روزنامة الأسبوع لِقَاحُ عَبْدِ اللهِ .. الكُوْبِي!


كمال الجزولي
2021 / 7 / 11 - 05:46     

الإثنين
بسبب «ريش الببغاء» شغفت بعيسى. عرَّفني به، أواسط السِّتِّينات، التِّجاني عثمان، المعلِّم معه بالخرطوم الأميريَّة. ثمَّ زاملت، بصحيفة «السُّودان الجَّديد»، صديقيه محمود مدني وصدِّيق محيسي، فتوطَّدت علاقتنا، حتَّى سافرت للدِّراسة. وبعد عودتي، عام 1973م، عدنا نتواصل. وكان أن صرت مسؤولاً، آنذاك، إلى جانب عبد الله علي ابراهيم، عن المكتب المركزي للأدباء والفنَّانين الشِّيوعيِّين. ورغم أن عيسى لم يكن شيوعيَّاً، إلا أنه كان صديقاً للحزب، يفتح، والمرحومة زوجته، بيتهما بضاحية بري، ليستقبلانا بلا أدنى تردُّد، رغم الخطر المحدق، والبلاد خارجة، لتوِّها، من صدام يوليو 1971م!
طرق القدَّال بابنا، لأوَّل مرَّة، ذات نهار من عام 1982م، شابَّاً وسيماً مهذَّباً عرَّفنا بنفسه كطالب طبٍّ هجر الكليَّة ليتفرَّغ للشِّعر! كان معنا المرحوم مبارك بشير، فأخذتنا، أجمعين، به الظنون! وحتَّى بعد أن قرأ علينا خرائده الملحميَّة، تبادر إلى أذهاننا أنه مِمَّن يحفظون أشعار الهمباتة، وينتحلونها! مع ذلك أسرنا بجودة إلقائه، ورخامة صوته، على سلاسة وعذوبة الشِّعر نفسه، فمضينا نستزيده. ثمَّ دفعتنا حداثة سنِّه لمفاتحته في شكوكنا! فما كان منه إلا أن سألنا، بالمقابل، مبتسماً في وداعة، عمَّا إن كان دافعنا للشكِّ، فعلاً، جودة القصائد!
مع الزَّمن تعمَّقت صلتي بعيسى، خاصَّة بعد انتقاله من التعليم إلى الصَّحافة الثَّقافيَّة، حيث اخذ يهتمُّ بنا، نحن الشُّعراء والكتَّاب الشَّباب باتِّجاهاتنا الفكريَّة التي تستثير استرابة الأجهزة الأمنيَّة عادة. لكنه كان يتعامل مع الأمر ببسالة نادرة، رغم أن في أحضانه يتامى يترحَّل بهم من بيت إيجار إلى آخر، مصرَّاً ألا يأتيهم بزوجة أب. كان يستيقظ مع النَّجمة، يعدُّ الشَّاي، والفطور، ويصطحبهم إلى المدرسة، ويعود ليطبخ، ويغسل، ويكوي، قبل أن يذهب للعمل، ثمَّ يُهرع للعودة بهم من المدارس، ويجهِّز لهم الغداء، وبعدها ينظف البيت، ويحمِّمهم، ليجلس يستذكر معهم دروسهم؛ وهكذا دواليك، إلى أن ابتنى لهم، بيديه العاريتين، في ما يشبه عمل قبيلة من الجِّنِّ، بيتاً، في إحدى ضواحي أم درمان، وهم يكبرون، سنة بعد سنة، حتَّى تزوَّجوا، فصار له أحفاد ليس أقرُّ لعينيه منهم، وراح يعيد معهم سيرته الأولى مع ابنائه، بينما يكاد لا يتوقَّف، ولو لبرهة، عن شيئين، التَّدخين، سنين عددا، ورفد المكتبة بالجَّديد من سرديَّاته، ودراساته الفلسفيَّة، والنَّقديَّة.
ومثلما ظلَّ القدَّال يعطِّر أمسيات العاصمة والأقاليم بمديح الوطن وناسه، ما فتئت الجَّماهير تهشُّ لاطلالاته، وتبشُّ لتغريداته، وهو يجهد كي يخفي عنها فعل الدَّاء اللعين في أحشائه. وإن أنسى لن أنسى ما حييت، حين وقف يلقي قصائده من على منبر مسرح مكتظٍّ بشباب جوبا التي كنَّا وصلناها، بعد الانفصال، مع صديقتنا المبدعة البديعة ستيلا قاتيانو، نشارك في تدشين بعض إصداراتها، بدعوة كريمة منها و«دار رفيقي». كان القلق يعصف بي، قبل صعوده، إشفاقاً عليه مِمَّا حسبته عسراً في عامِّيَّته على الأذن هناك، فإذا بالحناجر الجَّنوبيَّة الفتيَّة ترعد أصداؤها في جنبات المسرح، تردِّد معه أشعاره، كلمة كلمة، في كوراليَّة مذهلة: «وانا ما بجيب سيرة الجَّنوب .. انا ما بجيب سيرة الجَّنوب»!
ظلَّ عيسى، طوال رحلة حياته الغريبة على انتلجينسيا المدينة، يقاسي، بجسده النَّاحل، سقماً ينهش منه الصَّدر، حتَّى افترسه تماماً، فأسلم، أخيراً، روحه الطاهرة، في صمت، إلى بارئها، مثلما شقَّ علينا نعي القدَّال ذات مساء كئيب. فنعوذ بك، اللهم، من فتنة مماتهما، مثلما نعوذ بك من فتنة محياهما، سائلينك واسع الرحمة والمغفرة لكليهما، وإنزالهما منزلة المقرَّبين إليك، المرضي عنهم منك، ولا نقول إلا ما ترضى: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.

الثُّلاثاء
أصاب اللواء عابدين الطاهر، المدير الأسبق لشرطة المباحث، بقوله إن تكوين قوَّات مشتركة من الجَّيش والدَّعم السَّريع لحسم الانفلات الأمني في الشَّارع، إنَّما يعني الاستغناء عن الشُّرطة، محذِّراً من التَّعامل مع المدنيِّين بقوَّات عسكريَّة ذات عقيدة قتاليَّة، ومؤكِّداً أن الجِّهة الوحيدة التي يمكنها التَّعامل معهم هي الشُّرطة (السُّوداني الدَّوليَّة؛ 21 يوليو 2021م).

الأربعاء
ظهر اليسار في السُّودان، خلال فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، بتيَّارات مختلفة، وعلى أنماط متنوِّعة، أغلبها سياسي، وبعضها اجتماعي، وبعضها ابداعي، وهلمَّجرَّا. على النَّمط الغالب ظهرت الأحزاب والكيانات السِّياسيَّة، بتأثيرات فكريَّة وتطبيقيَّة، أبرزها الشِّيوعي، بالتَّأثير «الواسع» للماركسيَّة، و«المحدود» لتَّجربة الاتِّحاد السُّوفييتي وبلدان الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة. ثم جاءت، على ذات النَّمط، الأحزاب والحركات العروبيَّة، كالبعثيَّة، والنَّاصريَّة، والقوميَّة العربيَّة عموماً، وآخرها، ربَّما، «نظريَّة» القذَّافي «الجَّماهيريَّة». كما ظهرت بعض الأحزاب والحركات الإقليميَّة، في الجَّنوب، وجبال النُّوبا، بتأثير حركات التَّحرُّر الأفريقيَّة. أمَّا على النَّمط الثَّاني، فقد تشكَّلت تنظيمات نقابيَّة، واتِّحادات نسائيَّة، وشبابيَّة، وطلابيَّة، وفنِّيَّة. وأمَّا على النَّمط الثَّالث فقد ظهرت تيَّارات ابداعيَّة، أدبيَّة وتشكيليَّة، بالأساس، كالواقعيَّة الاشتراكيَّة، في الشِّعر والسَّرد، والواقعيَّة السِّحريَّة في القصَّة القصيرة والرِّواية، على يد الطَّيِّب صالح بالذَّات، وتبعهما بروز الميل إلى الجَّماليَّة الأفريقيَّة الإسلاميَّة في مدرسة الخرطوم التَّشكيليَّة، منتصف السِّتِّينات، على يد الصَّلحي، وشبرين، وحركة أبادماك، أواخر السِّتِّينات ومطالع السَّبعينات، بقيادة عبد الله علي إبراهيم، والنُّور عثمان أبَّكر، وجرجس نصيف، وموسى الخليفة، وآخرين.
الملاحظة الأبرز، في التَّجربة المؤسَّسيَّة للحزب الشِّيوعي السُّوداني، والتي ينبغي عدم إغفالها، من باب تَّجرُّد القراءة، وموضوعيَّة التَّحليل، هي انتباهته الباكرة لجانبين من فكره وعمله، كلاهما غاية في الخطورة، الأوَّل عدم إلزاميَّة «الإلحاد» لدى تطبيق الماركسيَّة، والآخر ضرورة مراعاة الحقوق والحرّيَّات الفرديَّة؛ ومن ثمَّ اقدامه، منذ نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، قبل حتَّى تكوينه رسميَّاً، صيف 1946م، على إعلان نقده الواضح، الصَّريح، في هذا الجَّانب، لتجربة التَّطبيق في الاتِّحاد السُّوفييتي، وبلدان الدِّيموقراطيَّات الشَّعبيَّة. أمَّا المأخذ الأساسي على أكثر تمظهرات هذا النَّمط السِّياسي، على صعيد اليسار العروبي، فهو تعامي بعض منسوبيه، وغضُّهم الطَّرف عن ممارسات القتل، والسَّحل، والقمع، وكبت الحريَّات، ونظام الحزب الواحد، والتَّجسُّس على الاعضاء، في البلدان التي يضمرون تمثُّل تجربتها، فكريَّاً وتطبيقيَّاً، كنظام صدَّام في العراق، ونظام الأسد في سوريا، مثلاً، مِمَّا يجعلهم يستشعرون واجب الدِّفاع المستميت عن هذه الأنظمة، والتزام الصَّمت إزاء ممارستها لأبشع صنوف التَّعذيب، والتَّصفية الجَّسديَّة، والاعتقال الإداري، رغم نضالهم الصلب، هم أنفسهم، في بلدهم ذاته، ضدَّ نظام لا يقلُّ بشاعة عن تلك الأنظمة، الأمر الذي غالباً ما يعرِّضهم للتَّشريد، والملاحقة، والسِّجن، والتَّنكيل!

الخميس
رغم الحظر الأمريكي المتواصل منذ 1962م، والذي شدَّده ترامب مؤخَّراً، قالت مجموعة «بيوكوبافارما» الكوبيَّة إنّ لقاح «عبدالله» للتَّحصين ضدَّ كورونا أثبت فعالية بنسبة 92.28% بعد 3 جرعات، فاستحقَّ الحصول على التَّرخيص. وكان معهد اللقاحات قد أعلن، الأسبوع الماضي، أن اللقاح الآخر «سوبيرانا2» قد أثبت فعاليَّة بنسبة 62% إثر الجرعة 2 من 3، فيُتوقّع حصوله على التَّرخيص قريباً. واللقاحان يعطيان بصيص أمل لشعوب القارَّة الفقيرة. وهنّأ الرَّئيس ميغيل دياز كانيل بلاده، قائلاً: «علماؤنا تغلبوا على جائحتي كوفيد والمقاطعة»! وتستهدف الحكومة تلقيح 70% من السُّكَّان البالغ عددهم 11,2 مليون نسمة بحلول أغسطس، على أن يُتمَّ تلقيح الجميع قبل نهاية السَّنة. وبهذا أصبحت كوبا أوَّل دولة في أمريكا اللاتينيَّة تطوّر وتنتج لقاحات ضدَّ كورونا رغم صعوبات الحظر الذي باشرت، بسببه، منذ الثَّمانينات، تطوير أدويتها الخاصَّة، فضلاً عن 8 لقاحات محليَّة من الـ13 التي تستخدمها. وتغطِّي هذه اللقاحات 80% من برامج التَّحصين في كوبا وفي 35 دولة أخرى، كفنزويلا، وكولومبيا، والأرجنتين، والبيرو، والمكسيك، وإيران، وفيتنام. أمَّا تسمية لقاح «عبدالله» فتعود إلى مسرحية شعريَّة بهذا الاسم، ألفها الشَّاعر خوسيه مارتي (توفي سنة 1895 عن 42 عاماً)، ويُعدُّ من رموز النِّضال لأجل استقلال كوبا عن الاستعمار الإسباني، وكان معجباً بالحضارة العربيَّة، وبالعرب الذين شاركوا الكوبيِّين نضالهم التَّحرُّري. و«عبد الله» هو بطل المسرحيَّة، وهو شاب مصري نوبي ناضل وضحَّى في سبيل بلده وشعبه.

الجُّمعة
السَّادس من ديسمبر 1998م. صباحٌ من الصَّحو الاستوائيِّ، وشبُّورة من النَّثيث النَّاعم. إفطارٌ خفيفٌ على موسيقى السَّواحيلي الخافتة: كوكتيل الفاكهة الطازجة، وفنجالٌ القهوة بالحليب، مع قطعتين من بسكويت الجَّنزبيل. اتخذت مقعدى إلى مائدة مستديرة، في قاعة بنوافذ زجاجيَّة عريضة، تهطل خلفها تعاريش الكارنيشن الملوَّنة، بفندق «كانتمير» الرِّيفىِّ السَّاحر، بطابقه الأرضىِّ، وآجُرِّه المحروق، وسقوف قرميده البرتقالىِّ المحدودبة، ومماشى حدائقه المغمورة بزهور الجِّيكاراندا البنفسجيَّة، وسط دغل من الصَّنوبر، والبان، والماروبيني، والبامبو، محاطاً بمزارع البنِّ والشَّاى بخضرتها الفصيحة المشعشعة، تتخلله مسطَّحات الورود، وأحراش الأزاهير، وما لا يُحصى ولا يُعدُّ من صنوف النَّباتات الاستوائيَّة رقراقة النَّدى، عميقة العطر، في تلك الضَّاحية الهادئة، الرَّابضة «كالمنظر الأخَّـاذ فـي إحـدى بطـاقات البريـد»، قريباً من «تل الموز Banana Hill»، شماليَّ العاصمة الكينيَّة التي وصلناها، مساء اليوم السَّابق، بدعوة من منظمة «أوكسفام كندا»، للمشاركة في «ورشة عمل حول أوضاع منظمات المجتمع المدني في القرن الأفريقي». طفقت أرتِّب أوراقي، صامتاً، وأحاول أن أميِّز بين الهمهمات التي تناثرت فى المكان، وأرمق، بين الفينة والأخرى، السَّحنات الزِّنجيَّة، والخلاسيَّة، والصَّفراء، والبيضاء، التى تحلقت متأهِّبة، بحيويَّة، حول المائدة المستديرة.
بغتة، التقت نظراتنا في صمت. ألفى كلانا نفسه يحدِّق في وجه الآخر. هنيهة، ثمَّ غضضنا طرفينا حرجاً. غير أننا سرعان ما عدنا، لسبب ما، نحدِّق، مجدَّداً، فى وجهي بعضنا البعض. لمحت طيف ابتسامة متردِّدة في المحيا الزِّنجى الوسيم، والثَّغر المفترِّ عن صفَّين من العاج النَّضيد، فابتسـمت بدوري. وتبادلنا إيماءة تحية خفيفة برأسينا. أدرت شريط ذاكرتي إلى الوراء، بأقصى ما أوتيت من طاقة، ولعله فعل أيضاً. جرَّدته من غضون الجَّبين الوضيء، ومشيب الفودين الأنيقين، وجرَّدني، كما يبدو، من جهشة البياض في لحيتي، ونمنمات العمـر حول عينيَّ، فإذا بأحداث صيف العام 1983م تسـطع بكامل تفاصيلها، وإذا به يهتف، بدينكاويَّته العذبة:
ـ «كا .. مال جو .. زو .. لى»؟!
وإذا بي اهتف، وحاجباي يرتفعان دهشة:
ـ «دول .. دول اشويل»؟!
غير أن ميسِّر الورشة، الصَّديق مرتضى جعفر، المحامي الكيني من أصل هندي، مستشار جمعيَّة العون القانوني، شرع يعلن، بصوته الجَّهوري، عن افتتاح الورشة، فى ذات اللحظة التى كنت أتمتم فيها، مأخوذاً، بين خشخشة الأوراق وانتباهة الأعين:
ـ «حقَّاً .. الحَىُّ يلاقي»!
كنَّا تعارفنا، صيف 1983م، وسط ملابسات تحوي من الملهاة ما تحوى من المأساة! وجاء لقاؤنا بنيروبى محفِّزاً لإعادة تركيب الجُّزيئات المفكَّكة من تلك الملابسات التى ما انفكت تهشُّ على ذاكرتينا، طوال أيَّام الورشة. كنت اعتقلت ضمن بعض المحامين والقضاة، بسبب إضراب القضائيَّة الشَّهير، ورُحِّلنا، منتصف الليل، من الأمن إلى كوبر. هناك، في قسم «المعاملة الخاصَّة»، فوجئنا بعدد من «حلفاء النِّميري!» من رموز الحكم الذَّاتى في الجَّنوب، وفيهم «دول»، القاضي السَّابق، ونائب رئيس المجلس التَّنفيذي العالي، لاحقاً، وماثيو أوبور، رئيس مجلس الشَّعب الاقليمي، ود. جستين ياك وزير الصحَّة، وأمبروز ريني المحامي، ووزير الثَّقافة والاعلام. كانوا قد عارضوا قرار «الرَّئيس القائد» بإعادة تقسيم الجَّنوب لثلاثة أقاليم، وعدُّوا ذلك تنصُّلاً عن اتِّفاقيَّة السَّلام بأديس أبابا، والتي أوقفت الحرب منذ مارس 1973م!
وجدنا مشاجبهم المصطنعة من غصون النيم، وعروق المساويك، مغروزة فى شقوق الجِّدران الشَّائهة، ومكتظَّة ببزَّاتهم الهفهافة، وربطات أعناقهم الزَّاهية، وارد «كريستيان ديور» الباريسيَّة، و«ماركس آند سبنسر» اللندنيَّة، وأشكال وألوان من عصىِّ العاج والأبنوس السُّلطانيَّة!
علمنا أنهم جاءوا، قبل أيام، من جوبا، لحضور المؤتمر القومي الرَّابع للاتِّحاد الاشتراكي. وقبيل الجَّلسة الختاميَّة المسائيَّة، حضر إليهم، في صدر القاعة، شبَّانٌ مهذَّبون، يضعون شارات المراسم، وانحنوا أمامهم بتحيَّة الإجلال، ثم أخطروهم بأن برنامجهم يشمل لقاءً مع سعادة اللواء عمر الطيب، النَّائب الأوَّل لرئيس الجُّمهوريَّة، ورئيس جهاز الأمن. وفور انتهاء الجَّلسة انطلقت بهم سيَّارات رئاسيَّة عميقة السَّواد، مسدلة السَّتائر، تموء، فى ذلك المساء اللطيف، كهررة ناعمة، تتقدَّمها السَّارينة، إلى حيث ترجلوا، وأعصابهم المشدودة إلى مراكز الحساسيَّة البروتوكوليَّة فى أدمغتهم لا تنتظر غير فرقعات التَّحايا العسكريَّة، تحت شعشعات الأنوار السُّلطانيَّة! لكن صدمتهم كانت عنيفة حين ألفوا أنفسهم في باحة كئيبة، ضيِّقة، ومعتمة، حيث لا «سعادة نائب أول» ولا يحزنون، بل مجرد «مينى بص» كالح، تَحلَّق حوله، بانتظارهم، رهط يتجهَّمُهم من الغلاظ الأشدَّاء، مدجَّجين بالأسلحة الخفيفة، والتَّعليمات الصَّارمة!
هكذا بين «الهبوط» من «الليموزينات» الفارهة و«الصعود» إلى «المينى بص» الكالح، تشكَّلت اللحظة الفاصلة بين «أديس» و«كوبر»! واستحالت غرف الفندق الحالم إلى مجرد حصائر بالية، وبطانيَّات نتنة، وتحوَّل «مستر تشيرمان» و«مستر فايس بريسيدنت» و«مستر منستر»، ما بين غمضة عين وانتباهتها، من رجال دولة ملء السَّمع والبصر، إلى محض قوم منقطع بهم، وأرقام صمَّاء فى «تمام» السِّجن!
أسميناها «ليلة الخناجر الطويلة»، وتندَّرنا بأحداثها كثيراً، خصوصاً بعد أن أطلق النِّميري سراحنا وسراحهم، بينما كان يرتِّب، سرَّاً، لإصدار «قوانين سبتمبر». استضافوهم، هذه المرَّة، بفندق «أراك»، فتبادلنا الزِّيارات، وتوثقت بيننا العلاقات، إلى أن جاء يوم بحثنا فيه عنهم، فلم نجد لهم أثراً! قوي لدينا الاعتقاد بأنهم لا بُدَّ قد اعتقلوا مجدَّداً، حتى أتانا خبرهم بعد حين، فإذا بهم قد خرجوا! غافلوا أجهزة الأمن وخرجوا! دخلوا «الغابة»! التحقوا بالحركة الشَّعبية لتحرير السُّودان التي أسَّست جيشها، آنذاك، ودشَّنت حربها، للتو!
حكاية لا تخلو من الطرافة على مأساويَّتها! لولا أن الطرافة سرعان ما تطير أبخرة، لترسب المأساة وحدها فى الأعماق، كأمثولة حيَّة عمَّا ذكَّرنا به الصَّديق عبد الله علي إبراهيم مِمَّا أسماه «نهاية السِّياسة» فى بلادنا، وتحديداً قِصَر نظر الحركة السِّياسيَّة القديم فى الشَّمال، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأولى» فى الجَّنوب، وقصَر نظر رديفتها فى الجنوب، حين لا تحسن حساب «الخطوة الأخيرة» فى الشَّمال!
فى الورشة قدمنا، هو وأنا، ورقتين جيَّدتين عن ثقافة العمل الطوعى فى الشَّمال والجَّنوب، فاكتشفنا، قبل الأغيار، كم نحن متقاربون فى قيم كثيرة. سألته على العشاء:
ـ «إذاً فيم كلُّ هذا الاقتتال يا دول»؟!
أجابني، متشاغلاً بنثر بعض الملح في طبقه:
ـ «إسأل نفسك»!
انتهيت من الأكل قبله. ألقيت بمنديل السوليفان في قفص البلاستيك تحت المائدة. وما أن لمحنى أخرج صندوق «البرنجي» من جيبي، حتى انقض عليه كما النِّسر الكاسر:
ـ «هييييه .. كامال .. كامال! ما زالوا ينتجون هذا الشَّئ؟! كيف فكرت فى إحضاره معك؟! ماذا أحضرت أيضاً؟! من يا ترى بقى فى السُّودان من آل حجار»؟!
أهديته صندوقاً. أشعل لفافة. استرخى، ثم سعل بشدَّة. كان مصاباً بأنفلونزا حادة. ناولته منديل سوليفان، وأنا أقول ضاحكاً:
ـ «وأنت يا رجل، تهتزُّ كقصبة، وصدرك يكركر مثل وابور معطوب، فكيف تستطيع أن ترفع بندقية»؟!
بدا أن وجهه اكتسى غلالة حزن شفَّاف. لذنا بالصمت. لكنه ما لبث أن عاد إلى أسئلته المتحمِّسة:
ـ «اسمع .. كامال، ألا يزال مطعم .. مطعم .. اللعنة .. ذلك المطعم الصَّغير قرب صحارى، ألا يزال يعمل؟! وصينية الاتِّحاد الاشتراكي؟! سمعت أن مقاهي رائعة قامت جهات المقرن؟! اسمع .. كامال، وتلك المثقَّفة المدهشة فا .. فاطمة .. ياه .. ياه .. أذكرها فى الجَّامعة .. فاطمة بابكر .. أين هي الآن؟! ومولانا فلان يفترض أن يكون الآن في المحكمة العليا! ومحطة السِّكَّة حديد ألا تزال في مكانها؟! اسمع .. كامال هل قامت أحياء جديدة في الخرطوم؟! أظن أن التاكسى لايزال باللونين الأصفر والأخضر؟! ألا يزال كبرى أم درمان يهتزُّ كأنه مشيَّد فوق زلزال؟! إسمع .. كامال، وأولئك الأصدقاء .. أين هم الآن .. عمر صديق وأنور عز الدِّين وعبد المنعم بشير والطيب أبو جديرى وإسحق شداد وسيد عيسى وعبد الله صالح* والآخرون»؟!
وحين أخبرته بوفاة عبد المنعم وعبد الله، وقتها، حزن كثيراً.
وهكذا، طوال الأسبوع، في الصَّباحات قبل العمل، في المساءات على العشاء، فى الاستراحات بين الجَّلسات، يسبقه إليَّ صوته من على البعد:
ـ "اسمع .. كامال"!
ثم يأخذنى من يدي، ويبدأ فى الكلام والسُّؤال في نشوة طفوليَّة، وحماسة فائقة، كيفما اتفق، ودونما ترتيب، عن تفاصيل التَّفاصيل، عن الخرطوم، والناس، والجَّامعة، والمطاعم، والمقاهي، والشَّوارع، والسِّينمات، وأولاد دُفعته، ودوَّارات المرور، ومنتديات السِّياسة، وأروقة القضاء، و .. تساءلت، بينى وبين نفسى، أكثر من مرَّة، وهو في قمَّة نشوته بذكريات الخرطوم: «هل يُعقل أن مثله يريد الانفصال»؟!
وقفنا، ذات أصيل ناعم، ندخِّن، خلال استراحة قصيرة، فهتفت، وأنا أسرِّح بصرى فوق شلالات الخضرة المترامية وراء الأفق باحتمالات لانهائيَّة:
ـ «يا رجل! لم أرَ فى حياتى جمالاً كهذا»!
وسرعان ما استشعرت خجلاً عميقاً يصلبني داخل جلدي حين علق، بانجليزيَّته الدِّينكاويَّة، وصوته الخفيض، وهو يسعل، خفيفاً:
ـ «هذا يعني أنك لم ترَ مريدي، بعدُ، يا صديقي»!
دهمني، بعد ذلك بعامين، خبر إصابته بالشَّلل النِّصفي. أخبرتني به، في الخرطوم، صديقتنا الكنديَّة دنيلي بيكيلي، المقيمة بنيروبي، قالت: نزوره في المستشفى بانتظام، ولكن مرآه، وقد ازداد شحوباً، ومرأى عياله حول سريره، فى غربتهم الهائلة، يكاد يمزِّق نياط القلوب. بعثت إليه معها بتحاياي وتمنِّياتي القلبيَّة. وكتبت له، مداعباً، أقول: «يارجل! لقد نفدتَ من ليلة الخناجر الطويلة، فابشر بطول سلامة»!
ولكن نعيه ما لبث أن شقَّ علىَّ ، بعدها بأشهر «وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت». أسأل الله أن يشمله، وعياله، والسُّودان، ويشملنا أجمعين، بواسع رحمته وغفرانه.

السَّبت
في الأوَّل من يوليو الجَّاري كشف علي جدُّو، وزير التِّجارة والتَّموين، عن اجراءات كانت وزارته تعتزم القيام بها، خلال الأسبوعين التَّاليين، لتوعية المواطنين بقوانين جديدة لضبط الأسواق، وفرض الالتزام بوضع بطاقات الأسعار على السِّلع، تعقبها حملة ستشنًّها، بدءاً من أغسطس المقبل، للرَّقابة، ومنع تلاعب التِّجار والسَّماسرة.
لا شكَّ في ضرورة هذه الاجراءات، وتميُّزها، لكن يا حبَّذا، حسب «العين الأخباريَّة»، لو الزمت الوزارة المصانع، والشَّركات، وسائر تجار الجُّملة، بتعبئة المنتجات في حاويات ذات أوزان معلومة، ووضع ديباحات عليها تحمل أسعارها، وتواريخ انتاجها، وانتهاء صلاحيَّتها، قبل بيعها لتجار التَّجزئة، كما أن على الوزارة، ايضاً، حلَّ معضلة السِّلع المستوردة والتي تدخل البلاد دون أن تُعرف اسعارها الحقيقيَّة!
غير أنني وددت لو أن الوزير الجَّديد نسب الفضل في هذا القانون للوزير السَّابق مدني عباس الذي كان قد أعلن عنه، قبل إقالته، وصرَّح بأنه كان في مرحلة الإجازة بمجلس الوزراء، وأنه يحدِّد عقوبة السِّجن بخمس سنوات، مع جواز المصادرة، على عدم وضع بطاقات الأسـعار على السِّـلع (الحداثة؛ 16 يناير 2021م). كما وددت، أيضاً، لو أن الوزير الجَّديد أوضح السَّبب في تعطيل صدور هذا القانون، وبقائه رهن إجراءات التَّشريع طوال الفترة الماضية، بينما الشَّعب يسحقه الغلاء المتفاقم يوماً عن يوم!

الأحد
قال ونستون تشيرشيل، رئيس وزراء بريطانيا، مرَّة، وكان شديد البدانة، لجورج برناردشو، الكاتب السَّاخر الذي كان شديد النَّحافة: «مَن يراك يظن أن بلادنا تعاني من مجاعة»! فردَّ شو قائلاً: «ومن يراك يدرك، فوراً، أسباب هذه المجاعة»!

***