن يؤيده من القوميين الناصريين. وفي خضم ذلك الصراع ارتأى احمد حسن البكر أن يمسك العصا من الوسط بما يحفظ له منصبه كرئيس للوزراء. وقد تضمنت الحركة خطوتين احداهما داخلية بين جناحي الحزب، استطاع من خلالها الجناح المعتدل ازاحة الجناح المتشدد، وخارجية لاحقة عن طريق عبد السلام عارف بمساعدة رفاقه من العسكر وبعض القوميين الناصريين ادت الى ابعاد البعث عن السلطة بشكل تام وتسليم السلطات التنفيذية الى رئيس الجمهورية عبد السلام عارف واسناد منصب نائب رئيس الجمهورية الى احمد حسن البكر.
ان وجه التطابق بين حركتي 18 تشرين في بغداد و 8 تموز في السليمانية يكمن في وجود الجناج المتشدد الذي يتزعمه الرئيس المشترك للاتحاد الوطني الكردستاني لاهور الشيخ جنگي والذي يهيمن على جهازي الزانياري ومكافحة الارهاب ويتمتع بشعبية واسعة بين تنظيمات الحزب وشريحة واسعة من الجماهير الكردستانية ليس في محافظة السليمانية فحسب بل وفي اربيل ودهوك وكركوك أيضا، تلك الجماهير التي سئمت سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني على مدينة اربيل وبالتالي الهيمنة من خلالها على حكومة اقليم كردستان منذ عام 1996 بمساعدة عسكرية مباشرة من صدام حسين والتي تتميز بخنق الحريات العامة والانفراد السلطوي بكل مجريات الحياة في محافظتي اربيل ودهوك. أما الجناح الآخر، والذي يوصف بالمعتدل، فقد أفضى الى الرئيس المشترك بافل الطالباني من خلال الدعم غير المباشر الذي يلقاه من أعضاء قيادة الحزب القدامى الذين مازالوا يمتلكون الألوية والأفواج العسكرية ضمن قوات البيشمرگة والذين يرون ان شعبية لاهور الشيخ جنگي قد ازاحتهم جانبا في المؤتمر العام الرابع للحزب في عام 2019 الذي كان الشيخ جنگي قد كسب فيه معظم اصوات المؤتمر لكي يكون الرقم الأعلى في المرحلة اللاحقة. وعلى غرار الموقف الذي كان عليه أحمد حسن البكر فان عددا من القياديين في الاتحاد الوطني ممن يتسنمون مواقع حكومية متقدمة في بغداد والاقليم، ومنهم الدكتور برهم أحمد صالح رئيس الجمهورية الذي نراه يسعى جاهدا الى التوسط بين الجناحين بما يحفظ له ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية لدورة أخرى مع محاباة واضحة للجناح المعتدل. وهنا يبدو أن موقع عبدالسلام عارف قد شغلته سلطة الحزب الديمقراطي الكردستاني في اربيل، ومن خلالها مجمل الاقليم، والتي تقودها العائلة البارزانية التي تعد معاداة الاتحاد الوطني الكردستاني أحد أهم أهدافها الاستراتيجية، اذ حاولت في السابق من خلال الحروب الداخلية ومساعدة الاطراف الاقليمية، كايران وتركيا والعراق، ازاحة الاتحاد الوطني عن طريقها، وهي بذلك لاتختلف فان نظرتها للاتحاد قيد أنملة عن نظرة عبدالسلام عارف لحزب البعث في حينه.
صحيح ان السليمانية تخضع لسلطة الاتحاد الوطني الكردستاني، وصحيح ان اربيل تخضع لسلطة الديمقراطي الكردستاني، ولكن الحزبين يشتركان في حكم الاقليم مع أفضلية للعائلة البارزانية في مجال العلاقات الخارجية والصفقات السياسية والأقتصادية مع الاطراف الخارجية بحكم السيطرة على اربيل التي تتضمن البرلمان والحكومة والقنصليات الأجنبية ومراكز الشركات العالمية، الا ان كلا الحزبين ليست لديهما أية سلطات اداراية وأمنية وعسكرية في مناطق نفوذ الآخر. أما الحكومة والبرلمان وقوات البيشمركه‌ و الأمن الداخلي والمخابرات فكلها ضمن ادارة حكومة الاقليم ولكن لكل حزب حصته واجهزته الخاصة به.
مر الاتحاد الوطني الكردستاني بمنعطفات عديدة تضمنت انشقاقات واعادة التحامات، ولكن الضربة الأقوى التي تلقاها كانت من خلال التحالف العسكري بين مسعود البارزاني وصدام حسين في عام 1996 والتي نجم عنها خروج قوات الاتحاد الوطني من أربيل وماتبع ذلك من وهن في جسده بسبب الابتعاد عن عاصمة الاقليم ذات التأثير الكبير داخليا وخارجيأ وهو مانجم عن انشقاق كبير تمخض عنه تأسيس حركة التغيير بقيادة نائب الأمين العام للحزب نوشيروان مصطفى وصمت معظم قيادات الحزب التقليدية أمام تجاوزات الحزب الديمقراطي الكردستاني بسبب المصالح الاقتصادية وبأمل عدم التخلي عن جماهير الاتحاد الوطني في اربيل والتي تتبع قيادات تقليدية كالسيد كوسرت رسول علي. وقد ازداد الوهن كثيرا بعد وفاة مام جلال الطالباني وظهور الاجنحة المتشددة والمحافظة فيما يتعلق بالموقف من الحزب الديمقراطي الكردستاني والذي أفضى الى عقد المۆتمر العام الرابع للحزب في عام 2019 والذي جرى فيه تغيير المنهاج الداخلي للحزب بما يسمح برئاسة مشتركة بسبب الفراغ القيادي الذي خلفته وفاة المام جلال.
كان متوقعا جدا أن يفوز الجناح المتشدد والذي ظهرت سياساته جلية من خلال الدعم الذي قدمه لاهور الشيخ جنگي لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا في حربه ضد داعش وضد التدخل التركي، وكذلك معارضته للطلبات التركية لمحاربة حزب العمال الكردستاني الى جانب الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكذلك تقربه من طبقة الشباب والكتاب والصحفيين وعوئل الشهداء والجرحى.
لم يهنأ الشيخ جنگي بما حصل عليه في المۆتمر الرابع، اذ حاربه الحزب الديمقراطي الكردستاني بعنف من خلال اجهزته الاعلامية، ومقاطعته، ومحاولة تسقيطه، وكذلك تكليف عدد من البرلمانيين، وخصوصا من التابعين لأحزاب أخرى، لشن حملة تسقيطية على الشيخ جنگي من خلال اتهامه بالسيطرة على تجارة المنافذ الحدودية وتجارات اخرى غير شرعية، ومحاولة محاصرته من خلال الاتصالات الطبيعية مع الرئيس المشترك بافل الطالباني. وقد القت تلك المعاداة بظلالها على محافظة السليمانية اذ جرى ظلم المحافظة بشكل منظم وكبير من قبل حكومة الاقليم من خلال استيفاء عائداتها المالية وحرمانها من المشاريع الخدمية مقارنة بمدينة اربيل.
لم يكن حظ الشيخ جنگي مع الاطراف الاقليمية بأفضل من حاله في داخل الأقليم، فمع الضغط التركي الكبير، وخصوصا من خلال الحزب الديمقراطي الكردستاني والجناح المعتدل في الاتحاد الوطني والذي يبدو انه أرضى تركيا من خلال موقعه في حكومة الاقليم، فان الجانب الايراني نظر اليه بعين الشك والريبة بعد نشر تقرير في شبكة (ياهو) التابعة للمخابرات المركزية الامريكية في شهر مايس من العام الحالي والذي أشار الى مشاركة فعالة لجهاز مكافحة الارهاب التابع للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يقوده شقيق لاهور الشيخ جنگي في عملية اغتيال قائد جيش القدس الايراني قاسم سليماني قرب مطار بغداد الدولي في مطلع كانون الثاني من عام 2020.
ومع قرب اجراء الانتخابات البرلمانية في بغداد في الشهر العاشر من العام الحالي فان تحالفات غريبة بدت في الافق تشير الى انتهاء حقبة التحالف الكردستاني الذي يضم صوتا كردستانيا موحدا في بغداد، بل بالعكس، فقد بدأ الحزب الديمقراطي الكردستاني باجراء تحالفات مع أطراف عراقية تتزعمها عوائل على شاكلتها على أمل ضمان هيمنة عائلوية على القرار السياسي في الاقليم وهو الحلم العتيد الذي يراود العائلة البارزانية منذ ان ظهرت على الساحة السياسية الكردية ولكن التوجه الشعبي العام في محافظة السليمانية، والذي يتسم دوما باليسار ومناهضته للتوجهات القبلية، يقف حائلا أمام تلك التطلعات. لقد رأى الحزب الديمقراطي ضالته في التيار الصدري الذي يشاركه التوجه في أن المساس بالعائلة يعد خطا أحمر يؤاخذ عليه صاحبه بالقصاص، وكذلك مع بقايا بعثية تحاول اثبات وجود سياسي عائلوي لها كما في عائلة النجيفي الموصلية. وفي هذه الحالة لم تبق أمام الاتحاد الوطني سوى محاولة التحالف مع أطراف كردستانية غير مضمونة،‌ كحركة التغيير، وأحزاب شيعية مناهضه‌ للتيار الصدري والتي هي لاتخرج يطبيعة الحال عن طاعة طهران وهو ما يعقد المشكلة أكثر بالنسبة للاتحاد الوطني الكردستاني الذي يطمح ليس بالحصول على عدد كبير من المقاعد بل والاحتفاظ بمنصب رئيس الجمهورية، وكذلك مع أطراف سنية فاعلة لاتبتعد كثيرا عن الاحزاب الاسلامية الشيعية ككتلة السيد محمد الحلبوسي رئيس البرلمان الحالي.
فما الذي يمهد للتحالف بين الاتحاد الوطني والكتل الشيعية سوى الدعم الايراني؟ وماالذي يستوجب على الاتحاد تقديمه لكي يحضى بذلك الدعم؟ هل هو التخلص من لاهور الشيخ جنگي وجناحه؟ يبدو في ذلك شئ من المنطق في ضوء العلاقات الخاصة التي تربط الشيخ جنگي بالادارة الامريكية وهو الدور الذي تنظر اليه ايران بعين الشك والريبة، ولكن ما مدى امكانية ذلك؟.
ومالذي يمهد لدعم ايراني لابقاء منصب رئيس الجمهورية بيد الاتحاد الوطني؟ هل هو مرشح خارج ارادة الشيخ جنگي؟ وما على الدكتور برهم صالح عمله في هذه الحالة لكي يحتفظ بمنصبه هل هو اثبات الولاء للجناح المناهض لجنگي؟ سوف تجيب الأيام القليلة المقبلة عن هذه الأسئلة.
هنا، فان الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يأمل دوما بتشظي الاتحاد الوطني الكردستاني، لايمكن له لعب دور عبدالسلام عارف في حركة الثامن من تموز، على الرغم من علاقاته مع أطراف عسكرية فاعلة في الاتحاد الوطني يمكنه من خلالها توحيد قوات البيشمركه‌ تحت قيادته والاستفاده‌ منها في احكام القبضة على السليمانية، الا ان أصل المشكلة لا يكمن في حركة تفضي الى انهاء الاتحاد الوطني كما أنهت حركة 18 تشرين حزب البعث وانما في التوجه الشعبي العام في محافظة السليمانية الذي لايسع مكانة للحزب الديمقراطي الكردستاني بين صفوفه، وفي الدور الايراني القادر على وضع بصماته على الخريطة السياسية في السليمانية تبعا للوضع الجيوسياسي والاقتصادي والعلاقات التأريخية والاجتماعيه‌ العتيدة بين محافظة السليمانية وجارتها ايران، وخصوصا مع الجانب الكردي الايراني في محافظتي كردستان وكرمنشاه الايرانيتين واللتين لاتختلف ثقافتهما المتمدنة كثيرا عن ثقافة السليمانية.
يبدو ان الوضع العام في السليمانية، سواء بين تنظيمات الاتحاد الوطني الكردستاني أو عموم المجتمع، ليس قلقا، وقد نأى المجتمع بنفسه عما حصل في الثامن من تموز، اذ ان المشكلة ليست في قيادة الحزب بل في الازمة المالية وتقديم الخدمات. فالمجتمع يعاني من قطع الرواتب، أو انقاصها، وعدم سدادها في أوقاتها، منذ عام 2014 ومحاصره‌ السليمانية اقتصاديا وخدميا من قبل حكومة الاقليم بالاستفادة من الصراع السياسي بين الاحزاب الفاعلة في السليمانية وفي داخل قيادة الاتحاد الوطني الكردستاني بالذات، وكذلك تطور التفكير المجتمعي العام الذي نبذ القيادات الكردستانية التقليدية ويتطلع الى قيادات عصرية متحضرة ومتمدنة وكفوءة تبني له مستقبلا زاهرا بعد معاناة طويلة من الحروب والقهر والجوع والسموم الكيمياوية والانفالات. فالاتحاد الوطني يلائم المجتمع في السليمانية أكثر من أي حزب آخر، فهو يوفر له مساحة واسعة من الحريات ويجاري التطور الحضاري الذي يتوق له مجتمع السليمانية والذي يبدو أن الصراعات بين الاجنحة والقيادات داخل الاتحاد الوطني لاتؤثر فيه، وهو لا يعير لها اهتمامه الكبير بل يبقى الاتحاد الوطني لديهم ضمانة للحفاظ على ثقافتهم وتقاليدهم بالاضافة الى خياراتهم السياسية المستقبلية.