اليسار العالمي ومئوية الشيوعي الصيني


رضي السماك
2021 / 7 / 10 - 18:21     

بقدر ما كان أحتفال الحزب الشيوعي الصيني بمئوية تأسيسه مهيباً، وإن وصفته بعض وكالات الأنباء الغربية باذخاً،بقدر ما تشكل هذه المناسبة التاريخية فرصة مهمة للشيوعيين الصينيين وشيوعيي العالم واليسار عامة لتقييم وتدارس مسيرة نضال هذا الحزب لا ينبغي تفويتها بحيث توضع على مشرحة التحليل العلمي الموضوعي بعيداً عن العواطف الذاتية، لا سيما أن هذه المناسبة تتزامن هذا العام مع مرور ثلاثة عقود على أنهيار الأتحادالسوفييتي،أول دولة أشتراكية في التاريخ، والتي كان يحكمها الحزب الشيوعي السوفييتي.
وكما نعرف فقد كان الحزب الشيوعي الروسي أسبق من نظيره الصيني في التأسيس، فالأول اُسس عام 1898 في حين اُسس الثاني في 1921، والأول أسبق أيضاً من الثاني في الوصول للسلطة، فقد أستلمها عام 1917، أي بعد 19 عاما من تأسيسه، بينما الثاني أستلمها عام 1949، أي بعد 28 عاماً من تأسيسه، والأول أستمر في الحكم نحو 74 عاماً، لكنه فقد القدرة على البقاء في السلطة بعد أن أعتراه الوهن، والثاني أكمل هذا العام 72 عاماً ومازال في أوج قوته من حيث إمساكه بالسلطة.
ولم تكن بأي حال من الأحوال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلدين عشية أستلام الشيوعيين السلطة متماثلة؛فقد كانت البنية الاجتماعية في الصين أشد تخلفا حتى بالرغم من تخلف قوى وأسلوب الأنتاج في روسيا وغلبة الطابع الإقطاعي الزراعي في البلدين. وهنا فإن السؤال الكبير الذي يفرض نفسه : لماذا تمكن الحزب الشيوعي الصيني من البقاء ليس في السلطة فحسب؛ بل وأن يحوّل الصين إلى دولة عظمى سياسياً واقتصادياً وصادرات منوجاتها تغزو كل أسواق العالم في حين فشل في ذلك الحزب الشيوعي السوفييتي الأقدم والأسبق في بناء الدولة الاشتراكية وتعد بلاده الأقوى أيضاً من حيث تنوع الموارد البشرية والطبيعية؟
إذا ما رجعنا للعوامل التي سيقت لتعليل أنهيار الأتحاد السوفييتي في المراجعات اليسارية لعلنا نتذكر منها: الفساد المزمن، وأنعدام الديمقراطية، وعدم مراعاة حقوق القوميات والحريات الدينية، ومع ذلك فإن الحزب الحاكم الصيني يتشارك مع الحزب الشيوعي السوفييتي في هذه العوامل بقدر وآخر، ما يحتم إذن البحث عن الديناميات التي مكنت الحزب الصيني من النهوض ومن ثم التحوّل إلى دولة جبارة يُشار إليها بالبنان باعتبارها ثاني اقتصاد في العالم. ومما لاشك فيه ثمة دور كبير لعبه أقدامها بكل جرأة على اقتصاد السوق، في حين نكف الأتحاد السوفييتي عن تطبيق هذا الخيار لإنقاذ الاقتصاد السوفييتي في الوقت المناسب قبل مرحلة الأحتضار والانهيار الجورباتشوفية، رغم أنه سبق أن جربها في سني الثورة الأولى وعُرفت ب "سياسة النيب" في حين تمكنت الدول الرأسمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من جر الدولة السوفييتية وأستنزافها في سباق التسلح وبخاصة خلال الحرب الباردة، عدا التدخلات العسكرية التي ورطت القيادة السوفييتية في سنوات عمرها الأخيرة نفسها فيها، وبخاصة أفغانستان.
لكن ثمة من يأخذ على الصين في المقابل بأنها قفزت في اقتصاد السوق قفزة كبرى بلا ضوابط، وهي غالباً ما تومئ لتبرير ذلك بأنها تبني أشتراكية ذات "خصائص صينية" دون أن تحدد بالضبط ما هي تلك الخصائص التي تتميز بها الصين عن سائر البلدان التي سبق أن حكمت بلدانها أحزاب شيوعية ومنها روسيا التي يُفترض أن الحزب الشيوعي أخذ خصائصها بعين الأعتبار، ومع ذلك لم يُوفق في الحفاظ على المكاسب الإشتراكية التي حققها لشعوبه السوفييتية ولا البقاء في السلطة! كما يأخذ البعض الآخر على اقتصاد السوق في الصين أنه أطلق الحرية لمجموعة من كبار الرأسماليين الذين جمعوا ثروات طائلة وأضحوا بها مليارديرية وأن ما ينتجونه من سلع كمالية ويصرفونه من بذخ يشكل أستفزازاً للطبقة العاملة في بلد لم يتخلص تماماً من الفقر على عكس ما تقوله الدعاية الرسمية .
صحيح أنه يحق للشيوعيين واليسار في العالم أن يبتهجوا لتمكن الشيوعيين الصينيين بالمحافظة على السلطة كقوة عظمى مناوئة للأمبريالية العالمية، وكذلك الحال في بضعة البلدان الإشتراكية التي مازالت عصية على الأنهيار، لكن ما لا ينبغي أن نغفل عنه أن الرفاق الصينيين قد أفرطوا في تطعيم سياسة بلادهم الخارجية بالبراجماتية التي تحرص بشدة في المقام الأول المحافظة على مصالحها في علاقتها مع الدول التي تربطها بها علاقات قبل أي أعتبار آخر، وهي بذلك نأت بنفسها (كلياً تقريباً) عن أن تمد جسوراً مع القوى والحركات اليسارية والديمقراطية أو دعمها في الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية ما دامت تربطها بالصين علاقات وطيدة، في حين كان ينبغي المحافظة على قدر أدنى من العلاقة الحذرة على الأقل مع تلك القوى دون الأصطدام بالضرورة رسمياً مع تلك الدول، وهذا ما يُحسب لمواقف الأتحاد السوفييتي الذي رغم ما واجهه من أزمات في كثير من الأحيان مع الدول الدكتاتورية بسبب بطشها بالحركات المعارضة اليسارية إلا أنه لم ينحِ البعد الأيديولوجي الاُممي في علاقاته الحزبية بها، وإن لم يكن موفقا في بعض مواقفه في دعم حكم اليسار على نحو ما جرى في دعم الأنقلاب العسكري في أفغانستان 1978.
وفي تقديرنا أنه بناء على المتغيرات الكبيرة التي شهدها العالم خلال العقود الثلاثة الماضية والتي أفضت إلى بزوغ وعي الكثير من شعوب العالم بأهمية الديمقراطية في الحكم ونهوض حركاتها السياسية المطالبة بتحقيقها، فإنه لا يمكن للشيوعيين اليوم أن يطالبوا أو يروجوا لبناء إشتراكية وفق الصيغة السابقة التي تمت في الأتحاد السوفييتي وبلدان المنظومة الاشتراكية؛ ألا هي صيغة الحزب الحاكم الوحيد باعتبارها داء أنهيارها، فمثل هذه الصيغة ستؤدي حتماً إلى تنامي الأستبداد والفساد داخل الحزب الحاكم نفسه؛ فضلاً عن المجتمع، ومن ثم لا يمكن أن تتحقق إشتراكية المستقبل إلا في ظل دولة ديمقراطية تأخذ بالتعددية السياسية، والفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكذلك كفالة الحريات العامة دستوريا، ومنها حرية الصحافة وانشاء الأحزاب، والحق في تداول السلطة بالانتخاب. إن الوصول لبناء دولة كهذه ستشكل الضمانة بأطلاق المباراة التنافسية السياسية الحرة للحزب الشيوعي مع الأحزاب الأخرى في تميزه عنها، بل ويمكنه أن يحشد الجماهير من خلفه لتبني صيغة من الديمقراطية العادلة أرقى وأسمى من الديمقراطيات الرأسمالية في المساواة والعدالة الاجتماعية في ظل التعددية ذاتها . وهذا التحدي هو الذي يواجه مستقبل الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب الشيوعية الأخرى عاجلاً أم آجلاً مهما حققت من نجاحات راهنة .
إن الديمقراطية هي سمة عصرنا ومجتمعنا الدولي المتحضر الذي يجب أن يناضل من أجلها الشيوعيون واليسار العالمي، ولا ينبغي لهم التراجع إلى الوراء أو أن يقعوا في أزدواجية بين ما كانوا ينادون به في مراجعاتهم الفكرية غداة أنهيار الأتحاد السوفييتي وبين التغاضي عن مخاطر تغييبها في التجارب الاشتراكية التي مازالت قائمة أو التحرج بالسكوت عما ينتجه هذا التغييب من مثالب منافية للديمقراطية والشفافية وحقوق الإنسان، ففي أجواء الديمقراطية الحقة يمكن تطوير ليس الفكر الاشتراكي ونشره بين أوسع فئات الجماهير فحسب، بل ودمقرطة الحزب ومنع الفساد والاستبداد داخله، وفي مثل هذه البيئة الصحية من الممارسة الديمقراطية يمكن زرع قيمة الاشتراكية في عقول وأفئدة الناس والاعتماد عليهم في حمايتها وضمان تكرار انتخابهم للشيوعيين، أو يتيح لحزبهم التعرف على بواطن الخلل سواء في برنامج حكمه أو في علاقاته مع الناس في حال فشله انتخابياً.