لمحات من تاريخ العراق الحديث


جاسم ألصفار
2021 / 7 / 10 - 22:18     

د. جاسم الصفار
09-07-2021
عانى العراق، كغيره من سائر الدول النامية، من تفاقم مشكلة الهجرة من الريف الى المدينة. ومع أن هذه الظاهرة لا تقتصر على بلادنا وانما تشمل معظم المجتمعات النامية سواء في المنطقة العربية أو غيرها، الا أن أسباب ومسارات الهجرة تختلف من دولة الى أخرى. ففي العراق، رافقت الهجرة من الريف الى المدينة التغيرات الحاصلة في ملكية الأرض والتحولات الاجتماعية والاقتصادية في مناطق الأرياف والمدن القريبة منها.
كثيرا ما يتهم أعداء ثورة 14 تموز 1958 النظام الجمهوري الذي أقيم في العراق بعد نجاح الثورة بالهروب الى الامام في تصديه لمشكلة هجرة سكان الريف الى المدن، وخاصة بغداد، والإقامة فيها، وبالتالي تحميل نظام عبد الكريم قاسم كل التبعات السلبية الاجتماعية والاقتصادية التي ترتبت على ذلك، فهل هذه هي الحقيقة؟ لنناقش السياق التاريخي لحصول تلك الظاهرة اعتمادا على دراسات واحصائيات علمية رصينة.
ساعد الإنكليز والنظام الملكي المشيد من قبلهم، منذ بداية القرن الماضي، شيوخ العشائر على تحويل جزء كبير من انتاج القبيلة الى بضاعة وعرضها في الأسواق المحلية والعالمية، مما دفع الى دخول الاقتصاد النقدي ونشره بين العشائر العراقية، وبخاصة زراعة الشعير الذي تم تصديره الى فرنسا وانكلترا. وبهذه الطريقة استطاع الشيوخ، وعلى حساب افراد قبائلهم ان يتحولوا، وبوقت قصير الى اغنياء ويتعدى نفوذهم الى خارج حدود مناطقهم.
أدى هذا الواقع الى تغيرات هيكلية في نظام الملكية في الريف العراقي، انهار بنتيجته نظام الملكية الجماعية القبلية للأرض وبدأ نظام العشيرة بالتفكك وتحولت الأراضي الزراعية الى ملكيات اقطاعية وشبه اقطاعية. فكان لهذا الواقع أثره في تعميق حدة الفروق الطبقية في القرى العراقية واشتداد الصراع بين الفلاحين وبين مالكي الاراضي الزراعية الجدد سواء كانوا من رؤساء العشائر أو ألسياسيين أو العسكريين وغيرهم.
ومما زاد في تفاقم هذا الوضع، صدور «قانون العشائر العراقية" الذي سنه الانكليز، والذي اعطى للشيوخ عدداً من الامتيازات ومنحهم نفوذ قوي في الحياة السياسية والاقتصادية، والذي بدوره أمعن في ترسيخ التمايز الطبقي في الريف، على الرغم من أن الملكية الاقطاعية للأراضي الزراعية لم تكن سائدة تقليديا في الريف العراقي.
وبسبب العلاقات الاجتماعية الاقطاعية وشبه الاقطاعية التي سادت حتى ثورة 14 تموز 1958 في الريف العراقي وما رافقها ونتج عنها من أوضاع مزرية للفلاحين، شملت ظروف عيشهم وعملهم، متمثلة بتدني الرعاية الصحية وندرة مراكز التعليم وغياب الخدمات والنظافة والفقر الشديد وسوء التغذية. كل ذلك وغيره من مظاهر التدهور الاقتصادي والاجتماعي التي عانى منها الفلاح العراقي، في ذلك الوقت، قاد الى مغادرة سكان الريف لبيئتهم بحثا عن ملاذ آمن في المدن القريبة، وخاصة تلك التي تتوفر فيها فرص عمل وظروف عيش أكثر رحمة وأقل قسوة.
بدأت موجات النزوح الى المدن الكبيرة وبخاصة العاصمة بغداد بحثاً عن أي عمل كان سواء في دوائر الدولة الخدمية أو الشركات الخاصة منذ ثلاثينات القرن الماضي، وازدادت مناسيبها بعد الحرب العالمية الثانية. وتبين الاحصائيات والدراسات الاجتماعية والاقتصادية أن نسبة المهاجرين من سكان الارياف الجنوبية، وبصورة خاصة من ألوية العمارة والكوت والبصرة، هي اعلى بكثير من نسبة المهاجرين في المناطق العراقية الاخرى.
تبعا لذلك، اخذت الكثافة السكانية في المدن العراقية الكبرى تزداد بصورة مستمرة وبخاصة مدينة بغداد، التي أصبح ثلث سكانها في منتصف الخمسينات من المهاجرين من جنوب العراق. ونتيجة لذلك، أي للأوضاع الاقتصادية واجتماعية المشجعة على الهجرة من الريف، نمت احياء سكنية وصرائف رثة في ضواحي العاصمة بغداد.
وإذا كانت اسباب النزوح الى المدن تتلخص في انخفاض مستوى المعيشة وعلاقات الانتاج الزراعية الاقطاعية والبطالة وكذلك سياسة الحكومات المتعاقبة في اهمال الريف العراقي، التي ادت الى افقار الفلاحين وافتقار مناطق الارياف الى المؤسسات التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية، فان عوامل جذب عديدة دفعت النازحين الى الهجرة الى المدن منها امكانيات العمل وارتفاع مستوى المعيشة النسبي وتواجد المصانع والمعامل والخدمات والمؤسسات الاجتماعية والصحية والثقافية والترفيهية وغيرها. كما كان تشكيل الجيش والشرطة العراقية وبدايات التطور الاقتصادي والتجاري والصناعي قد ساعد على ارتفاع الطلب على الايدي العاملة الرخيصة وغير الماهرة.
غير ان استيعاب هذه الاعداد الكبيرة من النازحين من الارياف أصبح عبئا ثقيلا على المدن، مما دفع الى نمو مناطق سكنية في ضواحي المدن وبخاصة في العاصمة بغداد أطلق عليها "الصرائف" التي بنيت من الطين والقصب والصفائح الحديدية. ومن تلك الاحياء السكنية الرثة انطلق النازحون الى العاصمة بغداد للبحث عن اي عمل كان، والانخراط في حياة المدينة شيئا فشيئا للعمل في الدوائر والخدمات وشركات البناء وفي البيوت وغيرها.
قبل قيام ثورة 14 تموز عام 1958، شكلت مناطق النزوح في العاصمة بغداد قوة ضغط اجتماعي، نبه النظام القائم وقتها الى تبعاتها السلبية وضرورة وضع حلول لها قبل أن تستشري. الا أن مجلس الاعمار في العهد الملكي لم يتمكن سوى من وضع مقترحات ورؤى عامة، بقيت حبيسة مكاتب صانعي القرار.
بعد قيام النظام الجمهوري في العراق، اهتمت حكومة عبد الكريم قاسم بمصير سكان الصرائف، ضمن رؤيا واسعة تتعامل مع أسباب ونتائج الهجرة الريفية الى بغداد والتي تتطلب التخفيف من صعوبات السكن والحياة في الصرائف أولا، عن طريق دمج المهاجرين في الحياة المدنية للعاصمة، ومحاولة وقف الهجرة من الريف الى المدن ثانيا، بسن القوانين المشجعة على العيش والعمل في الريف.
في الجانب الأول، قررت حكومة قاسم القضاء على الصرائف وبناء ضواحي جديدة على أطراف بغداد، حيث تسلم سكان الصرائف قطع ارض صغيرة وقروضا من البنك العقاري لبناء دور سكنية صغيرة لهم. وسرعان ما نمت مساكن شعبية عديدة على أطراف بغداد وامتلأت بكثافة سكانية عالية وتطورت الى مدن شعبية، كمدينة الثورة شرق بغداد ومدينة الشعلة شمالي بغداد وغيرها. وعلى الرغم من طموحات حكومة الثورة وقتها، الا أن هذه الاحياء بقيت بائسة وفقيرة، أهملتها جميع الحكومات التي توالت على إدارة العراق حتى يومنا هذا، ولم يشفع لها تغيير اسمها من الثورة الى صدام ثم الى الصدر.
أما بالنسبة للجانب الثاني من المشكلة والذي يتمثل بتوفير أساس قانوني يشجع على العيش والعمل في الريف، فبالرغم من صدور قانون الإصلاح الزراعي لعام 1959 الا أن نسبة المهاجرين لم تنخفض، نظرا للمقاومة الشرسة التي واجهها تنفيذ هذا القانون من قبل رجال الدين والاقطاعيين والقوى السياسية المتعكزة على هذه الشرائح، إضافة الى تحديات وصعوبات ادارية وتنظيمية واقتصادية حالت دون نجاحه وتحقيق غاياته، بزيادة الإنتاج الزراعي ورفع مستوى المعيشة في الريف، وصولا الى وقف موجات النزوح من الريف وخلق ممهدات الهجرة العكسية نحو مناطق الأرياف الزراعية.