ما هو المطلوب من الفلسفة في عصر الرقميات


عباس علي العلي
2021 / 7 / 7 - 01:57     

ليس المطلوب من الفلسفة أن تكون الحل السحري الذي يحتوي ويحيط بكل المشكلات الإنسانية , بل أن واجب الفلسفة التقليدي ليس هو هذا ,هناك الكثيرون من الذين ينادون بموت الفلسفة في العصر الراهن يبنون مقولاتهم على عدم قدرة الفلسفة على أن تكون مصباح علاء الدين السحري بل كثيرا منهم ينسب للفلسفة كل الإشكاليات التي صنعتها خيبة الإنسان وتخلفه عن أداء واجبه ووظيفته الأساسية باعتبار أن الفلسفة لديها كل الحلول ,هذا حمق ما بعده حمق.
الفلسفة الطريق المستقيم الذي يخطوه العقل نحو استكشاف الحل , لا ولن يكون بديلا عن البحث والتجربة والتأمل والبرهان لأنها ببساطة أي الفلسفة هي من إبداعات العقل البشري وليست كيان منفصل عنه ,صحيح أن الفلسفة ترسم الطريق الأفضل ولكن أيضا أن العقل أحيانا تشتبه عليه الطرق إن لم يعد جيدا وفق وقواعد وأصول منطقية تساعده على الاستدلال والفرز والتقرير ,الذي يسلك الطريق المستقيم يصل بالنتائج حتما بأقصر وأمتن الطرق وبأقل التكاليف لأنها بصراحة هي الأقرب بين نقطة البداية ونقطة الهدف ,عليه أولا تحديد هاتين النقطتين ليعلم أنهما مطابقتان للصراط من عدمه ,هذه هي من الإشكاليات الكبرى على العقل البشري.
كما نريد من الفلسفة أن تبلغ بنا الغايات الكمالية النسبية في التفكير وإبداع الحلول علينا أيضا أن نفكر بذات المنطق وهو أن نفكر بكمالية, ليس من المعقول أن تسند الفلسفة لمن لا يؤمن بها وليس له مران تكويني وتكتيكي في عملياته العقلانية ,أي أن التفلسف كوظيفة أو نشاط فكري ليس حكرا على البعض ممن درس الفلسفة كما أنها ليست مشاعا لكل من أراد التفكير ,التفلسف قدرة عقلية لها شروطها ومقدماتها المرتبطة بالمعطيات التكوينية ,وبالتالي لا يمكن أن يصبح الجميع متفلسفين ,ولا يؤمل من الجميع أن ينتجوا فلسفة ,المسألة تتعلق بمعايير وأطر وديناميكيات أولية.
المطلوب اليوم من الفلسفة شيئان سبق وأن حددنا الماهية وهما أولا الانتفاض على الواقع الفكري والسلفية المقيتة التي طبعت غالب التراث الفلسفي وما بني عليه من نظريات ورؤى وإرهاصات ,وثانيا التخلص من الثوب الملوكي الأرستقراطي الذي كثيرا ما تباهى به الفلاسفة أمام عامة الشعب, على الفلسفة أن تحمل روح العصر بيد وبالأخرى تحمل قضية الإنسان بتوازن دون أخلال هنا يمكننا أن نأمل منها حلول متوافقة مع أس المشكلة وهو التخلف وبذات الوقت لا تحمل الإنسان ما لا يطيق.
الكلام لإجمالي والعام لا ينطبق مع مذهب الفلسفة في الفروض الفلسفية ولا يمكن البناء عليه, أولا علينا أن نحصر نقطة البداية ونحدها بالحدود التي عليها أن تتداركها بكل وضوح دون أن نخشى منها عراقيل أو تداعيات تطيح بأملنا بالوصول للنقطة الغائية التي يجب أيضا أن تحدد بكل وضوح وجدية وتجرد ,لا هدف واضح بدون خطة واضحة ومنهج مناسب ونقطة بداية بينة ,كما لا يمكن الابتداء من اللا هدف حتى لو استخدمنا أرقى التقنيات المنهجية بأفضل أداء تكتيكي, وحدة الهدف مع البداية هي البديهية التي بعدها يمكن أختيار البرنامج والمنهج التكتيكي الملائم للتنفيذ , القاعدة العقلية الفلسفية هي أن تعرف أي الطريق وحدوده ثم عليك أن تختار الأقصر والأفضل والأسرع من الطرق للربط بينهما وصولا لتحقيق ماهية الحل الواصل بينهما , التخطيط جزء من هذه القاعدة والتناسب بين الممكنات والعزائم العقلية تتجلى عندما نعرف أين يمكن أن نستخدمهما كل مع ظرف الواقع الموضوعي.
عندما يجهز العقل بهذه المقدمات والمعطيات يمكننا أن نسأل الفلسفة ماذا نريد بل بماذا تقترح علينا أن نفعل, القواعد الفلسفية والمقولات تستخدم هنا كدلائل الطريق تبين لنا الحدود والمديات والعلامات الفارقة والمفرقة ,تذهب بنا حيث يجب أن يكون الطريق ,الفلسفة تصبح فرض واجب لا يقدر لنا أن نخرج الروح الفلسفية منها أي من موضوع الإشكالية التي تبحث بها, لأننا أمام أمتحان جدي للعقل وأمتحان يراد منه على الأقل تحديد الدرجة الفائقة القريبة من التمامية وهذا ما يمنح الفلسفة الحق بالتدخل , لأن بلوغ هذه الدرجة لا تتم بالتعقل الأعتيادي الطبيعي , نحتاج لمنهج صارم جاد متجرد ومنضبط وعميق وذو مصداقية يمكن الوثوق به تماما.
هذا على المستوى التكتيكي وقد بينا من قبل المستوى العقلي وبين هذه المستويات تتجلى قيمة ما نريده من الفلسفة ,وبه تتجلى قيمة المنتج الفلسفي ,قد لا نوفق بسبب ما أو لعلة أخرى أن نصل مباشرة للهدف قد نقف في نقطة ما على الطريق أو تظهر لنا إشكالية مرتبطة بذات الإشكالية الأم وعلينا حسمها للتواصل بين البداية والنتيجة التي نسعى لها ,طالما أننا في نفس الخط وبذات والوسائل والمناهج وعلى مستوى ترابط البداية مع الهدف يحب علينا أن لا نخشى الفشل لأننا في الطريق الصحيح , من ميزات العقل المنتج هو التوقف عند الإشكاليات دون أقتحام الوهم أو التبرير الخيالي ,العقل السليم يقف ويقف كثيرا عندها لكنه لا يمنح حلول ناقصة يمكن أن ينتقص من أهمية منتجه ولكنه أبدا لا يغالي في تقدير النتائج الحقيقة.
هذه المفاهيم ليست جديدة على الفكر الفلسفي ولا هي من مبتكراتي الشخصية أبدا ولكن أحببت أن أقدم بها لموضوع ماذا نتأمل أن تعطينا الفلسفة ,قد يقنع المتفلسف المهني الذي يراع ويرى في تفاعله مع الموضوع أنه يؤدي واجب تقليدي له ,أن تبني هذا الموقف يشكل أداء حقيقي لرسالته وواجبه العقلي تقليديا ,وقد يكون محقا في ما ترتكز عليه الفلسفة التقليدية من مفاهيم , في عالمنا الجديد لا بد أن تسود به صيغة أخرى وفهم أخر للفلسفة كي يبدو فيه هذا الطرح غير كامل وغير مهم بالمرة ,الفلسفة في عالم ما بعد الفلسفة عليها أن تكون الرائدة في أستباق الزمن وربطة بسلسة من القراءات التي ترسم ملامح الغد قبل ولادته , وأن تكون الحامي الحقيقي الإيجابي المدافع عن حق الوجود الإنساني , وهذا لا يتم بالجلوس خلف المكاتب وقراءة أفلاطونيات وكلاسيكيات عالم الفلسفة القديم ,المطلوب اليوم أن نجعل العقل الفلسفي يعيش في الغد قبل أن يولد الغد بيوم.
لكن يبقى السؤال الأهم كيف ننتقل بالفلسفة من عالمها الحاد والحيادي إلى عالم لم يولد يعد ولم تتبين ملامحه بالشكل الذي يجعل من خطواتنا نحوه خطوات حقيقية وجادة وقد لا أكون متشائما للحد الذي لا يمكنني تلمس الطريق إلى ذلك ,أقول أن الفكر التقني النانوي والحساس جدا للمتغيرات الذوقية والمنساق كليا لطور المصغرات متعددة الوظائف والخارقة لحدود المعقولية وفق قياسات كم قليل من السنين يشكل صورة تساعد العقل الفلسفي على الانتقال للعالم المنشود عالم فلسفته تعتمد على التسابق والرشاقة وتعدد المهام واختراق حدود المعقولية ,عالم ينطلق كل شيء فيه بتعجيل رهيب لا ينتظر التصحيح وإعادة البرمجة ومن ثم خسارة زمن وفرصة للتطور ,وهذه نقطة مهمة في عالم التغيير إن لم تكن قادرا على التعجيل بالتصحيح أترك النموذج وحاول بنموذج أو موضوع أخر على أن لا تعود إلى نفس خط الآلية الذي أنتج الموضوع السابق أو أفضى له.
عالم الفلسفة البعدية يتميز بديناميكية وحركية تصطبغ بصباغ الزمن وتلائم معطيات الحركة الوجودية فيه وتتناسب مع التعجيل الحركي الذي هو السمة الرئيسية لعالم ما بعد بَعَدَ الحداثة ,وبما أن الفكر عموما هو انعكاس لخصائص وصفات وآليات الحركة للزمان مقرون بالواقع بشقيه المعرفي أولا والمكاني ,فلابد أذن أن نقول أن الفلسفة البعدية فلسفة متسارعة متبدلة غير مستقرة على صورة متكاملة من الأوصاف إلا ما يتناسب مع الواقع الوجودي, لا يمكن حصر الموضوعات فيها ولا تحديد مدى أو أفق نحصر فيه أهتماماتها ,كما أن من مميزاتها غياب التقليدية التي طغت على أسس التفكير فيها والذي رافق نشأة الفلسفة وحتى يومنا الحاضر, هنا أمكننا أن نعطي صورة ومخطط لعموم وجه هذه الفلسفة ويمكن أن نتتبع هذه الدلائل لنصيغ منها فكرة عن كيفية التلاؤم العقلي مع هذه الصورة الغرض منها تحويل العقل نحو وجهة جديدة دون هجر الفلسفة التقليدية التي عشنا فيها والتي لا بد أن تقود إن كانت حقيقية ومميزة بتحسسها إلى هذه النتيجة.
هل تستطيع الفلسفة ألآن تنتقل بكامل واقعها الفكري والتقليدي نحو عالم التسارع بدون أن تخسر خصيصتها التي عرفت بها وأقصد الرزانة والمظهر المتعالي ودقة و حدة المصطلح والفكرة عدم هشاشة البناء الفكري المقيد بمنطق جاف ,نعم أقولها وبالممكن حتى في عالم الفكر الرقمي كمنتج اليوم يحرك ويسير كل تفاصيل العجلة الكونية هناك نقاط تشابه ومطابقة مع قوانين الفلسفة وجفاف موضوعاتها لكنه تحرك في أطار روح العصر وكيف ما يمكن تكيفيه مع المستحق الواجب وتخلص من قمقمية القالب المتقيد إلى وضعية التوافق المرن ,وكلا الفكرين الرقمي والفلسفي بإمكانهما التحرك سويا وبنفس الحالية.