العودة لتجربة الإيمان


عباس علي العلي
2021 / 7 / 10 - 08:49     

لست مهتما تماما بالتهمة الجديدة القديمة التي ألصقها البعض بي ولي كملحد، أو في أحسن الألفاظ خارج عن ظاهرة التدين ومنحاز لفكرة اللا دين أو التحرر من عبودية الواقع الديني، أحيانا أشعر وأنا أكتب في محاولات جادة وأصيلة لما أدعوه بنقد الفكر الديني كفكر إنساني قابل للامتحان والبرهنة كما هو قابل للتفكيك وإعادة البناء الفهمي له، أني فعلا أقترب من ظاهرة الإلحاد مع إيماني الحقيقي بالكثير من مفردات الدين ومفاهيمه.
أشعر أحيانا أنني أعيش فترة الرسالات في عصر نزولها أو في وقت التبشير، وأتحسس خطوات النص وهي تعبر من الأنبياء والرسل لتصل محلها الأسمى وهو العقل الإنساني الرشيد، ألاحظ وأنا أتابع هذه الحكرة الجوهرية المتبادلة بين الإنسان والرب الراسل أو الباعث، أن العقل يحاول وبكل جد أن يتملص من بعض القضايا والمفاهيم والأفكار الدينية، ليس لأنه غير قادر على الاستيعاب أو رافض أصل الفكرة بقدر ما يعلن أحيانا أستقلاليته الذاتية من الخضوع لهذا الكم الجديد من الأفكار اللا ممتحنة، بل لأن العقل أيضا في جزء منه محكوم في جزء من فاعليته لمنظومة مؤثرة وضاغطة بمشاعر وأحاسيس وعقل جوهري باطن، يحاول أن يتصدى للعقل الجامع أو العقل الإنساني المجرد في أن يتعامل مع فكرة الدين بهذا التعقل الإيجابي السريع.
أكتشفت أيضا أن العقل في الإنسان ليس عقلا واحدا موحدا بل هو مجموعة عقول ملونة وأحيانا تكون غير متسقة ولا منتظمة بنمطية واحدة، فقد تتصارع فيما بينها على السيادة والظهور وحتى التجلي في السلوك الإنساني الطبيعي، هناك العقل الماضوي الذي ترتبط كل مؤشراته ودلائله بالزمن الذي ولد فيه أو الذي عاصره، وهو من القوة بمكان أن يجاهر دوما بكرهه للزمن حين يتحرك للأمام، كما وجدت أن هناك عقل متمرد لا يؤمن بحقيقة الماضي ولا ينسجم معه بالرغم من أنه هو وليد ذلك التوقيت، ولكن وليد معاكس من أتجاه مخالف قد يكون ارتداديا في سيرة مع العقل الماضوي.
مما لاحظته أيضا في دراستي لظاهرة التعقل وأسباب تغير وتبدل المفاهيم والرؤى وشيوع ظاهرة التوقف أو التحجر عند بعض بني الإنسان، أن هناك جزء من هذه المنظومة العقلية المركبة من عقول متفاوتة في أوصافها وأحجامها، توجد فئة نادرة منها تتغلب على التسليم بالقبول بالممكن والطبيعي والواقعي، وترى هذه العقول أن بعض مما موجود مجرد عبيد في سجن الجسد المادي، فتختار لها طريقا أخر طريق التعري من لبوس العقلانية لتتحول إلى سفراء في الزمن القادم، قد يكونوا سفراء للجمال أو للعلم وحتى للإنسانية التي هي في مطلقها هدف ديني، هؤلاء منهم العباقرة والمبدعون والفلاسفة وإن كانوا أقلية إلا أنهم وحدهم من يصنع الشبابيك في عالم وجودية الإنسان وتحرره من ربقة القيد المسمى الواقع والممكن والمأمول.
يشكو الكثير من تناقض العقل مع الواقع وبالحقيقة التي لا تقال علنا أنه مندمج معه حد الذوبان به، هذا نمط أخر من العالم الذي أكتشفه يوميا وأتردد في فضحه أو محاربته إلا من خلال ما يمكنه أن يندفع لإكتشاف حاله، هنا تحولت عندي الكتابة إلى ما يشبه الدين الجديد في كل شيء في القيم والفروض والأحكام، حتى تحولت ككاتب إلى متعبد في عالمي الذي قد يكون يشكو من جنون عقلي، عقلي الذي يرفض الواقع ويحاول أن يرفسه بالقدم وبقوة، أكتشف في لحظات أني لا أملك إلا أصابعي وعيوني التي هما المجري من وإلى عقلي، فأخدع نفسي بأن الواقع سيموت يوما ما لأنه كائن زمني غير مناسب أو أن صلاحيته أنتهت في زمن مضى، حاولت أن أتعايش مع حقيقة أن العقل سوف ينتصر وأجريت في عقلي كل المعادلات الحسابية المطلوبة، فقد تجلى لي أنني أحتاج لألف عمر فوق عمري لأشهد هدفي الكبير فوق منصة التتويج.
أحيانا أقول إنني مجرد حلم مجهول في عالم مجهول من صانع مجهول وأيضا لهدف مجهول، وكل ذلك لأنني أجهل حقيقة ما سيكون لو أني لم أولد أصلا أو لم أعي ذاتي وأعي وعي بالذات التي هي الوجود من حولي، جريمة الواقع معي هي مأساة كل إنسان صنعه الوهم وهو ساهم في تسليح الوعي بكل أدوات وعيه، قرأ وكتب وأستمع وتبصر وتأمل وتفكر، حتى ظن أن الجنون أعلى درجات العقل حين يكون الجنون خلاصة الواقع.
هكذا تعرفت على الدين في حياتي ثلاث مرات وهكذا مارست جنوني مع كل مرة أكتشف أن الدين ليس الله والكتاب فقط والصلاة والجنة والنار، الدين في معرفتي الأخيرة به هو رفض لكل المسميات الوجودية التي خلقها الإنسان وحاول أستبدال تلك الحقيقية في محاولة منه لتمثيل دور الرب، أكتشف أن البشر الفرد أو البشر جنس عاقل لا يمكن أن يكون ربا فصار إله يشتغل عند الرب، لذا فلا بد لي أن أختار واحدا من هؤلاء الثلاثة ولأني مجنون بعت الألهة كلها في سوق الرب، وتأمرت مع الله على أن أستدرجهم لسوق النخاسة لأبيعهم برغيف خبز لفقير.
هكذا تحولت لملحد لكل الآلهة وجميع الأرباب وصرت ملحدا أيضا بهم بعد أن تحلوا إلى هشيم تذروه الرياح، فكرتي النهائية هي ملخص لحقيقة أن الإنسان الطبيعي ملحد أصيل ثم يتحول للإيمان وهذه هي وظيفته وليبس له أن يكون مؤمنا فيلحد أو يبقى مؤمنا للأبد لأنه عطل ما في رأسه وركب الأنا، كل الملحدين الجيدين هم في الحقيقة مؤمنون جيدون لو أرادوا أن ينفتحوا على عالم الله، هكذا كنت ملحدا صغيرا فمؤمنا أصغر وأتهيأ لأكون ملحدا ممتازا عقلانيا لأكون متدينا مؤمنا عقلانيا لا يخدعه ثوب القداسة ولا تهزه تلك الشتائم التي ينسبونها لله الجميل.
يولد الإنسان وبالظاهر أنه جاهل وغير متعلم وأكيد بعد ذلك ليس مؤمنا ثم يتحول، مع التجربة سيكون متعلما وربما عالما وعاقلا بعد أن كان ليس قادرا على التمييز بين المعقولات والا معقولات، بالتجربة سيتعلم ما يمكن أن يضعه في خانة الإيمان لأن الأصل في الأشياء براءتها من المكتسب الطبيعي حتى يناله، الإنسان في أول وجوده كان ملحدا بالفطرة وجاهلا بالفطرة وغير عاقل بالفطرة، وحدها التجربة التي يخوضها العقل المحتك بالواقع من يقوده لأن يتعلم ويفكر ويؤمن ثم يظهر ذلك كله للناس.
الأن أنا معكم لست ملحدا طبيعيا فطريا وقد أتحول في لحظة جنون عاقل إلى ملحد مجنون بعقله وتجربته لأكتشف أن لله طرقا كثيرة ودروب، قد ضيعها أسلافي المؤمنين لأنهم لا يرتدون النظارات الطبية المكبرة التي أرتديها الأن، سأكتشف مع إلحادي الجديد العاقل لذة التجريب التي أمرنا الله بها، لذة الإلحاد العاقل الذي يبني في العقل نظاما متعدد الأتجاهات والتوجهات لكنها جميعا تتميز بوحدة منطقية تضع كل شيء تحت يد الناقد العلمي الذي يمارس نقده بكل جرأة، ليس على الله طبعا ولكن على ما ينسب له أنه بعض ما يريد.
نعم أنا الآن في هذه اللحظة من الوعي المتقدم أنكر أن أكون أمامك مؤمنا جيدا ولا أستطيع أيضا أن أقبل أن يصفني البعض بالكافر، لكن أتسامح مع من يصفني بالملحد فقط لأنني أشجعه على التحول والتغير الإيجابي الناقد كما فعل الله بالرسل من قبل، الكفر هو أن تعرف الشيء تماما وتنكره لأنك لا ترضى أن تكون عاقلا، الكفر أيها السيدات والسادة نوع من الخبل النفسي المتوهم أنه الضد من الله، وليس من نوع الجنون العاقل الذي يريد أن يجعل منطق الأشياء مساوي لكلمة حق واجب أو واجب حق، بمعنى أن الجنون هو أن تدع عقلك يخرج عن طوره ويحرر وجوده المر المنحرف، فلا يكفي للإنسان أن يتحرر من الأغلال والقيود المادية ما لم يتحرر عقله وبقوة ويمنحه العذر والتبرير ويشجعه على السباحة في الفضاء الغامض، فضاء الخيال المليء بالدهشة واللا معقول.
المؤمن الجيد هو المؤمن صاحب التجربة المؤلمة التي لا تبقيه ساكنا ولا تدعه في مكانه ثابتا، الرسل والأنبياء والمصلحين والمفكرين كلهم نتاج معاناة ونتاج تحولات عقلية كبرى قادتهم للإلحاد بالدين والأفكار المتسيدة حتى وإن كانت تلاقي قبولا جمعيا غالبا، فليس كل مقبول عاقل وليس كل معقول قابل لأن يكون هدفا يجب التضحية والنضال من أجله، خاصة مع تراكم الفشل التاريخي بالمقبول والمعقول الراهن.
قد لا أدعو للإيمان بشيء وليس من حقي أن أكون نبيا ولا مبشرا بدين جديد، ولكن من واجبي الكوني أن أكون كما أريد نبيا ومرشدا ووليا وربما صديق لعقلي ومنحاز لتلك الصداقة، كذلك من واجبي أن أطرح تجربتي كما هي على شكل صورة صادقة للجمهور ليشاهدها كما يشاهد الأف الصور المتناقضة والمتصالحة يوميا دون أن يجبر أن يتحول أو يمتنع، هذا شأنه وشأن الأنبياء أما المجانين فقط من حقهم أن يكونوا حكماء بالقدر الذي تصنعه المأساة الوجودية.
أكرر دوما أنني لست ملحدا ولا مؤمنا ولا أستطيع أن أحدد موقعي بالضبط بينهما لأنني لا أرى فيهما إلا ما أريده أنا، لا أهتم بالمخططات التي يضعها الواقع ويصنعها غيري لنفسه، أنا فقط مع الله وهو معي وكلانا مع بعض نريد أن نقتسم العالم بيني وبينه وفقا لقانون بسيط جدا ولكنه عميق بالقدر الذي لا يوصف، كل شيء ممكن أن يتحول ويتبدل ويستمر بالتطور إلا أن يكون الإنسان واثقا من أنه سيتحول في لحظ إلى ما يشبه أسرا للزمن ومستوليا على قوته التي إلى أمام.
الزمن هو الوعي والوعي هو أن تدرك كم يتحرك هذا الوجود بالزمن، معادلة سهلة وبسيطة وأيضا تمثل لي كيف يمكن أن أحدد المسافة بيني وبين العقل من جهة والدين أي زاوية الله من جهة أخرى، مفاهيمي لا تبدو لي غريبة عن وجع الإنسان ولا عن مرارة المأساة، ولكن الغريب في الأمر أن هذا الوجه وكم الأمل لم يحرك البعض عن مكمنهما الطبيعي لعله يجد على النار هدى أو يتخذ من تشكيلة النجوم في السماء دليل لرحلة تقيه من الشعور بالعجز والذل ومداراة الألم.
لست ملحدا بالله لكن من المؤكد ومنذ زمن عدت لإلحادي الطبيعي وبدأت أعيد تجربة الإيمان ولكن من طريق أخر وباب مختلف ومنهج لا يمكنه أن يخدعني ويقول أن الله قال وأنا لم أسمع المقولة بأذني ولم أشاهدها ممهورة بختم رب الأرباب، يمكنكم الآن فقط أن تتهمنني بالجنون وأنا سعيد أو تتهمونني بالإلحاد وأنا مقتنع تماما أنكم في يوم من الأيام ستلحدون أو ترحلون أنتم أما واهمين أو عاجزين أن تنالوا رضا الله.