بناء جبهة شعبية واسعة


ييلماز جاويد
2021 / 7 / 12 - 09:14     

يتميّز الوضع السياسي في العراق منذ الإطاحة بنظام صدّام حسين في 2003 بخصوصية ذاتية هشّة ، حيث تم تسليم الحكم إلى حكومة برئاسة أياد علاوي وأعطيت كامل صلاحيات السلطتين التشريعية والتنفيذية من قبل سلطات الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر ، إلاّ أن هذه الحكومة لم تستطع الصمود أمام ضغوط الحركات السياسية الموالية لإيران ولم تبادر إلى لجمها قبل إستفحالها وتمكنها من إزاحة حكومة أياد علاوي تحت واجهة خادعة مفادها تبادل السلطة سلميّاً . إلاّ أنّ العملية كانت في واقع الحال المؤامرة الإنقلابية الأولى التي نفذّتها تلك الحركات للقفز إلى السلطة ، تلك المؤامرة التي لم يعترف بها أيّ من المراقبين أو المحللين السياسيين لحد الآن . لم يكتفِ أولئك الموالون لإيران بقفزتهم إلى السلطة ونجاح مؤامرتهم بل هيّأوا لحركة مكملة لها ، مثلما نفّذ صدّام حسين مؤامرة إستلام البعث للحكم في السابع عشر من تموز 1968 وما حدث في الثلاثين من تموز 1968 . فقد أكمل موالو إيران مؤامرتهم الإنقلابية الثانية بتغيير نتائج الإنتخابات عندما فازت كتلة أياد علاوي بواحد وتسعين صوتاً وفازت كتلة نوري المالكي بتسع وثمانين صوتاً فجاء قرار المحكمة الإتحادية بقيادة مدحت المحمود بتفسير المادة الدستورية لصالح كتلة نوري المالكي ، فصار أياد علاوي كالذي لُدغ من ذات الجحر مرتين وصار الحكم بيد الكتلة الإسلامية الشيعية الموالية لإيران بأسلوب " قانوني " وديمقراطي " وتمّ إقتسام السلطة على أساس تحاصصي ؛ للمكون الشيعي الموالي لإيران اليد الطولى فيه .
لم يكتفِ أولئك بما حصلوا عليه و لا هم إطمأنوا إلى دوامه بل إستغلوه بأن أصدروا القوانين والقرارات والتعليمات التي من شأنها إدامة وضعهم وحمايته وتسهيل سبل نهبهم للمال العام والخاص وسبل إسكات الأصوات عندما ترتفع معترضةً ، وإستغلوا ظرف إحتلال الدواعش لأكثر من ثلث مساحة العراق ، معتمدين كذباً الفتوى التي أطلقها السيستاني في الدعوة للجهاد الكفائي فأنشأوا ما أسموه إبتداءً بالحشد الشعبي ثم بعد ذلك إنشقت فصائل عن ذلك الحشد وتحوّلت إلى ميليشيات مسلّحة منفلتة لا تأتمر بأوامر السلطات الرسمية بل قوة ضد أية حركة شعبية تطالب بحقوق ومحاسبة الفاسدين ، وقوة فاقت قوة المؤسسات العسكرية للحكومة وتحوّلت إلى " دولة عميقة " داخل الدولة لا تتجرأ أيّة جهة على رفضها .

بالمقابل بقيت القوى السياسية المدنية والديمقراطية واليسارية متفرّجة وكأن الأمور لا تعنيها وإعتبرت الصراع بين قوى " الحكومة التي نصبها المحتل " وبين القوى المحسوبة على النظام السابق التي بدأت نشاطها ضد النظام الجديد . لم تدرك القوى المدنية الوضع الذي وصل إليه العراق إلاّ بعد أن تمكنت القوى الموالية لإيران من تحصين نفسها ، ونشوء ظروف جديدة حتى جعلت بعض القوى المدنية تساوم وتتعايش مع النظام الجديد وبالتالي زاد تشتتها وضعفت قوتها في المواجهة ، ولم تتمكن الإنتفاضة الشعبية في أكتوبر 2019 من إرسال رسالتها إلى ذهن قيادات الحركات السياسية المدنية ليرتفعوا على خلافاتهم ويوحّدوا صفوفهم في تحالف سياسي وراءه قوى الشعب المنتفض . لقد عجزت قيادات تلك الحركات في الوصول إلى إتفاق حول الأهداف الرئيسية الآنية وبالتالي إستمروا في تشتتهم وكل طرف يعزف على آلة لا تتناسب مع آلة غيره ، بسبب جهل أولئك القادة لخطورة ما يمر به العراق من أوضاع وتوجهه إلى منحدر مهول لا يُعرف له قرار وقد يؤدّي إلى سحقهم جميعاً الواحد بعد الآخر .
كانت لنا دعوات إلى علمائنا الإقتصاديين للبحث وتحليل الطبقات الإجتماعية للسكان وما حدث من تغيير في مكوناتها الطبقية بعد 2003 بفعل الممارسات المنهجية التي حدثت في ظل الحكومات التي أدّت إلى تغييرات عميقة في الوضع الإنتاجي والإقتصادي ونتج عن كل ذلك تغيير الوضع السياسي والفكري .

إنّ الإنتاج الإقتصادي والبناء الإجتماعي الذي ينشأ بالضرورة عنه ، يؤلفان في كل عهد تاريخي أساس التاريخ السياسي والفكري*.
إن سياسة الحكومات المتعاقبة في الإعتماد على النفط كمصدررئيسيً لميزانية الدولة مع السياسة الممنهجة في تدمير الصناعة والزراعة ومجالات الإنتاج الأخرى بالإضافة إلى التوسع في تشغيل العاطلين في الوظائف الحكومية والجيش والشرطة والحشد الشعبي دون أن يكون لهذه الكيانات أي إنتاج إقتصادي ، قد حوّل المجتمع العراقي إلى مكوّنات طبقية غير التي كانت عليها قبل 2003 ، وبالتالي فإن إجراء دراسة عميقة لهذه الحالة ومعرفة المصالح الحقيقية للطبقات الإجتماعية الحالية يوصل إلى معرفة الفكر العام الذي آل إليه عند أكثرية أبناء الشعب نتيجة للتغيير الذي حدث في الإنتاج الإقتصادي ومن ثم صياغة المطالب الدقيقة لهذه الطبقات وصياغة الشعارات السياسية التي يمكن بها تجميع قواها وتوحيد صفوفها في تحالف شعبي واسع وزجّها في النضال من أجل تحقيقها .

بناء تحالف شعبي واسع في عراق اليوم بحاجة إلى علم وفن وقدرات كل عراقي شريف .
*: فردريك إنجلس