رياح التغيير على الواقع السياسي العربي


عباس علي العلي
2021 / 7 / 13 - 00:42     

في علم الجغرافية ودراسة الظواهر الفلكية هناك محددات يمكن من خلالها التنبؤ باتجاهات الريح ومساراته والمتوقع من مرورها على الجغرافية الأطلسية , فقد تمر مرور الكرام وقد تحمل معها الكوارث أو الأمطار التي يمكنها أن تحي الأرض بعد موتها , في السياسة أيضا هناك مثل هذا العلم من خلال دراسة الظواهر السياسية بكل ما تحمله من دلالات ومعطيات وتوقعات مبنية على التحليل العقلاني المستند على الخبرة والتأمل العميق وملاحظة التجربة العامة والخاصة التي تمر بها أحداث أو تنتجها أحداث مشابه أو مقاربة لها في الكون والكيف.
من هنا يمكننا ان نقرأ بشكل اكثر وضوحا تلك المسارات التي تحملها ريح التغير على الواقع السياسي العربي في شقيه المؤسساتي و الشعبي , لاسيما وان قرأناها من مجموعة معطيات و مقدمات نربطها بقوانين الحراك السياسي الاقليمي و الدولي و ارتباطاتها بالأثر و المتأثر لاسيما ان الريح التغيرية لم تهب على المنطقة اليوم او الامس بل هي سلسلة متتالية من الهبات تنشط احيانا وتضعف احيانا حسب ما يراد بها او منها , عليه فتكون القراءة الواقعية للأحداث تمتد للأسباب و المسببات و تنتهي بالتوقعات و القراءات المستقبلية .
الواجب في هذه القراءة ان نتتبع القراءات من مصادرها المحلية القريبة و البعيدة فهي مرتبطة بشكل او بآخر بجملة من العوامل منها ما هو تاريخي حضاري ومنها ما هو اقتصادي سياسي و الاخطر هو المعرفي الفكري المتصل بالوجدان الجمعي للمجتمع العربي و اقصد بهما قضيتين الدين و الوعي القومي وما يتصل منهما حصرا بموضوع الصراع العربي الاسلامي – الصهيوني ,القراءة الواسعة هذه تمنحنا افق حقيقي و واسع كأنما نتتبع النوء السياسي كما يتتبع قارء الطقس النوء المناخي .
من اولى القضايا التي تصاحب حركة التغير السياسي مسائل منها شكليات الحكم واشكاليات السلطة وحدود الجغرافية السياسية فهذه الجوانب اكثر تحسساً للتغيرات و اكثر استجاباً لها ,ظاهرة الربيع العربي او ما يسمى هو مثال واضح على هذه الحساسية و التحسس مضاف لها ارتباطها بالعامل الاول وهو الوعي الديني و القومي الذي تشكل وتبلور و تظهر للعلن نتيجة الاخفاق السياسي في علاقتها مع المواطن اولا و تعاملها مع المحيط الخارجي ثانياً ,اذاً نحن في جدلية حقيقية بين الوعي بالواقع وارتباط حركة السياسة بما خلف الجغرافية السياسية و داخل اشكالية السلطة و الشعب .
شكل الوعي الصريح بدوافعه الوطنية التي حركها الاختلال الرهيب بالموازين بين سلطة الحاكم و واقع الشعب المقهور الذي تراكم وتجذر تحت عوامل كثيرة منها تداخل مصلحة القوى الكبرى والسلطة الدكتاتورية ومنهجية التغيب واللامبالاة من القوى القادرة من التحكم و السيطرة و التصحيح , المتمثلة بالمعارضة السياسية الناضجة المدنية التي هي ركن اساسي و حقيقي في البناء الديمقراطي الذي تخشاه القوى الدكتاتورية كما تخشاه القوى العالمية المؤثرة لإدراكها المسبق ان النتيجة من هذه الديمقراطية استعادة الوعي العربي الحقيقي بما لا يفسح للتطرف الدكتاتوري او التطرف السياسي الديني او العنصري .
هنا كان مسار التغير الحقيقي يبدأ من الداخل العربي وهو استعادة وعي الشعب وقواه المدنية للواقع مستفيدة من حركة الاصلاح والانفتاح واشاعة وتسيل مفهوم وممارسات وتطبيقات حقوق الانسان واعتبارها ثقافة عالمية عابرة للحدود , مما لا يمكن للحاكم الدكتاتور او السلطة الغاشمة ولا تحالفاتها القريبة او البعيدة من ان تعترض هذا الوعي لان ذلك يشكل اختلالاً بمصداقية المجتمع الدولي وادعاءاته المساندة لحق تقرير المصير وفق المنهج الديموقراطي القائم على حرية الاختيار عبر صندوق الانتخاب .
أحد أهم مصادر التغيير في العالم مشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروة العالمية التي شجعت من مداها وتأثيرها الثورة التكنلوجية والفضاء المفتوح والاتصال العابر للأفق المحلي والتي لعبت دورا تحريضا ففتح الأبواب للفكر الليبرالي كي يظهر نفسه البديل الحتمي تأريخيا كما فتح الأبواب للفكر الديني المتزمت مدعيا أنه الخيار الضروري تأريخيا, وجعل من هذا الفضاء ساحة صراع رئيسية أنتجت فكرا ورؤى تتمحور حول موضوع الوعي والهوية دون أن تتحاور لجعل العالم أفضل , وبذلك خرجت هذه الساحة من وظيفتها التواصلية وصنع الفهم المشترك واشاعة روح التسامح إلى أطار أخر زاد من حدة التفاوت الفكري والعقيدي بين أفراد المجتمعات العربية نفسها من جهة وبينها وبين والحيز العالمي الكلي.
العنوان الأول لوجهة ريح التغيير هي الديمقراطية وحقوق الإنسان وتتفرغ منها أيضا حقوق فردية على مستوى الوطني وعلى المستوى المعرفي ,هذه الحقوق لا تتلاءم اليوم مع كل مكونات النظام السياسي العربي لا على مستوى الحكومات الوطنية ولا على مستوى العمل الجماعي العربي والاسلامي من خلال المؤسسات التي كرست الهيمنة والتسلط للديكتاتوريات الحاكمة, وبالتالي سوف تكون هي المستهدف التالي بعد الحكومات ليكون البديل عنها المنظمات الشعبية المدنية المتعددة العلاقات والمتخصصة نوعما في حدود الهدف التغيري كمنظمة صحفيين بلا حدود واتحاد الكتاب والادباء العرب ومنظمات المجتمع المدني المتعددة الجنسيات.
في درجة أكثر أهمية ومن النتائج المهمة للإنتقالة السابقة واستمرارا للترددات التي تتبناها سنشهد تغيرات عميقة بالوعي وفرز حقيقي للكثير من العوامل الكامنة تحت ظواهر الكبت السلطوي ونتيجة لحالة الإنفلات في تحديد المفاهيم والرؤى وفلتان السلطة الدينية والأخلاقية من مكانها الطبيعي التقليدي إلى عالم الفضاء المفتوح واستيلاء طبقة تتميز بالصرامة والحدية في الطرح دون مراعات التوازنات التقليدية التي تتعامل بها المؤسسة الدينية أو المكونات الأخلاقية والعرفية التي حافظت طويلا على الواقع وحالت دون تفجيره لارتباطها بالسلطة من جهة ولما تتميز به من سكونية وتقليدية محافظة تراعي في جزء من عملها مسألة الوحدة والتوحد في المستوى النظري على الأقل.