النظرية الماركسية: الحركات الشيوعية امام مفرق طرق/ اما تجديد فكرها وبرامجها ونقد تجربتها التاريخية او تنهي وجودها!!


نبيل عودة
2021 / 7 / 6 - 20:23     

يمكن القول بدون تردد ان التجربة الشيوعية العربية فشلت فشلا مضاعفا عن الفشل الذي أصاب الحركة الشيوعية الدولية، لسبب بسيط انها لم تنجح بتجديد افكارها، وصياغة برامج تناسب واقعها الاجتماعي والسياسي. حتى ضمن تيار عبر عنه بعض المثقفين الشيوعيين، عبر مراجعات نقدية لمناهج الأحزاب الشيوعية في العديد من المفاهيم الجوهرية حول مختلف القضايا الفكرية والتطبيقية، من اجل تجديد فكرها مع الواقع الجديد لعالمنا بعد فشل التجربة الاشتراكية. الا ان الأمر لم يسفر عن شيء ملموس، مجرد اتهامهم بالخيانة لأحزابهم الشيوعية.

يمكن القول ان الفشل كان أيضا نتيجة الجوهر الأيديولوجي الذي انغلق على رؤية ماركسية لم تعد تلائم التطورات المعاصرة في المجتمع الإنساني بكل مناحيه الفكرية والاجتماعية والسياسية والإنتاجية والحقوقية، الذي جرى خاصة بالدول الرأسمالية منذ منتصف القرن العشرين. والذي لا يمكن عدم رؤية الكثير من ايجابياته بخصوص حماية حقوق الانسان تبني نظام ديموقراطي، حق التعددية الفكرية والدينية، توفير ضمانات للتقاعد وللعلاج الصحي، توفير الدخل المناسب بسن الشيخوخة، وتعدد الخدمات التي تحافظ على كرامة الانسان، وتحقيق الانتصار الاقتصادي بالمنافسة مع النظام الاشتراكي. اذ بلغت الفجوة أربعة اضعاف على الأقل لصالح الاقتصاد الرأسمالي.

المأساة الأكثر عمقا ان الأحزاب الشيوعية العربية لم تتجرأ بعد على انتقاد تجربتها التاريخية، ويجري اخفاء الكثير من المواقف التي لا تشرف هذه الأحزاب، ومنها على سبيل المثال موقف قادة الشيوعيين الفلسطينيين بعد النكبة الفلسطينية واقامة دولة اسرائيل، بخطابات ومواقف مخجلة بجوهرها، بل اتجرأ وأقول خيانية بمضمونها، بالدفاع عن الدولة الصهيونية الناشئة وكأنها جمهورية سوفييتية جديدة. دون انتقاد التشريد والمجازر وهدم البلدات الفلسطينية. وحتى اليوم عندما اقرا خطابات أولئك القادة الذين دعوا ابناء النكبة الفلسطينية الباقين في وطنهم ومعظمهم لاجئين هجروا من قراهم، وخسروا وطنهم وارضهم وشردت عائلاتهم ودمرت 540 بلدة من بلداتهم وهجر أكثر من مليون مواطن، وجرت عمليات تطهير عرقي بدم بارد ضد الالاف وعمليات اغتصاب وقتل بأساليب لا تخجل اي نظام فاشي، بأنهم سيقفون دفاعا عن حق اسرائيل الصهيونية بتقرير المصير والاستقلال كدولة الشعب اليهودي. بل ويعلنون ان الجماهير العربية المنكوبة ستحمل السلاح دفاعا عن حق اسرائيل والشعب اليهودي بتقرير المصير بدولة مستقلة، طبعا بتجاهل ان إقامة إسرائيل تمت على حساب نكبة الشعب الفلسطيني شعبهم. متجاهلين ان بلداتهم أيضا تعرضت لعمليات عسكرية لدفع المواطنين الى الهرب من الموت الى الدول العربية المجاورة، وحيفا نموذجا حيث قصفت رغم اتفاق الاستسلام وخلوها من أي فريق مسلح فقصف السوق المكتظ بالسكان وبدأت عملية هروب واسعة، ومن 70,000 فلسطيني بقي في حيفا 3,566 فلسطيني فقط. فهل سيحملون السلاح دفاعا عن جزاريهم يا رفاقنا الشيوعيين؟ وهل سيلبون دعواتكم للاحتفال بأعياد استقلال إسرائيل، ويرقصون وينشدون بحياة من شرد شعبهم وهدم قراهم وارتكب عمليات تطهير عرقي ضد شعبهم كما كشف ذلك المؤرخ اليهودي الشجاع الين بابه بكتابه المذهل "التطهير العرقي في فلسطين"!
الأدهى لا كلمة واحدة تدين الجرائم وتطالب بتنفيذ قرار التقسيم الذي اقرته الأمم المتحدة وعودة المشردين لبلداتهم. نقرا اعلانات تدعو للاحتفال بعيد استقلال اسرائيل يتكلم فيها قادة شيوعيين فلسطينيين والحديث عن السنوات الأولى لإقامة اسرائيل على خرائب ودماء الشعب الفلسطيني الذي ترك وطنه هربا من جرائم القتل، والمقيم بالخيام في الدول العربية المحيطة بوطنه فلسطين.
فهل الدعوة لمراجعة التاريخ ونقد التجربة ونقد سياسة الاتحاد السوفييتي بوقته بفترة ستالين، الذي زود جزاري الشعب الفلسطيني بالسلاح والمقاتلين والمدربين اليس خيانة للفكر الشيوعي وللماركسية تحديدا؟!
طبعا مواقف القيادات الشيوعية العربية كانت تمشيا مع الموقف السوفييتي للرفيق السفاح ضد شعبة ستالين. وتلك الخطابات كما هو واضح لم تنشر باللغة العربية بل بالعبرية بصحيفة الحزب الشيوعي اليهودي الصهيوني. وإذا اضطرني المنكرين والشاتمين سأنشر ما لدي من خطابات ووثائق مذهلة بمستواها المتماثل مع مرتكبي المجازر والتشريد والهدم ضد شعبهم. لا يمكن ان يستوعب أي انسان عاقل ان تصدر خطابات التأييد لدولة إسرائيل ولما نفذته من عمليات تشريد وهدم وتطهير عرقي، عن اشخاص يحترمون فكرهم الماركسي وانسانيتهم عامة.
من هنا لا بد من نقد هذا التاريخ وهذه التجربة وتصحيح المسار بعدم تبرير المواقف بصياغات لا تليق بمن يحمل فكرا ثوريا لبناء عالم جديد يحترم حقوق الانسان بلا تمييز. هل يمكن ان يواصل اي مثقف يحترم حقوق الانسان، ويرفض جرائم التطهير العرقي ضد اي شعب في كرتنا الأرضية، التماثل مع هذه القيم الشيوعية المريضة والمجرمة ايضا بحق شعبنا الفلسطيني في ذلك الوقت؟

السؤال الجوهري هنا، هل يمكن قبول استمرار الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي انشق عنه ممثلي التيار الصهيوني، الصمت وعدم مراجعة نهجه الفكري والسياسي ونقد الخطأ التاريخي والسياسي الرهيب الذي انجر اليه بقلة عقل لا شيء شيوعي فيه؟

لا اظن ان هذا الخطأ الاجرامي لا يمكن ان يشطب ويتواصل التستر عليه. من واجب الحزب الشيوعي في اسرائيل، وسائر أحزاب الحركة الشيوعية، نقد تجربتهم واسباب الانجرار وراء موقف اجرامي للنظام السوفييتي في ذلك الوقت تحت قيادة ستالين. ونقد دور الرفاق الصهاينة (إذا صح تسميتهم رفاق) بما انجزوه لتعميق نكبة الشعب الفلسطيني. ربما هذا الأمر يكون تنظيفا للحزب اليوم من تاريخ لا شرف ولا كرامة فيه.

اظن هذا الواقع شمل كل الحركة الشيوعية العربية، ولا افهم استمرار صمتها الا بكونه تغطية على عارهم ودورهم بنكبة الشعب الفلسطيني. طبعا لا ابرئ الحركة الشيوعية العالمية بصمتها ودعمها للحركة الصهيوني بتنفيذ النكبة ضد الشعب الفلسطيني.

انا شخصيا لا ارى مستقبلا للأحزاب الشيوعية العربية والأجنبية ونحن شهود لتفكك هذه الحركة، لكن يمكن ان تستعيد بعض ادوارها بنقد تجربتها، التي قد تفتح لها المجال لإعادة صياغة رؤية سياسية وفكرية بالظروف الجديدة التي قلبت كل المفاهيم القديمة للماركسية ايضا، خاصة بموضوع التطور الاقتصادي والديموقراطية.

لا بد من نهج جديد يخرج هذه الحركة التاريخية من كهفها ومن عصبيتها البارزة في التعامل مع الانتقاد الذي يوجه لسياستها ومناهجها التي اضحت أقرب لفكر ديني اصولي مغلق.

حان الوقت لتُطرح في هذا الظرف الحرج الذي شهد انهيار التجربة الاشتراكية، نتيجة تراكم الاخطاء وعدم وجود القدرة على التحرر من الانغلاق الفكري في مختلف المجالات وخاصة بالاقتصاد الذي قاد هذا المعسكر الى التفكك دون ان يتحرك اي شيوعي من ملايين الاعضاء المسجلين للدفاع عن نظامهم وحزبهم. حتى جيشهم الأحمر لم يتحرك. ترك النظام يتهاوى والدولة تتفكك.

طبعا انا اميز بين طرح سياسي سليم للحركات الشيوعية وبين فشلهم بإعادة صياغة برنامجهم الفكري وليس تكرار ما بات واضحا انه سقط ولم يعد يعبر عن الواقع في عالمنا وفي مجتمعاتنا.

أخطر موضوع على الحركات الشيوعية طرحة هو التخلص من فكر ان الطبقة العاملة هي القوة التي تقف برأس التغيرات السياسية في عالمنا. يجب مراجعة برامجها واعادة صياغة عقلانية للواقع الاجتماعي السائد في عالمنا اليوم، وفهم ان القوة المحركة للمجتمعات الحديثة لا تمت لفكر الطبقة العاملة، او البروليتاريا حسب الأدبيات الماركسية، الصيغة التي تتمسك بها الحركات الشيوعية كأمر مقدس، دون فهم ان مصدر هذا التعبير جاء من الإمبراطورية الرومانية، وكانت صفة تطلق على الأشخاص الفقراء المعفيين من الضريبة. وهي ظاهرة بدأت مع المجتمع الرأسمالي لوصف الطبقة العاملة المسحوقة آنذاك والتي لم تظهر خارج أوروبا.

العجز بارز في الحركات الشيوعية، عن فهم ورؤية التغييرات العميقة بتركيبة المجتمعات الرأسمالية الحديثة، وفهم أعمق للنظام الرأسمالي في وقتنا الراهن، الذي تجاوز النظريات الشيوعية بما انجزه بتطوره الاقتصادي والاجتماعي والعلمي الذي غير كل المفاهيم العتيقة للماركسية ولما تتمسك به الحركات الشيوعية من فكر مغلق يناسب التفكير الأصولي.
اليوم يمكن القول ان الحركة الشيوعية العالمية لم تقم بتطوير فكرها بناء على التغيرات التي كانت تجري في عالمنا. لم تقم تلك الحركة بالانتباه للتغيير والتطور في مكانتها، بل ظلت تتمسك بصيغة طبقية اضحت أقرب للمهزلة مما هي صيغة فكرية سليمة. كان التمسك بفكر يصلح نسبيا لبدايات القرن العشرين، لكن التطور العاصف بالمجتمع البشري، واقصد تحديدا بتطور المجتمع الرأسمالي، قلب الكثير من الثوابت الفكرية للماركسية دون ان يجري رصدها بتركيبة المجتمع الرأسمالي الذي تحول عمليا الى مجتمع ما بعد الرأسمالية العتيقة التي عالجها ماركس في زمنه.

ان تطوير الثوابت الفكرية بناء على التغيرات العاصفة التي حدثت بالمجتمع الرأسمالي، والتي قلبت كل المفاهيم القديمة التي طرحت بالفكر الماركسي الشيوعي في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بات ملحا، وعلى راس ذلك سقوط نظرية الديالكتيك التاريخي لماركس حول الصراع الطبقي بين العمال والبرجوازية والذي سيقود الى انتصار الطبقة العاملة واستلامها السلطة وبناء النظام الاشتراكي. وما زال الرفاق ينتظرون ويعيشون بظل أوهام نظرية حان الوقت لوأدها.

أصلا لا توجد اليوم طبقة عاملة بنفس التركيبة التي صاغ ماركس نظريته حولها. اليوم من المستحيل التعامل مع فكرة الطبقة العاملة بإطار خاص بها، لأنها أضحت شريكة بكل مرافق الحياة، طبقة لم تعد طبقة عمل اسود، بل تسود اليوم بكل المؤسسات العلمية والإدارية والتعليمية والصحية بحيث بات اصطلاح طبقة عاملة اصطلاحا لا مكان له، لأن الطبقة العاملة اليوم حركة واسعة تشمل كل أطراف المجتمع المدني، وليس العمال المستغلين فقط حسب التخيل الماركسي العتيق.